إنَّ القاءَ نَظرةٌ فاحصةٌ، على الصِراعات الدّوليّة قديماً وحديثاً، تنبئ بترجيح الرأي القائل، بوجود نظريّة المؤامرة. فكلُ دوّلة لهَا مَصالِحَها الخاصّة، في مَنطِقَةِ مصالِحِها أو مَنطِقَةِ جُغرافيَّتِها السّياسيّة (الجيُوبُولِيتِيكِيّة). وبتطبيق مبدأ مكيافلي (الغَايَةُ تُبَرِرُ الوَسِيلَة)، تكون نظريّة المؤامرة حقيقة واقعة. وإنّها ليست وهماً، يُعلّقُ عليه الخائبون نتائِجَ فشَلِهِم. ومِنْ مصاديق نظريّة المؤامرة على الأمّة الإسلاميّة، ظُهور الإرهاب المُنَظَمْ على أعقابِ أحداث 11 سبتمبر 2001 .
يقول(مايكل تشوسودوفسكي ( مؤلف كتاب (حربُ أمريكا على الإرهاب): (فقد بحثتُ كثيراً حول الملابسات الجيوسياسيّة، التي أحاطت بالحادي عشر من سبتمبر، ودور أجهزة المخابرات في هذا الموضوع. كما استندتُ بشكل أساسي على حقيقة أن الخلايا الإرهابية، كتنظيم القاعدة على وجه التحديد، كانت مرتبطة دائماً بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA). فقد كانت تتلقى دعماً مستمراً من المخابرات الأمريكيّة، وأنّ الذي أمامنا الآن عمليّة طويلة تتعلق بافتعال أو صناعة عَدُوّ).
إنّ دراسة طبيعة المنطقة العربيّة، وفق نظرة سياسيّة تحليليّة، سَنجدُ أنّها تعرضّت، لعمليّة اغراقٍ فكريّ قوميّ، استمر أكثر من نصف قرن (منذ ثورة 1952 في مصر، وتبني جمال عبدالناصر للمشروع القوميّ العربيّ. حتى سقوط نظام البعث في العراق عام 2003). هذه الفترة غَرَسَت في العَقّل العربيّ العامّ الفكرة القَوميّة. مع إشاعة ثقافة تخوين الطّرف الآخر، المُختلف في الإنتماء الطائفي عن الصيغة المذهبيّة الرسميّة للسلطة، ونعَتَتهُ بالخيانة والعمالة للفُرس المجوس، وغير ذلك مِنَ النُعُوت، التي تُحِطُ من قيمة الآخر وحتّى تُحَقِره. ووظِّف التّاريخ الإسلاميّ، كمادّة تُلهمُ الأمّة العربيّة زخم انتصارات العرب. وتجريد هذا التاريخ مِنَ العَامِل الحَركِي، وهو العنّصر الفاعل المُستَمَدّ مِنَ العقيدة الإسلاميّة. (إنّ النّص الفكري لحركة البعث ليس نصّاً قوميّاً عاديّاً فقطّ، كما أنّه ليس علمانيّاً كما يطرح ذلك، بلّ أنّه نصّ ضدّ الإسلام تحديداً، لا ضدّ الدّين والفكرة الدّينيّة فقط، فإنّه محاولة لطرح الإنتماء القوميّ العربيّ، بدل الإسلام كدين، عِبْرَ إضفاءِ صفةٍ شموليّةٍ عليهّ، هي أنّ الإسلامَ ليس بديلاً، بلّ هو حالة طارئة مقارنة بالعروبة)(العالم الاسلامي في الاستراتيجيّات العالميّة المعاصرة/ د.علاء طاهر/ص 581). ومن أبرز اخفاقات مرحلة المدّ القوميّ العربيّ هي:
1. خَسِرَ العربُ الحَربَ مع إسرائيل عام 1967، واحتلت إسرائيل الجولان والضفّة الغربيّة وسيناء.
