22 ديسمبر، 2024 11:33 م

ديكتاتورية الأرقام إلى حشد بلا وجه

ديكتاتورية الأرقام إلى حشد بلا وجه

الإعلام التقليدي والجديد في سياق تمدد الإعلام الاجتماعي وشبكاته
تراجع الدراسة علاقة الإعلام التقليدي والجديد في سياق تمدد الإعلام الاجتماعي وشبكاته، وتبحث في خطاب النهايات لفهم وتفسير علاقتهما وجغرافية التحولات التي يعيشها المشهد الإعلامي والاتصال الدولي، وما تتطلبه الحالة الإعلامية الجديدة من فهم جديد للصحافة باعتبارها ظاهرة اجتماعية متجددة.
“لماذا لا نُسمِّي الصحافة صحافة فقط، وهي التي يمكننا أن نمارسها بمختلف الأساليب”، الرئيس التنفيذي لموقع BuzzMetrics.
تقديم: نهاية خطاب النهايات
إلى زمن ليس بالبعيد كُنَّا نتابع وبشكل متواتر شهادات وتصريحات لنخبة من الخبراء والمختصين في الشأن الإعلامي وعلم مستقبليات الاتصال بأنه مع حلول سنة 2020 أو حتى قبلها ستنتهي الصحافة الورقية. البعض ذهب إلى أن سنة 2040 هي السنة التي معها ستكون الصحافة المكتوبة قد انقرضت كليًّا. يمكن وصف مثل هذا الخطاب بخطاب النهايات:
نهاية التليفزيون ونهاية الشاشة الكبيرة.
نهاية ثقافة المكتوب ونهاية الصحافة الورقية.
نهاية الإذاعة.
نهاية الجمهور ونهاية التلقي.
إنها حالة من التَّنْجِيم الدائم وكأنَّ المسألة باتت سباقًا في قراءة الغيب. لكن علينا أمام هذا الخطاب القائم على النهايات القول بأنه حتى مع النهايات توجد دائمًا بدايات، فإلى اليوم ما زالت تُؤَسَّس صحفٌ وتُبْعَث مجلات في كل أرجاء الأرض، وتُؤَسَّس كذلك تليفزيونات وإذاعات وبأموال طائلة وبجمهور متعطش. في ذات الإطار، فإن استطلاعًا لمؤسسة ريدر ديجست أظهر أن 70% من القرَّاء الأميركيين يعتبرون قراءة الكتاب الإلكتروني مُجْهِدَةً، وأن عدد الناشرين تضاعف ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، وأن أكثر من ثلث هؤلاء يحقق نسب توزيع تتراوح بين 200 إلى 400 ألف نسخة. كما أن الجمهور المهتم بالأخبار في اتساع كبير، بل يوجد حتى من يسعى إلى شراء الأخبار إلكترونيًّا رغم فائض الأخبار المجانية التي تشهدها الشبكة. تمر السنون والعشريات وما هو باق هو حاجة الناس الدائمة إلى الصحافة من أخبار وآراء. هل يُخْفِي الخطاب القائم على النهايات خلفية تسويقية لمنتج جديد يُراد له أن يترسَّخ مكان القديم ولذلك نُسارع لعامَّة الناس تضخيمَه وقرعَ طبول نهايات القديم حتى وإن كان ما زال في القديم مزايا؟ كما أن التمسك بخطاب النهايات عجز عن تفسير الجديد الذي سيحل محلَّ القديم المنتهي، فيكفينا عناء تفسير تحولات المشهد الصحفي القول: إن الصحافة ستنتهي حتى نُفَسِّر صلابة فكرة الإعلام الجديد والإعلام الاجتماعي وشبكاته. إذن، هل يصح القول بأن خطاب النهايات لشرح الإعلام الجديد وحالات التموقع التي تعيشها الميديا هو عبارة عن مظهر من مظاهر خطاب الأيديولوجيا الذي يريد أن يستحوذ فكريًّا على مبحث الاتصال في تجلياته السوسيولوجية الجديدة وبعيدًا عن أي جهد بحثي في تتبع جغرافية كل تلك التحولات. إن خطاب النهايات تبسيط علمي وجب التذكير بمحاذيره ومن أثر تشوُّهاته الإبستيمولوجية على السرديات الكبرى في علوم الإعلام والاتصال ونحن في بداية هذا المبحث.
هل تناول موضوع العلاقة بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد هو حديث عن الإعلام والصحافة بوصفهما ظاهرة اجتماعية مُتَجَدِّدة أم حديث عن أوعية الصحافة؟ إذا ما كان الأمر يتعلق بحديث: هل الصحافة باقية أم زائلة بوجود الورقي أم الرقمي؟ فإن الجواب بسيط: إن حاجة الإنسان إلى الأخبار وتحليلها قديمة قدم الإنسان، أما أن نُنَجِّم ونتخيَّل كيف ستكون هذه الصحافة -خبرًا ورأيًا- على هيئة الورقي أم الرقمي فإننا نعتقد أن لكل فرد سبيله ولكل أمة طريقها ولكل حضارة سياقاتها؛ إذ سيعترضنا من سيستقي الأخبار من الصحف فقط وآخر من الإنترنت فقط، وآخر في الصباح من الصحف وفي المساء من الإنترنت، وآخر من التليفزيون وغيرهم من أشكال قد تكون بدائية على هيئة نواد أو مجالس قبلية أو قروية أو أسرية.
