ما حدث في مجلس النواب مؤخرا، أثناء جلسة التصويت على قانون (سانت ليغو)، والطريقة التي استخدمها رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، لطرد النواب المعترضين على القانون، والاعتداء عليهم بالضرب العلني وعلى شاشات التلفزيون صورة مكررة أخرى للنظام التعسفي الديكتاتوري التسلطي القائم في العراق، والذي ما زال الأمريكيون والأوربيون، رغم كل فضائحه الجلجلة، يلصقون به صفة الديمقراطية، وهم كاذبون.
ففي لعبة متقنة تمكنت أحزاب البيت الشيعي وأتباعها من سنة الحكومة وكُردها من تمرير القانون، متحدية إرادة الشعب العراقي الذي ثار عليهم بسببه، وقدم أبناؤه التشرينيون كوكبة من شهدائهم في العام 2019 حتى أجبروها على تغييره، وتسببوا في خسارتها وفوز الصدريين والمستقلين.
تصوروا، إن برلماماً نصفُ أعضائه كانوا خاسرين في الانتخاباتالأخيرة ثم تطوع مقتدى الصدر فأهداهم مقاعدَ تياره الثلاثة والسبعين، بكل وقاحة وقلة خوف وحياء، يصدر قوانين، ويعدل قوانين، تحت سمع الإدارة الأمريكية وبصرها، ثم تشيد بهذه الديمقراطية التي يندر عليها العراقيون ويصفونها بأنه ديمقراطية خمس نجوم..
لقد صوتوا للقانون المرفوض، شعبيا، سلفا، رغم أن المرجعية الدينية التي بنى قادةُ أحزاب البيت الشيعي أمجادهم بفتاواها، ثم ظلوا يتاجرون باسمها، ويدّعون الوصل بها، عند كل ضائقة، رفضت هذا النظام الانتخابي، وبالإسم، وصراحة وعلنا وعلى رؤوس الأشهاد، وطلبت عدم التصويت عليه.
طبعا، إن ما حدث أخيرا في مجلس النواب العراقي لم يكن مستبعدا ولا مستغربا. ومن كان يحلم بأن يجد برلمانَ نوري المالكي وقيس الخزعلي وهادي العامري وعمار الحكيم ومحمد الحلبوسي وبافل طالباني ومسعود برزاني بغير هذه الأخلاق، وبغير هذا السلوك إما جاهل أو مخدوع أو منتفع من واحد من مراكز القوة والسلاح والنفوذ.
فالديمقراطية التي يسمونها ديمقراطية في العراق ليست سوى فوضى زرعها الحاكم المدني بول بريمر، عامدا متعمدا، ثم باركتها إيران والمرجعية، وتمسك بها الشركاء الكبار في نظام المحاصصة.
والحقيقة، وبالوثائق والبيانات والتصريحات التي حفظها لنا التاريخ، هي أن بول بريمر جاء إلى العراق وهو محمل بقرارات وسياسات مُعلبة، مُسبَّقا، من وشنطن، مأمورا بأن يظهر نفسه الجاهلَ بأمور العراق، وبتكوين شعبه وتاريخه، والمحتاج لنصح حلفائه العراقيين، ومشورة المرجعية، وسفارة الولي الفقيه، لكي يجعل أوامره وقراراته التخريبية تبدو كأنها قرارات طلبها وأصر عليها السياسيون العراقيون الذين التفوا من حوله كالمتسولين.
نعم إنه أساس جميع الخراب الذي حل بالوطن وأهله. هذا صحيح. ولكنه لم يكن ليوفق في فعل ما فعله بالعراق والمنطقة لو لم يجد عراقيين جاهزين لبيع أنفسهم من أجل مكاسب شخصية وأسرية وحزبية وطائفية وعنصرية، حتى لو كان ثمنها خراب البصرة والناصرية وبغداد وتكريت والموصل وكركوك والسليمانية وأربيل.
ومن غباء القادة العراقيين السبعة، عبد العزيز الحكيم، أحمد الجلبي، محمد بحر العلوم، أياد علاوي، جلال الطالباني، مسعود البرزاني وموفق الربيعي أنهم كانوا يتوهمون بأنهم يخدعونه ويستدرجونه لاتخاذ القرارات التي تناسبهم وتخدم أحزابهم وأسرهم، ويعتقدون بأنهم هم الذين أقنعوه بأن الشعب العراقي مكون من طائفة شيعية محرومة من الحكم أربعة عشر قرنا، وشعبٍ كردي مظلوم ومسحوق ومضروب بالكيمياوي من قبل حكومات القومية العربية المتعاقبة، ومن أقلية سنية صغيرة هامشية متسلطة ظلت تتحكم بالأغلبية عشرات السنين.
ومن هذه المبادلة الشيطانية تأسست هذه الديمقراطية المغشوشة التي ما زال بول بريمر يفخر بأنه هو الذي أنشأها أول مرة.
فقد سلمهم الجمل بما حمل، حتى وهو عارف أن قادة أحزاب البيت الشيعي لا يمثلون الشيعة، وقادة الحزبين الكرديين، (الديمقراطي) الكردستاني والاتحاد (الوطني) الكردستاني آخر من يهمه حاضر المواطن الكردي ومستقبل أجياله القادمة، وعدنان الباجه جي وغازي الياور ونصير الجاردرجي ليسوا في عير الطائفة السنية ولا في نفيرها.
لذلك، وبسبب ذلك، فقد أعطى من لا يستحق ما لا يستحق، ووضع دماء العراقيين وأموالهم وكراماتهم ومصير دولتهم في أيدي شلة من الانتهازيين المحترفين الباحثين عن الكسب السريع والزعامة العاجلة الفارغة، وقد شخَّصهم، واحدا واحدا، في كتاب مذكراته الشهير.
ولذلك، ومن أول يوم وصوله إلى العراق وحتى خروجه منه، كان بول بريمر وقادة عساكره المجحفلة يرون هذا القائد الحرامي وهو يسطو على بنك، وذلك الانتهازي وهو يحتل بناية من بنايات الدولة أو قصرا من قصور النظام السابق، وذلك العميل لهذه الدولة المجاورة أو تلك وهو يؤسس المليشيات، ويستورد المقاتلين والسلاح والذخيرة والمدربين، فلا يبصرون ولا يسمعون، ولا يتكلمون.
وها هو العراق، بعد عشرين سنة من ديمقراطية بريمر، دولة فاشلة، أمنها مُخترق، ومالها منتهب، وحالها عدم في عدم.
فبعد كل هذه السنين ما زال بلا كهرباء ولا ماء ولا دواء ولا هواء، وقادتُه الميامين يتشاتمون نهارا، ويتباوسون ليلا، ثم يعودون في صباح جديد، فيتشاتمون من جديد.
إذن فهذه هي مشكلة العراق اليوم. وبسببها، وبسبب المشاكل الأخرى المرافقة لها والنابتة على ضفافها، أصبح العراقيون، اليوم، أكثر اقتناعا بأن تحقيق حلم الدولة العراقية المهابة العاقلة العادلة لن يتحقق ما دام نوري المالكي وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر وهادي العامري ومحمد الحلبوسي ومسعود البارزاني على رأس الوليمة.
وبدون انتفاضة شعبية جديدة أعمق وأوسع وأشجع من سابقاتها تقلب الطاولة على هذا الشلة بكاملها لن يتحقق السلام ولا الأمن ولا الرخاء لهذا الشعب الذي أثقلت كاهله السنون.