تناول المدن عبر رؤى وتوجهات متعددة ، يعني أن تُضفي عليها أواصر تتشكّل عبر الوقائع التاريخية – السياسية – الثقافية- الحياتية – الشعبية..الخ , ولمقاومة اندثار شواخصها يتم التنقيب ،والحفر الموثق، في ذاكرتها لتزداد صلابة ومناعة، أرواحها و أجسادها، وهي تواجه التجاهل ،المقصود، عبر التقلبات ، التي تجهد كثيراً ،في هذا الزمن العراقي المر، للتعتيم على الذاكرة- الجمعية، لأسباب، نفعية – دينية، طائفية في غالبية توجهاتها وممارساتها. وفي محاولة لمغالبة هذا الأمر، بدأ مشروع ” كتب بصرية”، لما للبصرة من مكانة متميزة من الناحية التاريخية والآنية، فالمصادر ،الكثيرة جداً بشأنها ، تفيد بأنها كانت إمارة تابعة للدولة (الساسانية)، تسمى إمارة (ميشان) وتضم بلدتي( ميشان) و(الأبلة) وبعض الحصون. وبعد الفتح الإسلامي سنة 14 هجرية ، بني فيها مسجد ودار للإمارة ، من القصب غرب نهر الفرات. كما تُعدّ ثاني أهم محافظة في العراق لما تتمتع به من ثروة طبيعيّة (نفطيّة) هائلة تمثل القاعدة الحيويّة لاقتصاد العراق، ولموقعها الاستراتيجي المهم على الخليج العربي، فضلاً عن مكانتها السياحيّة التي عززتها آثار وأضرحة دينية ومقامات، خاصة بالأغلبية المسلمة بكل طوائفها، وكذلك الأقليات الدينية، المتعددة التي تتميز بها ، كون سكانها خليط متنوع من الأعراق، وأتباع الأديان والمذاهب، والأقليات الدينية ، ومنها “معبد لليهود”، و”كنائس متعددة”، وثمة “محفلان
للبهائية”، وأكثر من “مندى للصابئة” ، وكان:السريان الكاثوليك ،والسريان الأرثوذكس، والإنجيليين الأرمن ،واللاتين، و الكلدان،والصابئة، والبهائية ، يقيمون طقوسهم الدينية ، بمنتهى الحرية والتسامح.وقد أستثنيَّ من ذلك ” البهائية” ،بعد أن حُرمتّْ، بموجب القانون رقم 105 لسنة 1970 ، وتعرض بعض (البهائيين) فيها ، للإعدام شنقاً حتى الموت لعدم تخليهم عن معتقدهم.هذه الأقليات الدينية- العرقية،ساهمت بفعالية في الحراك الاجتماعي – السياسي- الثقافي فيها، لكنها شهدت تناقصاً كثيراً، منذ سنوات الحروب والحصار وتزايدت هجراتها، بعد 9 – 4 -2003. البصرة من المدن المهمة من الناحية العلمية- الأدبية فقد أخرجت العديد، من المدارس الفقهية – الإسلامية، و من العلماء والأدباء والفقهاء ، و من الذين لا يمكن تصور الخارطة الفكرية – الفقهية في العالمين العربي- الإسلامي دون مساهماتهم، وما تركوه من أثار. وكان يقام فيها منذ بداية السبعينات،سنوياً، مهرجان المربد، الذي يمتد تاريخه إلى” 1400″ سنة، قبل الاستحواذ عليه في الحرب العراقية- الإيرانية، إذ تم نقل فعالياته خارجها، وتم إعادته لها عام 2004 بتصميم وتخطيط “اتحاد أدباء وكتاب البصرة” الذي أعيدت هيكلته ، في مؤتمر موسع للهيأة العامة ، عقد بتاريخ 23 -5 -2003 على قاعة” نقابة المعلمين” في العشار. ” ذاكرة البصرة-1 “* ، قدم له الأستاذ الدكتور”عامر السعد” ،مدير “مركز دراسات البصرة”،الذي تفضل وأكد لنا بأن وزارة الثقافة، وبسبب الظروف المالية الراهنة قد أوقفت هذه السلسة الخاصة بالبصرة، حالياً. احتوى “ذاكرة البصرة-1 “، على:” من الذاكرة الرياضية – بقلم الرائد الرياضي ” كريم علاوي”، يتناول فيه ” أم البروم” منذ ثلاثينيات القرن المنصرم..وتحولها من مقبرة إلى “جفرة” مصارعة ،ثم حديقة