لماذا إذن عوض أن نثير سؤال: هل الصحافة الورقية باقية؟ لا نثير سؤال: هل الحاجة إلى الصحافة ما زالت قائمة أم لا؟ بالورقي أو الرَّقمي أو البردي توجد دائمًا حاجة ماسَّة إلى هذه الظاهرة الاجتماعية ووظائفها النبيلة والتي حَرِي بنا إثارة إشكالية نوعية الأخبار وموضوعيتها واستقلاليتها ومدى خدمتها للصالح العام عوض التنجيم ببقاء الصحف الورقية من عدمه . أبعد من ذلك، لم يعد الحديث، ونحن في بداية سنة 2017، عن تقلص حضور الصحافة المكتوبة بل إن كل الإحصائيات في أغلب الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية وحتى منها دول عربية تؤكد أن الفئة العمرية 18-35 سنة تستمد أخبارها من شبكة الإنترنت بعد أن كانت إلى زمن ليس ببعيد تعتمد على التليفزيون. أبعد من كل ما ذُكر، هو أن النسبة الغالبة لهذه الفئة والتي باتت لا تعتمد لا على الصحف ولا على التليفزيون لمتابعة الأخبار أصبحت تعتمد على الهاتف الجوال الذكي المرتبط على مدار الساعة بمنصات شبكات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيس لتصفح الأخبار التي تضخها وسائل الإعلام التقليدية. من كان قد تنبَّأ بكل هذه التحولات وبكل هذه الثورة التي بات يعيشها المشهد الإعلامي والاتصالي الدولي؟
بعد عرض هذا التقديم نقول: إن الفكرة من وراء دراسة ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعي في علاقتها بالإعلام التقليدي تعود إلى تتبع كيف استطاعت هذه الأدوات الاتصالية أن تكسب كل يوم مواقع جديدة في حياة الأفراد والمؤسسات كانت غائبة عن الإعلام التقليدي. كما علينا أيضًا إثارة كيف غيَّرت وسائل التواصل الاجتماعي علاقتنا بوسائل الإعلام؟ كما أن هذه الشبكات قد غيَّرت أيضًا ظروف عمل الصحفيين وكيف عليهم أن يتأقلموا مع كل هذه التطورات الهائلة التي باتت تعيشها مهنة الصحافة؟ إن مراجعة حدود شبكات التواصل الاجتماعي ضرورية في علاقتنا بوسائل الإعلام كمواطنين وكصحفيين وكمسؤولين عن الشأن العام أيضًا.
هكذا على الجميع أن يعي أن خطاب النهايات في علاقته بالميديا قد انتهى منذ أن أصبح كل شيء رقميًّا(5)، وأن يلقي الجميع الحجر الذي بين يديه. سنحاول من خلال هذا البحث مراجعة الرؤية وعرض جملة من الإشكاليات المتصلة بالإعلام التقليدي والإعلام الجديد وعلاقتهما بالإعلام الاجتماعي وشبكاته والتي يمكن حصرها في المحاور الآتية:
ثورة الإعلام الجديد: الجديد يولد من أحشاء القديم.
الإعلام الجديد والإعلام الاجتماعي: من ديكتاتورية الأرقام إلى حشد بلا وجه.
الإعلام التقليدي والإعلام الجديد من منظور الإعلام الاجتماعي وشبكاته.
الإعلام الاجتماعي وإعادة توزيع الأدوار.
الإعلام التقليدي والإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي: أية علاقة؟
1- ثورة الإعلام الجديد: الجديد يولد من أحشاء القديم
عند إثارتنا لمفهوم الإعلام الجديد علينا الإقرار بأنه مبحث دسم فكريًّا، وأن أكثر ما يستوقفنا فيه هو غموض مصطلح “الجديد” وتعريفه. وتوجد عادة عند الإنسان رغبة في المحافظة على القديم؛ لأن التغيير يكون عادة مصحوبًا بعدة تنازلات وربما تضحيات وخسارة لبعض المكاسب التي اعتاد الفرد التعايش معها. إذن، فالجديد يكون عادة غامضًا وغير معروفة ملامحه النهائية لذلك نصادره ونخشاه. هكذا، بين الرغبة في المحافظة على التقليدي؛ لأننا نعرفه وتعودنا عليه، وسعي لتجنب الجديد؛ لأنه مجهول، يعيش المشهد الإعلامي والاتصالي الدولي حالة من التجاذب المهني والفكري والاقتصادي بين إعلام تقليدي محافظ وإعلام جديد ثوري وبديل. والجديد في الإعلام الجديد هو زوايا جديدة في حياة البشر لم يتطرَّق لها الإعلام التقليدي أو ليس باستطاعته التطرُّق إليها ومعالجتها بحكم وَهَن التقنية أو السياقات، وهو ما يجعل منه بالفعل تقليديًّا في مقارنتنا له بالإعلام الجديد الذي بات يحتلُّ هوامش لم يعد الإعلام التقليدي قادرًا على الولوج إليها. فمشاركة المتلقي في عملية النشر، ومقدرته على التفاعل مع المحتويات الإعلامية، وإنتاج المعلومة والتي قد ترتقي في بعض الأحيان إلى قيمة الخبر الذي يأتي به الصحفي هي كلها مناطق كانت محظورة على الإعلام التقليدي مُجَسَّدًا في الصحافة المكتوبة والإذاعة والتليفزيون في هيئتهما التناظرية وحتى الرقمية . لا يجب علينا أن نتوقف كثيرًا عند مصطلح القديم أو الجديد؛ لأنه وبكل بساطة فإن القديم وفي فترة تاريخية ما وضمن سياق محدد كان جديدًا وأن الجديد الذي نحن بصدد البحث فيه والتهليل بمزاياه سيصبح يومًا ما قديمًا . لذلك يعتقد العديد من الباحثين أنه من حُسن الحظ أنه ما زالت توجد وسائل إعلام تقليدية؛ لأنها هي التي تنيرنا اليوم وبشكل موضوعي وصحيح عن أخبار الناس واتجاهات الرأي العام خاصة في المجتمعات الديمقراطية، وأيضًا تلك التي تعيش حالة انتقال ديمقراطي. وقد بدأ هذا التوجُّه يوحي بميلاد مصطلح جديد هو الإعلام التقليدي الجديد، أي إنه تقليدي في احترامه للرأي العام والمصداقية والخصوصية والتأكد من الخبر وجديد باستعماله حوامل رقمية وتبنِّيه للتفاعلية ولحضور المتلقي في عمليات النشر والتحرُّر من أَسْرِ تكنولوجيا الإعلام التقليدي.