2. ظلّت إسرائيل (وهي العدو المركزي في القضيّة العربيّة)، تستهينُ بالعرب عموماً، وبالفلسطينيّين خصوصاً. فأخذت توسّع من مستوطناتها وتطرد الفلسطينيّين من أراضيهم، وتُغيّر بإرادتها طوبوغرافيّة المنطقة المحتلّة، والهويّة التاريخيّة والحضاريّة للمقدّسات الإسلاميّة.
3. الحرب العراقيّة الإيرانيّة 1980-1988 .
4. دمّرت إسرائيل المُفاعِل النَووي العراقي عام 1982 .
5. احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانيّة عام 1982 .
6. أبرم العرب، ومنهُم الفِلسطينيّين معاهدات التخاذل والإستسلام، مع الكيان الصّهيوني.
7. احتلال الكويّت من قبل القوات الصَدّاميّة عام 1990 .
8. تدمير الجيّش العراقيّ والبنى التحتية للشَعب العراقيّ، في حرب الخليج الثانية، وفي حرب أمريكا على العراق عام 2003 .
9. انتشار القواعد العسكريّة الأمريكيّة، في العديد من البلدان العربية، وابرام معاهدات الدفاع بينها وبيّن الجانب الأمريكيّ.
10. وجود العديد من سَفارات الكيان الصّهيوني، في دُول عربيّة ومنها دُوَلْ الخليج.
11. تَرَدّي الاقتصاد العربي، وتحويل المجتمع العربي إلى مجتمع استهلاكي محضّ. فأصبحت المُجتمعاتُ العربيّةِ عموماً، والخليجيّةِ خُصُوصاً، أكبر سوق مستهلكة للبضائع، التي تَنتِجُ القسمُ الأكبرُ منها شركات أمريكيّة، سواءً بالأصل أو بالنيابة.
12. دخول الرأسمال الصّهيوني، كمستثّمر في الوطن العربي، تحتَ عناوينَ ومُسَمّياتٍ مُختلفة.
13. أصبَحَت الكثيرُ مِنَ المَوارد الاقتصاديّة العربيّة، وأهمَّها النّفط والغاز، بيَدِ احتكارات الشَركات الغربيّة العملاقة، وحصّة الأسَد منها للشركات الأمريكيّة.
هذه التّوطئة للموضوع، تضعُ لنا إطاراً لبحث موضوعِ الدّعوة للطائفيّة، التي أصّحرَ بها بعضُ خُطباءِ (المَنَصّات) المأجورين. الذين لا يستحونَ مِنْ وصف الآخرين، بأنّهم أتباع المشروع الصَفَويّ في العراق، وإنّهم ذيول كسرى، وإنّ اسماعيل الصفويّ بدَّلَ دينهم. كما لا يخفى على المُتَبَصّر بالأمور، بأنَّ أمريكا وحلفاءَها في المنطقة، تَتَبنّى المشروع الطّائفي المَشبوة، للأسباب التالية:
لقدّ تبنّت الإدارة الأمريكية احتضان المشروع التكّفيري، بَعدَ دراساتٍ علميّةٍ وأكاديميّةٍ واستخباراتيّةٍ مفصّلة. وكانَت مَدرسةُ (المُجاهدين) في أفغانستان، المُختَبَر العملي الذي كشفَ للإستخباراتِ المركزيّةِ الأمريكيّةِ الـ(CIA)، الإمكانيّة الفعليّة لهذا المشروع. جاء في الصفحة 562 من كتاب تاريخ الـ(CIA) لمؤلفه (تيم واينر) مايلي:(وحدهم المُجاهدون الأفغان كانوا يُسِيْلُونَ الدَّمَ ويشّتَمُونَ النَّصر. وقد أصبحت عمليّة الـ(سي. آي. أيه) الأفغانيّة برنامجاً يكلّفُ 700 مليون دولار في السَنَةِ، وشكّلت ثمانين في المئة، مِنْ موازنة ما وراء البحار للجّهاز الخاصّ (يقصد جهاز الـ(CIA). كما وردَ في الصفحة 564 من نفس المصدر ما يلي: (في عام 1989 بدأ سعوديون يرتدون العباءآت البيّضاء، في الظّهور في عواصم الأقاليم في قرى أفغانستان المُدَمّرة، أعلنوا أنفسَهم أمراء اشتروا ولاءَ زُعماءِ القُرى، وشَرَعوا في بناء امبراطوريات صغيرة. إنّهم رُسُل قُوّة جديدة موجودة في العالم خارجاً، وسوف تُسَمّى القاعدة).
