23 ديسمبر، 2024 2:00 ص

ديوان “إكسير الطفوف” للأعرجي: قراءة انثروبولوجية

ديوان “إكسير الطفوف” للأعرجي: قراءة انثروبولوجية

عطف علينا- كعادته- مسرعا، يحمل في جعبته بضعة دواوين شعرية، تتصدرها عنوانات مختلفة، لكن ينظم حباتها خيط الحسين تراجيديا كربلاء؛ يشع على متنها اسم: محمد جواد السيد زين العابدين الأعرجي (1950-…)، الشاعر الذي وهب منظومة أحاسيسه وتصوراته للحسين ومحراب شهادته، حتى رسم في خضم عنايته هويته الشعرية، فهو يقول في مقطوعة له:
هاكَ صوتًا من ضميري هو في ذاتي مصيري
فالحسين السبطُ أضحى مالكا كل شعوري
على الرغم من أنه نظم الشعر منذ نعومة أظفاره، إلا أنه يعد من شعراء الثمانينات في جماعة الأدب الحسيني، فأضحى مكثرا من ذوي القصيدة الطويلة، وبلغ أوْجَه في التسعينات، إذ أسس “فرقة الأبرار الأدبية الحسينية”، ليقوم الإنشاد الديني والابتهالات بدل الغناء في مواسم الفرح والأعراس والولادات.
نذر الشاعر كلماته وكل ما يصدر عن مخياله من تجليات شعرية، نذرها للحسين وقضيته الكبرى، حتى عد من المبرزين في جماعة الادب الحسيني، لم تتوقف قريحته في نظم الشعر الشعبي الذي غلب عليه، بل له نظم في الفصيح، ومنه قصيدة في مصرع سفير الحسين مسلم بن عقيل، مطلعها:
بطل العقيدة فُزْ بها عنوانا أكرمْ بفردٍ جبَّن الشجعانا
طفقت إصدارات الشاعر في الشان الحسيني تترى منذ عام 2009، لتثري خزانة مكتبة الأدب الحسيني، فقد صدر له: “عبير الزيارات – هكذا الحسين” مجموعة شعرية؛ “ديوان نفحات الأبرار للمواليد والاعراس”؛ “ديوان دموع ودماء في مراثي شهداء كربلاء”؛ “مصحف عاشوراء في مراثي شهداء كربلاء”؛ “هدير القوافي”؛ و “ديوان اكسير الطفوف”.
الديوان “إكسير الطفوف” جاء يربو على 250 صفحة، يشتمل على ألوان الشعر الشعبي: القصيدة، الأبوذية، الموال؛ والقصيدة تغلب عليه، فيه 48 قصيدة، مقسمة على الأوزان الآتية: الموشح 28 قصيدة، العگيلي 6 قصائد، الطويل قصيدة واحدة، الأندلسي 6 قصائد، والبقية على أوزان مختلفة. أما الأبوذية فتربو على 160 أبوذية، والموال عدده 18 موالا.
“إكسير الطفوف” عنوان مختصر، تتجلى قوته اللفظية والمعنوية والرمزية في دفتيه المفتاحيين:
– الإكسير: عقار أسطوري، يمنح الشعور الأبدي بتجدد الحياة، وفي مجال المعرفة ملاك الأمر وكنهه المتنامي النتاج.
– الطُّفُوف: جمعُ طَفّ، وَهُوَ سَاحِل البَحْر وَجَانِبُ البرِّ. [غير انَّها ارتبطت بالحسين وموقع مقتله قبل واقعة كربلاء، فقد وردت في] حَدِيثُ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ: «أَنَّهُ يُقْتَل بالطَّفِّ»؛ سُمّي بِهِ لِأَنَّهُ طَرَف البرِّ ممَّا َيلي الفُرَات، وَكَانَتْ تَجْري يَوْمَئِذٍ قَرِيبًا مِنْهُ. (النهاية في غريب الحديث 3/ 129)
والطفوف تجمع كل ناقصة في معيار السلامة، وكل غروب يحث الشروق، وكل شاطئ يثب عليه فارس الآلهة من سفح الطور، وكل مقتل يجدد الحياة، وكل اسطورة ترسم الصراع بين الألم والأمل.
لا مناص إذا اجتمع الإكسير والطفوف على منصة العنوان، فإنه يجسد معنى الانكسار بين الواقع والمخيال، كمن يثقب وجه الماء بإبرة فتنكسر، هل هو انكسار الباصرة او البصيرة، لذا تشرئب الاعناق الى بئر المعرفة، وحجر الزاوية إكسير الحياة التراجيدية.