بالعودة إلى كل ما ذُكِر، فإنه وجب علينا، وعلى المستوى النظري، بيان أن تناولنا للإعلام الجديد وربطه بالإعلام التقليدي من منظور الإعلام الاجتماعي وشبكاته التواصلية مردُّه في الأصل إلى أن الإعلام الجديد ليس فقط إعلامًا جديدًا على مستوى التقنية بل إن جدَّته تكمن أيضًا على مستوى المضمون والمحتوى، وخاصة الفكر الذي يحمله والأنساق الجديدة التي من المفترض أن يفرزها سوسيولوجيًّا داخل المجتمع لاسيما من داخل النسق التقليدي لحاجة الناس الأزلية للأخبار والصحافة(8). إن الجديد في الإعلام الجديد يولد من أحشاء القديم في الإعلام التقليدي مُجَسَّدًا في الصحف والإذاعة والتليفزيون؛ فرغم حضور تعبيرات الإعلام الاجتماعي مع تطور شبكات التواصل الاجتماعي واختراق هذا المصطلح الخطاب الأكاديمي والإعلامي النخبوي فإننا نؤكد أن الإعلام الاجتماعي وشبكات تواصله ما هي إلا إحدى إفرازات الإعلام الجديد وتجلياته. علينا إذن في هذا الإطار إثارة سؤال: من أين جاء الإعلام الجديد؟ والإجابة تأتي بأنه حصيلة اندماج أو انصهار أو أيضًا التزاوج بين تكنولوجيات الاتصال الجديدة والتقليدية مع جهاز الكومبيوتر وشبكاته والبث الفضائي ورقمنته. تعددت اصطلاحات الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي لكن خصائصهما السيكولوجية والسوسيولوجية النهائية والدلالية اللغوية لم تتبلور بعد، ليحدث نوع من التواضع حول تسمية “الإعلام الجديد”؛ لأنه ببساطة منهجية لا يشبه وسائط الاتصال التقليدية. فقد نشأت داخل الإعلام الجديد حالة تزامن نادرة وجديدة بين مجموعة من العمليات التي كانت إلى زمن قريب متباعدة لتصبح عملية بث وإرسال النصوص والصور المتحركة والثابتة والأصوات ممكنة بشكل حر ومجاني وآني.
هكذا علينا التساؤل: كيف عدَّلت التكنولوجيا أشكال بثِّ المحتوى الإعلامي؟ يُمثِّل تعدد الحوامل والأوعية الباثَّة للمضامين الإعلامية حالة من الرشد والنضج التي باتت تكنولوجيات الاتصال تعيشها منذ بدايتها الأولى مع مطبعة يوهان جوتنبرج. إنها حالة من الاندماج لثلاثة اتجاهات هي بالأساس نضج وتطور بنية الشبكات اللاسلكية، والاتجاه نحو مزيد من تصغير الأوعية الاتصالية حتى تكون في متناول الجميع، وأخيرًا قابلية تلك الأوعية للحمل والتنقل ودخولها إلى معترك الاستعمال الأسري اليومي وبشكل متسارع. ويبدو الآن أن سوق الاتصالات أصبحت قبل أي وقت مضى مستعدة لاستقبال كل هذا الفائض من الاستخدامات اليومية للناس وهو ما جعل ثورة الاتصالات تحاول أن تواكب ثورة المضامين والاستخدامات والعكس أيضًا صحيح. فبعض المصطلحات من قبيل 4G, WiMAX, VoIP, CPL, Android, FemtoCell, TNT, NFC, AJAX, Smartphones, RFID، باتت لصيقة ثورة الاتصالات، وأن تغييرها أيضًا ببروتوكولات جديدة قائم وفي كل لحظة انطلاقًا من حاجة الاستخدام وضرورات المضمون.
