تفتح تركيا صفحة جديدة من تاريخها السياسي مع إعادة انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان لعهدة ثالثة. ورغم فوزه المريح بـ52,2 بالمئة من الأصوات، إلا أنه بات يواجه تحديات جديدة، أبرزها إعادة وضع الاقتصاد على سكة النمو فضلا عن ترحيل اللاجئين السوريين إلى مناطق آمنة بسوريا, فاز رجب طيب أردوغان في واحدة من أكثر الانتخابات أهمية في تاريخ تركيا الحديث الممتد على مدار مئة عام، وهو محاط بكثير من التحديات التي تتعلق بالاقتصاد والسياسة الخارجية وطبيعة الديمقراطية التركية, وسيواصل حكمه الذي بدأه قبل عقدين, وقال أردوغان السياسي المخضرم البالغ من العمر 69 عاما والذي فاز بالعديد من الانتخابات في السابق، إنه يحترم الديمقراطية وينفي أي نزوع للحكم السلطوي. وفي مؤشر على أن أردوغان لا يزال يتمتع بشعبيته ,مشيرا انه سيقود بلاده لخمس سنوات قادمة وستكون تركيا دولة رائدة عالميا , علما ان الانتخابات جاءت بعد ثلاثة أشهر من زلازل مدمرة ضربت جنوب شرق تركيا وأودت بحياة أكثر من 50 ألف شخص. وقد عبر كثيرون في الأقاليم المتضررة عن غضبهم من البطء الذي اتسم به تعامل الحكومة مع الكارثة في بدايتها، إلا أنه لا يوجد دليل يذكر علىأن الكارثة أثرت على اتجاهات تصويت الناخبين
وتبدو هذه الانتخابات ذات أهمية كبيرة، على المستويين الداخلي والدولي، فعلى المستوى الداخلي، تبرز قضية تراجع الأوضاع الاقتصادية في تركيا، على مدى السنوات الخمس الأخيرة، كعامل مهم، وهي القضية التي استغلتها المعارضة التركية استغلالا واسعا، وحملت المسؤولية عنها، للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحزبه الحاكم (العدالة والتنمية) ,على المستوى الأيديولوجي، يعتبر معارضو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن الرجل بدأ يتحول إلى الحكم الأحادي، خاصة بعد المحاولة الانقلابية التي شهدتها البلاد عام 2016، عبر حملة تطهير شاملة، في سلك وظائف الدولة، والأمن والجيش، وعبر التضييقيات على المجتمع المدني والصحفيين , أما على المستوى الدولي، فإن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة لاتخفي رغبتها، في رحيل أردوغان وحزبه عن السلطة، إذ تراه حجر عثرة أمام مزيد من التعاون من قبل تركيا، خاصة مع حلف الناتو الذي تعد أنقرة عضوا مهما به، وترى القوى الغربية، أن فوز المعارضة بزعامة كليجدار، ستسمح لتركيا، بمزيد من الانخراط في تأييد الدول الغربية وحلف الناتو، في العديد من النزاعات الدائرة حاليا، وعلى رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو التأييد الذي تفتقره الولايات المتحدة وحلفاؤها، من الحليف التركي في هذا الوقت ,على الجانب الآخر، فإن روسيا تبدو راغبة، في استمرار أردوغان وحزبه في السلطة، وترى أن العلاقات بين البلدين في عهد أردوغان، دفعت إلى درجات قصوى، في مجالات اقتصادية وأمنية متعددة، وهو تخشى فوز المعارضة، وتعتبر أنه يعني خسارتها لحليف قوي، سيغير بوصلة البلاد، باتجاه التحالف مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة
أردوغان لم يخف دعمه للعقيدة الإسلامية، التي ترفض تماما، برؤية الغرب ، الحريات الليبرالية التي يتبناها الغرب. وبدا ذلك جليا خلال حملته لإعادة انتخابه، التي بدأها باستحضار الغزو العثماني للإمبراطورية البيزنطية عام 1453,, وفي مثل هذه الظروف، أي بعد فوز أردوغان في الانتخابات، يرون أن طموحات تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي لن تتحقق في المستقبل القريب، ما يجعل بروكسل تندم على ذلك اليوم الذي تصورت فيه أن عضوية تركيا في الكتلة اقتراح قابل للتطبيق, لا تزال تركيا تطمح بعضوية الاتحاد الأوروبي، إذ أبلغ الزعيم التركي اجتماعا لسفراء الاتحاد الأوروبي في العاصمة التركية العام الماضي أن عضوية الاتحاد الأوروبي “تظل أولويتنا الاستراتيجية ،
طالما أردوغان موجود في السلطة، فإن فرص تركيا في الانضمام إلى الكتلة، هي تقريبا، نفس فرص روسيا في ظل حكم فلاديمير بوتين ,و تشرح البارونة كاثرين أشتون، مسؤولة السياسة الخارجية السابقة في الاتحاد الأوروبي: “لقد اعتدت وصف تركيا بأنها إحدى دولنا المتأرجحة , وان ما يحدث في تركيا فيما يتعلق بديمقراطيتها ومن حيث مكانتها في المنطقة له تأثير كبير على أوروبا وآسيا، وبالطبع على جميع القضايا العالمية التي نتصدى لها جميعا. لذا فإنها مهمة حقا, ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، عززت تركيا مكانتها كوسيط دبلوماسي ذي قيمة. لقد سهلت بعض المحادثات المبكرة بين الدولتين المتحاربتين، لكنها حققت تقدما حقيقيا فقط عندما تفاوضت بشأن صفقة الحبوب الحاسمة، التي أبقت الصادرات الأوكرانية تتدفق عبر البحر الأسود الملغوم بكثافة.ويفخر الرئيس أردوغان أيضا بخطوط الاتصال التي يبقيها مفتوحة مع الجميع، من رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الرئيسين الروسيين فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ.