عامة ، وبعد احتلال البصرة الثاني من قبل القوات البريطانية ،عام 1941، تمّ تسوية بعض الساحات العامة، لغرض ممارسة “كرة القدم” للفرق الشعبية المنتشرة في المدينة ومنها: السراجي، وفريق أسرى الحرب الايطاليين،وفريق القوة البريطانية في الشعيبة..الخ. الأستاذ عبد الغفور النعمة أرشف لـ”الذاكرة الفنية ” في المدينة، ووجوه أنشطتها المتنوعة ” المسرحية ،و التشكيلية، والسينمائية، وفن الخط ، والموسيقى، ثم يختم ببحث مطول عن فن ” الهـيـوة”. الشاعر حسين عبد اللطيف تناول الحركة الأدبية (1941-1940 )،و(1941 -2011 )، ووثق النشاطات الأدبية- الثقافية والجهود الفردية لبعض الأدباء والكتاب، ومنهم: محمد جواد جلال ،و عبد الرزاق العائش، وعبد الرزاق حسين ،ويوسف يعقوب حداد، وإحسان وفيق السامرائي، واللواء الركن مزهر الشاوي ، وعلي عباس خفيف، وغيرهم ،ويَذكر إن أول فرع لاتحاد الأدباء في البصرة تشكل في بداية الستينات برئاسة القاص محمود عبد الوهاب،وعضوية الشعراء سعدي يوسف، وعبد الرزاق حسين، وكاظم نعمة التميمي ، والقاص مهدي عيسى الصقر، والسيدة نهوض إسماعيل،وهم أعضاء هيئته الإدارية،الأولى، وكان مقره في المكتبة المركزية ، وأقام الاتحاد فيها حفلات فنية – غنائية ، في المناسبات الوطنية، وكانت أول جلساته الأدبية الاحتفال بالشاعر “الرصافي”، ولكن الاتحاد هذا لم يدم طويلاً إذ أوصدت أبوابه ، بعد حوالي عام،على تأسيسه. ونلاحظ إن الشاعر حسين عبد اللطيف، عند تناوله المشهد الثقافي البصري- السبعيني ، من خلال توثيق إصدارات الأدباء والكتاب ، فيها، وخارجها،و كتاباتهم في الصحف والمجلات العراقية،مع الجهد الكبير الذي بذله في التوثيق ، وهو ما يحسب له، لكنه تجاهل بعضها،لأسباب غير مبررة ، ونؤشر على انه لم يتطرق إلى مقهى ” هـاتـف”، الشناشيل حالياً،
والتي تقع في منطقة(السِيف) ،وتميز فضاء هذا المقهى ، باستقطابه، لعدد كبير، من الأدباء والكتاب ، والمثقفين والسياسيين البصريين، بمختلف توجهاتهم ،و كانوا يعانون أزمات عميقة ، تسبب بها مسار الصراعات الدموية ، خلال الربع الأول من عقد الستينات؟!. كما لم يهتم بشكلٍ مناسبٍ بالنشاط الثقافي- الفني الذي انطلق من ” نادي الفنون” قبل منتصف سبعينات القرن المنصرم، وفي الأهم ” مقهى أبو مضر”، والذي تحول إلى مقرٍ دائمٍ، لعدد كبير من الأدباء والكتاب والمثقفين ، لعدم الموافقة الرسمية،على فتح فرع لـ”اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة ” ،لأسباب معروفة حينها،خاصة إذا علمنا انه قد حصلت موافقة “الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين – بغداد” ،على تأسيسه، بموجب الكتاب المؤرخ 13 /7 / 1973، والموجه إلى أستاذنا “محمود عبد الوهاب” ، من قبل سكرتير الشؤون الإدارية، “إبراهيم اليتيم” ،ويعيد الشاعر حسين عبد اللطيف عدم فتح فرع للاتحاد إلى:” تهافت بعض الأسماء وتنازعها، فانسحب محمود عبد الوهاب من المهمة”؟!. وفي الواقع أن الأسباب التي أدت إلى عدم فتح الفرع أكثر عمقاً مما ذكر، ولها علاقة وطيدة بالاصطفاف الفكري – السياسي ، الذي ميز تلك المرحلة.ولم تحصل الموافقة على فتح فرع للإتحاد إلا في منتصف الثمانينات،وقد جرت انتخابات هيئته الإداريّة في قاعة السياب – المجمع التلفزيوني، و فاز الشاعر الراحل ” كاظم نعمة التميمي” رئيساً، مع (5 )من الأعضاء، تألفت منهم الهيئة الإدارية، الثانية، لاتحاد أدباء وكتاب البصرة ، ومثل المركز العام الناقد “محمد الجزائري”، ويمر حسين عبد اللطيف مروراً عابراً على “مقهى أبو مضر”؟ّ!. وهنا لابد من التطرق ، إلى إن هذا المقهى، المسمى شعبياً بـ”الـدَكّْـة” الضئيل حجماً والشهير صيتاً، كان في فضائه الضيق مساحة، المنفتح اجتماعياً ، قد وسع كل أفكار ورؤى