تاريخيًّا، وفي ستينات القرن الماضي، وفي وقت كان فيه العالم مُتَسَمِّرًا أمام الشاشة الصغيرة -أي التليفزيون- يتابع نزول أول إنسان على سطح القمر، كان الباحث الكندي في علوم الاتصال، مارشال ماكلوهان، يضع لبنات نظريته الإعلامية الحديثة القائلة بأن وسائل الإعلام ما هي إلا امتداد تكنولوجي للإنسان وحواسه، وقد فسَّر ذلك في كتابه الشهير “كيف نفهم وسائل الإعلام” . منذ ذلك التاريخ وتكنولوجيات الاتصال تتسارع مُحْدِثَةً حالة من النَّمْذَجَة الكونية للمجتمعات من خلال ثقافة إعلامية باتت تعرف بـ”القرية الكونية” حسب المقولة الشهيرة لماكلوهان نفسه. لقد كان هذا الأخير من الأوائل الذين تحدثوا عن اختفاء ثقافة الإعلام المكتوب في مواجهة ثقافة الإعلام التكنولوجي، لكنه ربما لم يكن يتوقع إلى أية درجة سيكون الرقمي مزعجًا لوسائل الإعلام وكيف سيدفعها إلى مراجعة أدوارها وتموقعها. قد يذهب البعض إلى اعتبار هذا الاستشهاد بماكلوهان احتفاء بالحتمية التقنية. للتفاعل نقول: متى لم يكن للتقنية فعل حتمي على الإنسان؟! كما أن تلك التقنية تخضع بدورها إلى حتمية أخرى سوسيولوجية تتمثَّل في الاستخدامات الفردية والاستعمالات الجماعية لتحدث حالة من التمثلات قد تصل حدَّ التملك(11). إذن، وراء كل حتمية تقنية حتمية اجتماعية وهو ما يجعل من مقاربة خطاب الحتميات خطابًا متجاوزًا، وحري بنا تتبع مخرجات تزاوج التكنولوجيا مع حاجات الإنسان وهو ما ينتظر الباحثين المهتمين بالإعلام الاجتماعي وشبكاته بحكم أن وراء كل استخدام تعترضنا التقنية لكن في هيئة تطبيقات وبرامج بسيطة تُمَكِّن نفس المحتوى من عبور أكثر من محمل إعلامي. لذلك، يرى البعض أن الجديد في الإعلام الجديد هو حاجات جديدة لإنسان جديد في سياق تكنولوجي وثقافي جديد . فالإعلام الجديد هو في الأصل من فعل الإنسان وليس من فعل التقنية التي لا قيمة لها إن لم يستخدمها الإنسان وبشكل جماعي ليكون أكثر تحررًا من هيمنة المحيط الخارجي. وقد حسم هذا الجدال فرنسيس بال عندما قال: “إن وسائل الاتصال، تتخذ قيمتها من حقل استخدامها؛ فالتقنية لا تفرض علينا شيئًا، فهي تقترح والإنسان يتدبَّر الأمر أو يعيد تركيبها. ويتميز مصير وسيلة الاتصال عن مصير غيرها من التقنيات، بأنه يتعرض للحوادث ويتلقى تشعبات معينة وغالبًا ما يتغير اتجاهه. وهكذا، فإن وسائل الإعلام تفاجئنا على الدوام، ذلك أن استخداماتها نادرًا ما تتطابق مع ما صمَّمه مخترعوها” .
ستبقى عمليات التجديد التكنولوجي -بالفعل- هي المحرك الأساسي لما يمكن أن نُسمِّيه بالاستخدامات الجديدة للاتصال، فهي توفر للمستخدمين الجدد وأيضًا لكبرى الشركات حلولًا لحاجات الناس المتجددة أبدًا؛ فإذا ما عدنا إلى جهاز الكمبيوتر فبعد أن صُمِّم كجهاز يساعد على عمليات الحساب الآلي تحول إلى جهاز للإخراج والرقن والإدارة، ليستقر أخيرًا إلى جهاز اتصال وتواصل في المقام الأول مرتبط بمليارات الأجهزة المماثلة في بقية أجزاء العالم. التشبيك الدائم منتِج لتواصل دائم؛ فبالإضافة إلى أثر تكنولوجيا الاتصال وأدواتها المتعددة، فإن ظاهرة الارتباط الدائم بالشبكة يعتبر اليوم من بين الرهانات البحثية الكبرى والتي عليها أن تثير قضايا من قبيل اللاتواصل أو اللاتشبيك في مقارنة بين دول الشمال ودول الجنوب أو بين الريف والمدينة أو بين الفقراء والأغنياء، فنسبة الارتباط بشبكة الإنترنت في إفريقيا 11% أما في أوروبا فتصل إلى 50% . من داخل استعمال التكنولوجيا يولد الاستخدام الاجتماعي للتقنية الذي بدوره يكون مُوَلِّدًا لحلول تقنية جديدة تفتح على أسواق جديدة أيضًا، وهكذا دوليك حاجات تفتح على تقنية تفتح بدورها على حاجات جديدة تذكرنا بمقولة: إن الجديد عادة ما يولد من أحشاء القديم.