قول إيفرين بالتا، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة أوزيغين في اسطنبول: “لطالما كان لدى تركيا هذا الطموح في أن تكون جزءا من الغرب, يمكن معرفة الأهمية الاستراتيجية العالمية لتركيا – التي زادت بشكل كبير بعد الحرب الأوكرانية – من خلال رد فعل مجموعة من قادة العالم الذين سارعوا إلى تهنئة رجب طيب أردوغان بفوزه في الانتخابات,مع رفض أردوغان نبذ الكرملين بعد الغزو الشامل لأوكرانيا، حتى مع فرض حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عقوبات على موسكو وخفض اعتماد هؤلاء الحلفاء في مجال الطاقة على روسيا, ويأمل الغرب في أن تكون الحالة المزرية للاقتصاد التركي – واحتمال أن يضطر أردوغان إلى التركيز على استقرار الأوضاع المالية وجذب الاستثمار الأجنبي – نقطة ضعف للضغط عليه من أجل موافقته على انضمام السويد إلى الناتو مقابل ذلك.وما زالت تركيا والمجر الدولتين الوحيدتين في الناتو اللتين تمنعان عضوية ستوكهولم.ويشعر الرئيس ماكرون بالقلق بشأن الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي، ويأمل في الحصول على تأكيدات من الرئيس أردوغان في أقرب وقت ممكن.وخلال أزمة الهجرة في عام 2015، بدأ أكثر من مليون لاجئ وطالب لجوء – معظمهم من سوريا -رحلة محفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط لبلوغ الاتحاد الأوروبي على متن قوارب مهربي البشر.,
الاتحاد الأوروبي يرى ان تركيا بأنها “ضعيفة ومحطمة اقتصاديا”، وتعاني من تضخم متصاعد مع تراجع قيمة العملة المحلية. وأشارت إلى تداعيات زلزال فبراير/شباط المدمر الذي قتل عشرات الآلاف , وينظر للقضاء انه “مدمر ومضطهد بعد عمليات التطهير التي قام بها أردوغان” ، وإن معاداة الليبرالية تتصاعد وليس أمام البلاد أي فرصة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أي وقت قريب , كما يرى ان الانتصارات السياسية الخارجية لآردوغان تتناسب مع قاعدته الشعبية، لكنها لا تحقق الاستقرار والازدهار والنمو على المستوى المحلي
سبب مهم آخر لاعتبار هذه الانتخابات «تاريخية» هو أن التاريخ التركيّ حاضر فيها بقوة، فالناخبون الأتراك، الذين صوّتوا لاردوغان وكليتشدار أوغلو، صوّتوا أيضا على رؤيتين، تستند الأولى إلى احتفاء بالتاريخ العثمانيّ ودلالاته السياسية التي تصبو إلى حضور تركيا مجددا في التاريخ كقوة عالمية، وتستند الثانية أيضا إلى احتفاء بتاريخ كمال مصطفى (أتاتورك) الذي يعتبر صانع الجمهورية التركية الحديثة، والشخص المسؤول عن إلغاء الخلافة، والمدافع الشديد عن نسخة صلبة من العلمانية، وعن التخلّي عن الثقافة الإسلامية، غير أن هذا التاريخ، في ذاكرة كثير من الأتراك، يرتبط أيضا بتعسّف هائل في التعامل مع الماضي والهوية والدين، كما بتدخّل الجيش والانقلابات العسكرية والبؤس الكبير الذي عاشته تركيا قبل عهد اردوغان , هناك هموم كبرى أمام تركيا عليها أن تتجاوزها. العودة بالاقتصاد التركي إلى النقطة التي سبقت انحدار الليرة واشتعال التضخم تبدو صعبة جدا على المدى المنظور، وليست ممكنة ضمن المعطيات العالمية الراهنة. لا الدول الإقليمية المتمكنة ماليا، بما فيها قطر، بمستعدة لتوفير المال بلا شروط أو سقف لتركيا، ولا البنوك الغربية براغبة بالضخ في الثقب الأسود المالي التركي الذي يبدو بلا قاع، سواء بالقدرة على تسديد الديون السابقة أو بتفعيل سياسات اقتصادية ومالية متوازنة تعيد بعض الاستقرار لسوق تركه أردوغان لصهره براءت البيرق لسنوات يجرب فيه نظريات ابتدعها الرئيس التركي بعيدا عن كل منطق اقتصادي، عن أسعار الفائدة والتنمية ومحاربة التضخم, وتركيا ما بعد الانتخابات تحتاج إلى “تصفير المشاكل”، مع نفسها ومع جيرانها، مع الاقتصاد والبنوك المحلية والعالمية، وأن تتبنى منطق التعايش مع عالم غير مستعد لتقبل منطق المغامرات والإمبراطوريات،