تتصدر ديباجة الديوان قصيدة “ملحمة الوفاء”، في ستة وستين بيتا؛ العنوان كلمتان تغلفهما الرمزية، ترتفع في حضورهما الذهني عقيرة التساؤل عن “الملحمة” و”الوفاء”، ولمن الملحمة؟ ولمن الوفاء؟ وهل تمازجا في بودقة إنسان بعينه، ولماذا؟ وكيف؟
– الملحمة قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث الجسام والصور البطولية المفعمة بمسحة الميثيولوجيا والاساطير، فهي تشكل خارطة سلوكية يحتذى بها في مسار الإنسانية على سياق الشعوب والجماعات، يطيب التمثل لتحقيقها، أو على الأقل، لقيافتها وترسيمها ثقافيا. فالملحمة ملاكها المأساة على حرب، أو فاجعة خرقت منظومة القيم، وألقت في النفس الإنسانية الحزن التراجيدي. فالملحمة البابلية ومقتل الإله سين، وحزن عشتار الذي ظل يجوب النفس البشرية منذ أربعة آلاف سنة؛ والملحمة اليونانية “أوديسة وإلياذة” لهوميروس، التي تحكي حرب طروادة لعشرين عاما؛ ومن ثم ملحمة الشرق الملحمة الحسينية التي ظلت تكرس الشعور بالاسى العميق في الوجدان الإسلامي، بل في الضمير الإنساني.
– الوفاء من لعقات الأناسة (الانثروبولوجيا) وعوالي القيم، يأتي استجابة لموقف نابض بإدامة الوجود في مبانيه التاريخية ومعانيه الاجتماعية؛ إنه صوت هامس لإمراة توصي أبناءها الأربعة، وجرس الوصية بعمر النخلة يظل يافعا في حياتها يانعا مزهرا في مماتها؛ تحملة تباشير الالفاظ في مطلع القصيدة ” اسمع أم الوفه اتوصِّي ابدورها”، صوت مستمر يدعو للإنصات والتأمل، للأم التي هي سنام الطبيعة، وحاضنة الحياة، هكذا وظفتها أبجدية الديانات والمعتقدات القديمة؛ لإمرأة اكتسبت كنية ” أم الوفه”، حينها يلمح المخيال إنها “أم البنين” التي غلبت كنيتها اسمها “فاطمة بنت حزام الكُلَّابيَّة”، وهذه الغلبة ملتسقة بدلالة الوصية وقصدية “الوفاء”؛ بيد أن هذه المساحة من الوفاء لزوج أمير المؤ منين الثانية، التي حولت تقليد الغيرة من الزوج الأولى الشامخة في صيتها، الى قيمة عطاء؛ إذاً، بماذا تستشعر “أم البنين” لبيت النبوة؟ وما المواقف التي نسجت عليها عش الوفاء لعلي وسبطي الرسالة وزينب سيدة البيت العلويّ؟ حتى توصي فلذات كبدها بالمجاهدة دون الحسين حتى الشهادة، وهو الذي جاء به مسرعا الشطر الثاني “موتوا دون حسين قدموا انحورها”.
تفعيلة الموشح “فاعلاتن فاعلاتن فاعلات” في الشعر الشعبي، وهي بحر الرمل في القريض؛ هذه التفعيلة مفعمة بجرس موسيقي يتساوق مع ترسيمة الحزن، وأهات النفس في صدور الحروف الحلقية، وأن الوزن يوفر الإيقاع والموسيقى.
استهل الشاعر ديوانه بقصيدة الموشح، كنافلة للتأهيل النفسي في الشروع في تراجيديا الحزن، ينسج فرشته، ويجلل حيطان الموكب بالسواد، فوشاح المكان العاشورائي تتكرس فيه ملامح القصدية التعبيرية للزمان في ألم حوادثه المريرة.
يعدُّ بحر الرمل وتفعيلته في الشعر الحر من أشهر البحور، وأكثرها شيوعًا في الشعر الحر مقارنة مع غيره من البحور، ولعل ها المعنى يتحصل في الشعر الشعبي، لذلك فهو من بحور الشعر النقيَّة الصافية، يمتاز بسلاسته وسهولته، فتفعيلة “فاعلاتن” وهي تفعيلةُ في الشعر الحر تمنحُ الشاعر حريَّة كبيرة في إدارة الكلمة وسياقاتها، وتكرار التفعيلات خاصةً بما يطرأ عليها من جوازات كثيرة يمكن للشاعر أن يستغلَّها لتشكيل نصِّه الشعريّ وفق ما تُملي عليه قريحته متحكّمًا بصياغة النص.