2- الإعلام الجديد والإعلام الاجتماعي: من ديكتاتورية الأرقام إلى حشد بلا وجه
ليس أفصح من بيان الأرقام لإقناع المسؤولين اليوم وحتى عامة الناس بأننا في عصر الاتصال وأننا أمام إعلام جديد هو بصدد القطع مع تقاليد قديمة في هذا القطاع، وأننا أيضًا أمام استخدامات للاتصال والإعلام لم تكن إلى زمن قريب معهودة وخاصة فيما يتصل بتمددها الأفقي. إذا ما اعتبرنا أن سكان الكرة الأرضية يناهز 7.3 مليارات نسمة فإن 3.17 مليارات منهم مرتبطون بشبكة الإنترنت أي ما يقارب النصف، وأن لكل فرد منهم 5.54 حسابات على شبكات التواصل الاجتماعي. أكثر من كل ذلك، فإننا نسجل يوميًّا مليون مستخدم جديد لشبكات التواصل الاجتماعي على الهاتف الجوال، أي ما يعادل 12 مستخدمًا جديدًا في كل ثانية. من بين كل هذه الأرقام يتربع موقع الفيسبوك على سلم الترتيب بـ1.71 مليار حساب، واليوتيوب بمليار، أما عدد مستخدمي “الواتس آب” فهم في حدود 900 مليون مستخدم، ولنكدإن بـ450 مليون.
على المستوى الاقتصادي، وتحديدًا في سنة 2015، استثمرت أكثر من 38% من الشركات الخاصة ما قيمته 20% من ميزانيتها للإعلانات في شبكات التواصل الاجتماعي وهو ما يُمثِّل ارتفاعًا بنسبة 13% مقارنة بسنة 2014. وتمثُّل تلك النسبة ما قيمته 8.5 مليارات دولار من مداخيل إشهارية لصالح شبكات التواصل الاجتماعي؛ وهذا فقط لسنة 2015. أما فيما يتعلق بمقاطع الفيديو والتي لها صلة بالمضامين، فإن شبكة الفيسبوك توفر 8 مليارات مشاهدة في اليوم أمَّا “سناب شات” فله 6 مليارات مشاهدة لمقاطع فيديو، ويُعتبر من بين أكثر الشبكات مشاهدة في العالم. فعلى سبيل المثال، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الشخص الواحد يقضي ما يعادل ساعة و16 دقيقة من الوقت في مشاهدة مقاطع فيديو على الحوامل الرقمية. أما على منصة غوغل الخاصة بالفيديو، فإنه يقع تحميل 300 ساعة كل دقيقة وهو ما يمثِّل رقمًّا خياليًّا يوازي 3.25 مليارات ساعة فيديو مشاهدة كل شهر. وعلينا هنا أن نشير إلى أن نصف مقاطع الفيديو هذه تأتي من الهواتف الذكية الجوالة والتي توفر مليار مشاهدة في اليوم لمقاطع الفيديو هذه.
تتميز المدونات بدور السبق فيما يتعلق بإنتاج المضامين الرقمية للمستخدمين، والتي توفر 65% من مجموع المحتوى الرقمي، فمنصة الووردبريس (WordPress) تنشر لوحدها 56 مليون مقالًا في الشهر. أما إمبراطورية غوغل فهي تعالج ما يفوق 100 مليار عملية بحث في الشهر أي ما يقارب 40 ألف عملية بحث في هذا المحرك في الثانية، وهو ما يمثِّل 89.3% من عمليات البحث في الشبكة، وأن من بين تلك النسبة هناك ما بين 16 و20% هي عمليات بحث جديدة في هذا المحرك العملاق. والملحوظ أيضًا أن نصف عمليات البحث تلك تأتي من الهواتف الذكية أي ما يقارب 50 مليار بحث في الشهر وهو ما يدفعنا مستقبلًا إلى ضرورة أن نفكر في الهواتف الذكية كلما هممنا بالتفكير في تصميم مضامين رقمية، والطريف في كل هذا هو أن مركز بيانات غوغل يستهلك فقط 0.01% من الطاقة في العالم.
فيما يتصل بشبكات التواصل الاجتماعي، فإن ظاهرة شبكة الفيسبوك تتصدَّر كل الأرقام. فهذه الشبكة ينخرط فيها يوميًّا 500 ألف مشترك جديد، أي ما يعادل 6 أشخاص جدد في كل ثانية. على مستوى الإعلانات، فإن مليونين من 40 مليون صفحة تملكها شركات صغرى توظِّف الإعلانات لنشر مضامينها. أما شبكة التواصل الاجتماعي، إنستغرام، فلها 400 مليون ناشط كل شهر، وهو ما يمثِّل تحميل 80 مليون صورة على هذه المنصة موفرة 3.5 مليارات إعجاب “J’aime-Like”.
هكذا، وكلما سعينا إلى إثارة سجال فكري عن شبكات التواصل الاجتماعي أُشهرت في وجوهنا مثل تلك الأرقام والإحصائيات التي لا تكذب. كل تلك الأرقام هي دلالة على وجود حشد داخل الشبكة، لكن هذا الحشد يبدو أنه بلا وجه، أي بلا هوية. وقد تكون الأرقام ها هنا مُغَذِّيَة للحديث الفكري لكن علينا أيضًا أن نحذر من أن الاعتماد عليها وبدون خلفية فكرية ونظرية مجازفة، وذلك بحكم أثر السَّلْعَنَة السريع لظاهرة الإعلام الاجتماعي وشبكاته وكل محاولات الاحتواء التي يتعرض لها. في هذا السياق نشرت مؤسسة “رويترز” لدراسة الصحافة نتائج بحث ميداني مفادها أن مواقع التواصل، مثل الفيسبوك، باتت المصدر الأول للأخبار بالنسبة للشباب ، وأنها صارت تَحُول بين المؤسسات الصحفية الكبرى والعائد المالي من الأخبار التي تنتجها. الدراسة أكدت جملة من الحقائق والنتائج المثيرة والتي باتت اليوم متداولة، لعل أهمها:
تتعرض المؤسسات الصحافية في جميع أنحاء العالم لاضطرابات غير مسبوقة في نماذج العمل وذلك مع الصعود المتواصل لتأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي.