إنَّ استقواءَ المشروعُ الطائفيّ، على المشاريع الوطنيّة في العراق، (والذي يعتبر بديلاً عن المشروع القوميّ، الذي عادى الإسلامَ فكراً وعقيدةً وثقافةً. وحتى تَجرّأ على تفضيل العروبة على الإسلام). يؤسّسُ هذا المشروع، لبداية حرب دائميّة بيّن المسلمين، تحت شعارات مزيّفة، لا تَمُتُّ للإسلام بصِلَة. وبما أنّ هذا المشروع ينمو ويستَمِر، تحت إشراف الإدارة الأمريكيّة، فإنه يركّزُ على تحقيق النّتائج التّالية:
1. المشروع الطائفي يهدفُ تفّتيتَ طاقاتِ الأمّةِ، وبقائِها تحتَ سَيّطرةِ هيّمنةِ الإرادةِ الإمريكيّةِ.
2. تَعملُ الإمبرياليّةُ الأمريكيّةُ، على تسويق المشروع الطائفيّ في المَنطقة، لضمان بقائها في توتّرٍ وإرباكٍ دائمين، حتى تتمكّن مِنْ تنفيذِ استراتيجيّتها العسكريّة والأمنيّة والإقتصاديّة، في العراق والمنطقة، دون إثارة أيّة ضجّة حولها.
3. الوقوف بوجه إيران، باعتبارها القوّة المعادية لأمريكا وإسرائيل، وهي التي تمتلك تكّنولوجيا نوويّة في المنطقة. والمخاوف الأمريكيّة تزداد من إيران، كلّما تقدّمت إيران في بناء علاقاتٍ دوليّةٍ، مع مجموعة الدّول المنافسة للوجود الأمريكي، في منطقة جنوب شرق آسيا وروسيا، أو مع محور المُقاومة للوجود الصهيوني في المنطقة، المتمثّل في سوريا ومنظمّة حماس وحزب الله في لبنان.
4. عَزلُ إيران عن طريق العقوبات الاقتصاديّة الدوليّة، وبضَغطٍ من مُنظمة الطّاقة الدّوليّة، من إقامة علاقات دوليّة، مع الصّين وروسيا وكوريا الشماليّة والهند وباكستان. كي لا يتشكّل محور تشارك به إيران، يقف بوجه المصالح الأمريكيّة، في العراق والخليج العربي. وبذلك ستضّطر أمريكا في الدخول بحرب باردة جديدة، تستنزِفُ مواردها الماليّة التي تعاني أساساً، من هزّات اقتصاديّة قاسية.
5. ضَمانُ أمْن إسرائيل، مع ضَمانِ تفوّقها عسكرياً واقتصادياً في المنطقة. فبقاء إسرائيل قويّة، يعزّز البُعد الاستراتيجيّ للأمن القوميّ الأمريكي. كمَا أنّ وجود إسرائيل في المنطقة، يُقدّم الكثير من المبررات(المحبوكة)، لحُكومات دُوَل الخليج لشراء السّلاح الأمريكيّ، ذي الكُلفة الأعلى بالعالم، تحت مُبَرِّرِ توازن القوى مع إسرائيل. وهذا يَعني أنْ تُحقّقَ شركات إنتاج الأسلحة الأمريكيّة، مَزيداً من الأرباح الضّخمة. ومن المعلوم أنّ للشركات التّجاريّة الأمريكيّة الكبيرة، صَوّتاً مؤثّراً في السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة وقراراتها.