القصيدة المنبرية تتزين في الغالب بعنصر الحوار، الذي يضطلع بمهمة سرد الاحداث، او توصيف التواصل النفسي التراجيدي لدى مجتمع المأساة، وتوظيف الحض النفسي على إيقاع الشجاعة والثبات، أو توحيد الكلمة والوقفة لمجتمع الواقعة، نحو “صيروا چف اضلوع روح أو صيروا عين”؛ هنا نلحظ حوارية بين أم البنين وأبنائها، وهي تحثهم على بذل الغالي النفيس، ولا أغلى من النفس أن تقدم قربانا للحسين من لدن أخوانه
صاحت أم الوفه حيكم من شبول إنتو من ذاك الأسد فحل الفحول
ﮔالوا عد عيناچ نوفيچ الرضاع
تعنى القصيدة بتوصيف مقدم الحسين الى كربلاء وتزاحم الاضداد عليه، وهو الذي قيل فيه: ما رأينا مكثورًا أجرأ مقدمًا منه، ومقتله واهل بيته وأصحابه، وموقف زينب عقيلة الطالبيين في غضون المعركة وبعدها تجسده الحوارية بين أم البنين وأولادها، ليصل الى المحصلة النهائية ألا وهي إثبات وفاء أم البنين لأهل بيت النبوة ولا سيما الزهراء الشفيعة في يوم الحشر.
وأخيرا يحاكي الموالين للحسين من مجتمع الشاعر ويوصفهم بـ “النصير، الظهير”
إنتو يا شيعه ابعزاكم چالنصير
المشرعه لرماحها او صرتوا الظهير
الشاعر في الملحمة، مثل غيرها من القصائد العديدة، يؤكد تكريس نظم القصيدة الطويلة، وتبيان أسلوبه السردي الوصفي التاريخي، الذي يتخلله الحوار كفن قصصي؛ بيد أنّ الشاعر اعتاد على أن يكون الخطيب المفوه في المواكب، وهذا التأهيل يفرض أسلوب المباشرة في الخطاب، لما فيه من تفعيل استجابة المتلقي، ومحضها في إلهاب مشاعره. في حين قلّما يلجأ الى توظيف المعالم الفنية للقصيدة الشعرية، مثل: الصورة، الرمز، والملامح البلاغية: البيان والمعاني.
في الغالب، يبدأ قصيدته في توصيف تعظيمي للممدوح من أهل البيت، في شجاعته وبأسه وقوته وهو يواجه الأعداء، ثم يرسم لوحة لمجتمعه وما يحيط به من خذلان وخيانة، أو جلادة أبطال وقفوا رافعين راية البسالة، وفي المحصلة يحاول تجسيم النهاية المتمثلة بالشهادة.
غير أن الشاعر في قصيدة نادرة هي “نشيد الرضيع” يحاكي أحاسيسه وأشجانه في حلم ليلة تعسر فيها النوم، ورؤيا داهمته بتصور عبد الله الرضيع يحمله الحسين وأمه تحنو عليه ونشيجها المهموس، والشاعر يقف ثالثا جامد الطرف أمام محاولة الحسين، وهو “ينظر إليَّ حانياً قامته الشريفة نحوي بعض الشيء، وكأنه يريد أن يسلمني ذلك الطفل النائم على ذراعيه، قائلاً لي: أتِمْ إنشادَك في عبد الله”. هذا الواعز الحسيني يفرض على الشاعر تكملة القصيدة التي مطلعها:
إورود إو تذبل ابغصن البساتين؟!
يعبد الله الورد مو توَّه فتَّح
لا مندوحة أن هذه الميثولوجيا المخيالية هي مدعاة لتحريك عجلة التصورات والرؤى والأشجان بعيدا عن المباشرة في الخطاب المنبري، فيها يلتهب سنا الخيال، وتألق المسارات الفنية مضاءة بالصور التي ينعكس معينها على رصيف المعرفة وذهن القارئ.
هنا نلحظ إن الصور تتماثل بين الجدة والرتابة في المقاطع الآتية: “الليالي ابهجرك إعْليَّ تحزمن” “سهم الضيم چن طاش ابخيالي” “سهام الموت لمشاهگك فطمن” “إو دمع عيني إبچفوف الوفه تمسح” “شلون الألم يحسين او تلمه” “ضيم الطف إبكل حرگه رشفته”. فرشفة الضيم، ولمّ الألم، وفطم الشهيق، وتحزم الليالي، كانت من الصور الشعرية الرائعة او كادت.
مهما يكن من أمر، فالشاعر ملأ دنياه الشعرية بأشجانه وأحاسيسه من خلال أدوات عدة، بين المباشرة والتصور في غضون توظيف التاريخ والمخيال للوصول جادا الى إشباع حاجة الحزن في جوى الشاعر، والتراجيديا في النفس الاجتماعي للمتلقين، وكم هو جميل أن يعالج طائلة الألم بنسمات الأمل ومقاربات الإصلاح التي اضطلع بها الإمام الحسين في مقدمه.