الهجرة والانتقال في قراءة الأخبار إلى الهواتف الذكية وتزايد الإعلانات على شبكة الإنترنت باتت حقيقة تقنية واقتصادية ومجتمعية.
أمست القصص الخبرية للمؤسسات الصحفية، في بلدان مثل كندا وبريطانيا، تحظى بمتابعة أكثر دقة عند نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
في أكثر من بلد بات الاستنتاج السائد أن 50% من مستخدمي الإنترنت يحصلون على الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل كل شيء، في وقت يتجه عدد متزايد من المستخدمين إلى اعتبارها مصدرهم الرئيسي للأخبار. والمثير أيضًا في هذه الدراسة هو أن كبريات المؤسسات الإعلامية ربطت نفسها بمنصة الفيسبوك وغوغل لتوزيع أخبارها، رغبة منها في سعة الانتشار وسرعته، وهو ما جعل من مواقع التواصل الاجتماعي وجهة بديلة عن المواقع الإخبارية للمؤسسات الإعلامية التقليدية الضخمة. ففي العديد من المنصات الإعلامية التقليدية بات ربع المحتوى فقط يتم الولوج إليه عبر الموقع الإلكتروني، بينما يفضل القُرَّاء زيارة منصات مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى ذات المحتوى؛ وذلك لأن الانتقال إلى فضاء أرحب للتوزيع أصبح يمنح المؤسسات الإعلامية فرصًا أكبر للانتشار وهو هدفها الأسمى.
الجدول رقم (1) يُبيِّن ترتيب أهم مواقع التواصل الاجتماعي من حيث عدد المستخدمين في نهاية 2016
الشبكة
عدد المشتركين (بالمليون)
Facebook
1.8 مليار
WhatsApp
900
Instagram
500
FB Messenger
800
Tumblr
555
Twitter
317
Skype
300
Viber
249
Line
212
Snapchat
200
LinkedIn
106
Pinterest
100
BBM
100

يبدو أنه بفضل الثورة المتسارعة في عالم الهواتف الذكية فقد تضاعف وبشكل ملحوظ الزمن الذي نفرده لتصفح مواقع الإنترنت وخاصة تعدد التطبيقات المصاحبة للشبكة. إن الأخبار باتت حاضرة في الهاتف الجوال المتصل عبر شبكة الإنترنت وهو ما أنتج تزاوجًا غير قابل للانفصال بين الإنسان والأخبار فكلما تنقل الإنسان سبقته الأخبار في جواله. إذن، فنحن أمام معطى فيزيائي جديد وهو أن انتقال الشخص وحركته لم تعد عائقًا لبقائه متواصلًا مع العالم الخارجي وهو ما أنتج حالة جديدة من التزامن العجيب بين المكان والزمان، أي الآن وهنا. كل هذا يفسِّر بشكل قاطع لماذا أصبحنا نقضي وقتًا أكثر ونحن نتصفح هذا الموقع أو ندردش عبر شبكات التواصل الاجتماعي تلك. ففي بريطانيا تضاعف الوقت الذي يقضيه المواطنون على الإنترنت خلال عشر سنوات إلى 20 ساعة أسبوعيًّا بدلًا من 10 ساعات خلال عام 2005 . وفي وقت مَجْدِ التليفزيون كان المواطن يقضي أسبوعيًّا 24 ساعة في المشاهدة؛ حيث لم تتوافر آنذاك أية وسيلة ترفيه إلكترونية بصرية أخرى. وفي الولايات المتحدة الأميركية، فإن غالبية البالغين هم من مستخدمي الفيسبوك، وأغلب المستخدمين يحصلون بانتظام على الأخبار منه بدرجة ما، وهو ما يعني، بحسب مركز بيو الأميركي للأبحاث، أن نحو 40% من البالغين في الولايات المتحدة يعتبرون الفيسبوك مصدرًا للأخبار. هكذا، أصبحت الصحافة وتوصيل الأخبار جزءًا مهمًّا من تلك المعركة لجذب الاهتمام على الهاتف المحمول. أصبح المواطن ينتابه فضول أكبر بشأن ما يحدث في العالم الآن، مثل تغطية نتائج المباريات، والطقس، وماذا كان يفعل أصدقاؤهم، فضلًا عن أخبار السياسيين، كلها باتت مجالات للمنافسة الشرسة بين منصات الإعلام الاجتماعي. إنها منافسة شرسة مثلما كانت المنافسة بين الصحف وشبكات التليفزيون في السبعينات غير أن الرهانات الاقتصادية والسياسية باتت أكبر بكثير. أما أشكال تصفح مواقع شبكات التواصل الاجتماعي وتحديدًا فيما يتعلق بشبكة الفيسبوك فإن 748 مليون متصفح يبحر في هذه المنصة عبر جهاز الحاسوب المكتبي، و1.259 مليون زائر يلج شبكات التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية، وفقط 221 مليون عبر اللوحات الرقمية. لقد مكَّنت الجغرافيا الجديدة للاتصال وكل هذه الأرقام مدفوعة بزمن ميدياتيكي جديد من ظهور نماذج اقتصادية وثقافية من خلال استخدامات جديدة في مجال الإعلام بات يُطلق عليها مصطلح الإعلام الاجتماعي.