وأريد أنْ أختمَ الموضوع، بوضع موازنَة استراتيجيّة تَحسِمُ هذا النّقاش، من وجهةِ نظرٍ وطنيّةٍ أولاً، ومِنْ ثَمَّ مِنْ وِجهةِ نظَرٍ إسلاميّةٍ ثانياً، وهذا بعض الرَدّ على تَخَرُصَاتِ(خُطباء المَنَصّات المأجورين) فأقول:
أيّهما أفضل للعالم الإسلامي العربي بكلّ أطيافه، التّعاون مع إيران كقّوة إسلاميّة، وكتجربة واقعيّة، تحقّقُ نظريّةَ الاكتفاء الذّاتي، في الاقتصاد والتّكنولوجيا النوويّة، والصّناعات الثّقيلة والخفيفة. أمّ البقاءُ نائماً في أحضانِ المشاريع الأمريكيّة والصهيونيّة، التي ترعاها السَعوديّة وقطر ودُول خليجيّة أخرى، والتي مِنْ مُتبنّياتِها المركزيّة إبقائنا تحتَ سيطرة تبعيّتها، السّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة؟.
أليسَ أفضل للمسلمين العرب، أنْ يكونَ لهم كيانٌ قويّ، يقفُ بوجهِ الهيمنَةِ الأمريكيّةِ وصنيعتها إسرائيل؟. أمّ الأفضلُ للمسلمينَ العرب بقائهم، تحتَ رحمةِ المصالح الأمريكيّةِ والصّهيونيّةِ. وخير مثال على ذلك ما قامت به أمريكا مِن دَمار في العراق، عندما تآمرت مع نظام صدّام، تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدّمار الشّامل، وبالتّالي حرب تحرير العراق؟.
لذا أقولُ لأصحاب المشاريعِ الطائفيّة، الذين تَمَثّلَت أصواتهم في نِداءآت، من أطلق على نفسه لقب (النذير العريان)، في جمعة (العراق أو المالكي) بمحافظة الأنبار، والتي صادفت يوم 22/2/2013. هذا الشّخص الذي لمّ يخجل، من العمامة التي يضعها على رأسه نفاقاً ورياءً، عندما خاطب أمريكا باسلوب المحذّر، بأنّ مصالحَهُم وقواعدَهُم العسكريّة ومصالحهم التجارية، تحت رحمة إيران.
ولعمري مِنْ شهادة تثبتُ أنّ إيرانَ عدوّة لأمريكا والصّهيونيّة، وكفاها بذلك فخراً. وكفى ذلاً للأنظمة الخليّجيّة والعربيّة، التي تضع ثرواتها الطبيعيّة، تحت تصرف المشروع الأمريكي والصّهيوني، الذي مِنْ أهدافه المركزيّة، تدميرِ الإسلامِ عقيدةً وثقافةً وفكراً وسلوكاً، وتدمير المسلمين كأصحاب قضيّة، كلّ ذلك بأموال المسلمين وعلى أيادِ المسلمين أيضاً. يقول الدكتور مصطفى محمود في كتابه (الاسلام السّياسي ج/3 ص36) مايلي:(هل تتحول أصوليّة هذا الزمان، إلى فتنةٍ كبرى تأكلُ اولادَها، وتدفعُ بالمُسلمِ في مواجهة المُسلمِ، في تَصارُعٍ وتقاتُلٍ وتناحُرٍ لا يبقي ولا يَذَر. أنْ نسيرَ بالفعلِ إلى هذا المنحدر؟. إنّ كلمةَ الأصوليّة، تحمل في إسمها استعلاء أصحابها وتكبّرهم، وإنّهم وحدَهُم المتحدّثون بإسم الحقّ، وإنّهم خُلفاء الله ووكلاؤه في الأرض. كما أنّها تحملُ في معناها إتّهام الآخرين بالإنحراف والمروق والكُفْر).
[email protected]