وتوجهات اليسار الثقافي – السياسي – العراقي ، الماركسي تحديداً، وأطروحاته واجتهاداته المتعددة ، في تلك المرحلة، وبعضه ، كان يخوض صراعاً محتدماً عبر مواجهته ، لعنف وقسوة السلطة ، حتى أفاض” المقهى ” رؤاه باتجاه نهر(العشار) ، وأصبحت عليه ” دَكَّـتـه” التي تقع في الطرف المقابل من الشارع، الضيق،وطاولات المقهى الخشبية ، و التي تميزت، بالحوارات الساخنة، ،وكما كانت إفاضة المشاريع الأدبية – الثقافية – الفنية،والأفكار السياسية ، تناغم موجات النهر الصاخبة – الهادئة،كل ذلك كان مؤشراً، على إن” اليسار البصري- الثقافي- السياسي” قد أمتص كارثة 8 شباط 1963،وإن لم تلتئم جراحه كلياً، لكنه خرج في مواجهة علنية ، بعزيمة- صلبة ، وروحية إبداعية لم تنل منها، المجازر الدموية المروعة السابقة ، و الجروح الشخصية ، والتي خضع لها غالبية رواد المقهى ، و امتد اسم” دَكّْـتَـها” ليشمل العراق وخارجه ،ولا يمكن، تحت أي ذريعة ، تجاهل المصائر المحزنة والفاجعة لكثير من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين البصريين، من رواد تلك الـ”دَكّْـةَ”، نتيجة قسوة الأحداث ومرارتها ، بعد منتصف عام 1978 ، والبدء معهم أولاً بالترغيب ، ثم الترهيب، ومَنْ لم يستجب، أو يهادن ، خضع للقسوة المروعة ، أو للتغييب الأبدي، وبعضهم هرب من البصرة أولاً، و العراق ثانياً، بوسائل شتى وعبر مغامرات خاصة، تم التطرق لها من قبلهم في كتاباتهم، بعد أن أصبحوا خارج العراق،أوفي جبال كردستان العصية على الترويض , و لا يمكن إطلاقاً المرور بتلك” الـدّكّْـة” الإسمنتية، ونسيان،أو تجاهل، تلك التحولات والأحداث التي مرّت على عدد كبير من روادها، و نُذَكّْر، انه بعد تموز عام 1979، تغيرت الخارطة الثقافية- الفنية – الاجتماعية ، وبات من المخاطر،حتى الهمس، بأسماء الكتاب ، والشعراء ، والفنانين ، والمثقفين،من
رواد المقهى و”دَكَّته” ، و الذين عرف عنهم “الانتماء” ، و “المولاة” أو مجرد “الصداقة” مع جهة سياسية ، كانت ، خلال تلك الحقبة ((حليفة)) للنظام ،أما مَنْ نأى بنفسه بعيداً عن النشر ، أو التواجد في المهرجانات الثقافية – الأدبية، والتي كانت، بعد عام 1979 في حقيقة توجهاتها، إعلامية- دعائية، فتم تجاهله وإهماله تماماً ، وسبق أن تناولنا هذا الأمر، في سلسلة مقالات متعددة بعنوان” مقهى (الـدّْكّْـة) فضاء ثقافي ..زمن سبعيني”. كما احتوى الكتاب على ” ذاكرة التمر” – علي أبو عراق ، و”من ذاكرة الأحداث” د. عامر السعد ،و”من ذاكرة المكان” ساهم فيه د. طالب محمد الغريب ،و الكاتب إحسان وفيق السامرائي، و ” من ذاكرة العمارة ” ساهم فيه د. جنان محمد احمد ،و باسم حسين غلب،و ” منوعات من ذاكرة البصرة” ساهم فيه ” عبد السادة البصري ، كاظم فنجان الحمامي ،وعالية محمد باقر، ود. حسين مزهر حمدي. ” ذاكرة البصرة -1″ يضيء بعض ذخائرها التي تمتاز بالغنى الحضاري، المعرفي، الإبداعي، المتعدد،المتجدد.
*وزارة الثقافة – بغداد – ط1- الغلاف هاني كاظم – دار تموز للطباعة والنشر- دمشق.