3- الإعلام التقليدي والجديد من منظور الإعلام الاجتماعي
تعتبر شبكات التواصل الاجتماعي، حسب القاموس الفرنسي لاروس، “نظامًا يُمَكِّن من نشر وتوزيع وتوصيل المؤلَّفات والوثائق والرسائل السمعية أو السمعية البصرية (صحافة، سينما، معلَّقات)”. في سنة 2013، أدخل هذا القاموس كلمة “تويتر” إلى مصطلحات اللغة الفرنسية الجديدة، وجاء في تعريفه: “تويتر هو خدمات التدوين الصغرى وشبكة تواصل اجتماعي”، كما ظهر أيضًا مصطلح جديد في نفس السنة له علاقة بشكات التواصل الاجتماعي، وهو مصطلح “صديق” (Ami/Friend)، والذي بالإضافة إلى دلالته القديمة أصبح يُعرَّف بـ”عضو شبكة اجتماعية، يسمح له عضو آخر بالاطِّلاع على بياناته الشخصية كأن يكون له أصدقاء كثر على الفيسبوك”. أما الجدار أو الحائط فلم يعد تعريفه كما كان معهودًا باعتباره مُكَوَّنًا من الحجر والإسمنت بل بات في قاموس اللغة الفرنسية “صفحة شخصية لعضو بشبكة تواصل اجتماعي”.
عندما يتعلق الموضوع بتعريف شبكات التواصل الاجتماعي نظريًّا وتأطيرها دلاليًّا -وذلك بعد أن أفردنا لها مدخلًا اصطلاحيًّا- فإن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا بل قُلْ: في حاجة إلى وقفة معرفية جادة. أول ما يجب الإشارة إليه هو بيان: هل من خلال حديثنا عن شبكات التواصل الاجتماعي (Social Networking) أو مواقع التواصل الاجتماعي (Social Networking Sites ) نقصد بذلك مصطلح الإعلام الاجتماعي (Social Medias) أم شيئًا آخر مختلف كليًّا؟(23). فإذا ما أخذنا كلمة الإعلام الاجتماعي وشبكات التواصل الاجتماعي في محرك بحث غوغل، فإن النتائج أكدت أن كلمة شبكة التواصل الاجتماعي وقع البحث عنها طيلة سنة 2015 ما يقارب 9900 مرة في الشهر في حين وقع البحث عن كلمة إعلام اجتماعي 590 مرة فقط . قد يبدو الأمر أن المصطلحين يحملان نفس الدلالة، غير أن في الأمر خلطًا؛ إذ توجد عدة فروق وذلك رغم الرغبة الفكرية التي تدفع بالعديد إلى اعتبارهما شيئًا واحدًا. فماذا نعني بشبكات التواصل الاجتماعي؟ وما هو مفهوم الإعلام الاجتماعي؟
شبكات التواصل الاجتماعي: هي موقع إلكتروني يوفر لرواد شبكة الإنترنت فتح صفحة شخصية من أجل تبادل معلومات وصور وفيديوهات مع مجموعة أصدقائهم وشبكة علاقاتهم .
الإعلام الاجتماعي: يسمو هذا المصطلح إلى أن يعوِّض نهائيًّا مصطلح الويب 2.0، فهو مجموعة منصات تكنولوجية داخل شبكة الإنترنت تسمح للأشخاص بإنتاج وتنظيم وتعديل المحتوى والتعليق على مضامين معينة . يتضح أن شبكات التواصل هي فرع من الإعلام الاجتماعي، وأن الإعلام الاجتماعي أشمل كما أنه أيضًا يحتوي شبكات التواصل الاجتماعي ويتجاوزها .فكأن الإعلام الاجتماعي هو شبكة الشبكات وأن شبكات التواصل الاجتماعي ما هي إلا مواقع أو منصات اجتماعية على الشبكة. يتيح الإعلام الاجتماعي إنتاج وتبادل المعلومات لجمهور عريض، فبإمكان كل الناس أن يسهموا في هذا الفضاء الذي يتسم كما ذهب إلى ذلك بيير ليفي(Pierre Lévy) بـ”الذكاء الجمعي” . ويحتوي الإعلام الاجتماعي على كل ما له صلة بالمدونات، ومواقع الويكي والدردشة والميكرو تدوين مثلما هي الحال مع تويتر وغيره من مواقع التدوين، كما لا يجب أن نغفل موقع “فلنكر” للصورة واليوتيوب للفيديو وشبكة التواصل الاجتماعي: الفيسبوك، وشبكة المؤسسات: لنكدإن. إذن، فأصل الإعلام الاجتماعي وبنيته هي المضمون والمحتوى، أما شبكات التواصل الاجتماعي، والتي يذهب البعض إلى وصفها بمواقع أو منصات التواصل الاجتماعي، فدورها تشكيل مجموعات افتراضية والتفاعل بين أفرادها. إن التفريق بينهما ليس دائمًا يسيرًا ففي بعض المنصات ورغم أن الوظيفة الأساسية ليست تشبيك الأفراد وإنما تبادل الفيديوهات كما هي الحال مع اليوتيوب فإن شبكة التواصل حاضرة بقوة، وهو ما يبرز حضور تقاطعات بين الظاهرتين.

هل يمكن القول بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي الفرع في علاقتها بظاهرة الإعلام الاجتماعي؟ هل يمكن القول بأن فوارق الاتصال والإعلام باتت ضئيلة؟ فنحن أمام إعلام اجتماعي يحتوي في داخله تواصلًا اجتماعيًّا ونحن أيضًا أمام اتصال اجتماعي يحمل في داخله إعلامًا اجتماعيًّا. يبدو أن بيان الفروق بين شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام يمكن أن يساعدنا على الوصول أكثر إلى معرفة خصائص كل حقل، ومن بين الفروق يمكن أن نذكر الآتي:
الرابط الاجتماعي: الفارق الرئيسي هو في دلالة الرابط الاجتماعي والتفاعلية بين رواد الشبكة؛ ذلك أن الأفراد داخل شبكات التواصل الاجتماعي لهم أشياء حميمية وأنشطة مشتركة ويتقاسمون أشياء متشابهة؛ وذلك لتأسيس علاقات، وهو معطى قد لا نجده حاضرًا دائمًا في ظاهرة الإعلام الاجتماعي.
طريقة التواصل: الهدف من وراء شبكة التواصل الاجتماعي هو بناء علاقات والتأسيس لمجموعات والتواصل مع الأعضاء. لا نتواصل بنفس الطريقة عندما نُبحر في شبكة التواصل الاجتماعي أو منصة للإعلام الاجتماعي؛ ففي شبكة التواصل الاجتماعي نُؤَسِّس لدردشة وهذا ليس بضروري في كل موقع إعلام اجتماعي، علينا إذن بِقَوْلَبَة رسالتنا إلى المتلقي وذلك طبقًا لخصائصه واهتماماته والتجارب المشتركة. في شبكات التواصل الاجتماعي أيضًا تكون الرسائل عادة ملزمة لصاحبها تشد الانتباه بمضمون جيد مصحوبة بصور أو بفيديوهات. يمكن القول: إن الإعلام الاجتماعي يعطى الفرصة أكثر للتعبير عن الرأي على محمل متاح للجميع، أما شبكات التواصل الاجتماعي فيمكنها أن توفر فرصة محادثات مُشَخْصَنَة وحينية ونشر محتوى إلى أشخاص لهم اهتمامات مشتركة. لفضِّ الاشتباك الدلالي بين الظاهرتين يمكن القول إنه إذا ما كان الهدف الأساسي لموقع الإنترنت هو التأسيس لشبكة علاقات فهو شبكة تواصل اجتماعي عدا ذلك فهو منصة إعلام اجتماعي .
الملمح: على شبكات التواصل الاجتماعي يكون ملمح المُبحِر في الشبكة مشخصنًا، فلكل مستخدم ملمح مؤسَّس على خلفية مجموعة من المعطيات الخاصة بالشخص والتي يمكنه أن يغيرها.
التشبيك: تكون قائمة الاتصال والتشبيك ظاهرة للعيان على شبكة التواصل الاجتماعي (قائمة الأصدقاء، إعجاب..) هؤلاء الأشخاص يستعملون أيضًا موقع الإنترنت ويمكنهم البحث عن علاقات تعارف وأشخاص لهم اهتمامات وعلاقات مشتركة.
استثمار الوقت: تستنفد صناعة المحتوى في شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الاجتماعي وقتًا إضافيًّا، وهي ميزة تستأثر بها جُلُّ مواقع الإعلام الاجتماعي.
أدوات المحادثة: تتيح شبكات التواصل الاجتماعي أدوات تقنية تُمَكِّن أصحابها من إمكانية المحادثة الفورية وتبادل الملفات والصور، فيكفي الضغط أو النقر على خانة من لوحة المفاتيح لتبادل محتوى معين أو تمرير علامة إعجاب.
أدوات تشاركية: إن إمكانية تأسيس مجموعة أو صفحة خاصة بحدث معين للتحادث أو الاجتماع حول قضية أو عرض مشروع محدد أو إرسال الرسائل بشكل فوري كلها خصائص لشبكات التواصل الاجتماعي. وتغيب هذه التشاركية عن ظاهرة الإعلام الاجتماعي في أكثر من موقع.
4- الهرم المقلوب: الإعلام الاجتماعي وإعادة توزيع الأدوار
أدت كل هذه التحولات إلى بروز مشهد إعلامي جديد يمكن وصفه بالهرم الإعلامي المقلوب؛ وذلك من خلال بروز ظاهرة توزيع جديد للأدوار داخل المشهد الصحفي. فقد تقدَّمت شبكة الإنترنت على الصحافة المكتوبة ولسنا في حاجة إلى دليل اليوم لإثبات ذلك، لكن الذي يجب أن نهتم به هو أن شبكة الإنترنت تتقدَّم وبشكل حثيث إلى ترك التليفزيون وراءها كمصدر للأخبار. من قال يومًا: إن التليفزيون الذي اجتمع فيه الصوت والصورة وبالألوان وعبر البث الحي والمباشر والمتوفرة مشاهدته في كل مكان سيصبح علبة ديكور في الصالونات لا أكثر ولا أقل؟ نعم، لقد أصبح التليفزيون في أكثر من دولة غربية وفي أميركا الشمالية ظاهرة على هذا النحو. في دراسة أميركية حول استعمالات وسائل الإعلام من قِبل الجمهور، تبيَّن أن هجرة مكثفة يعيشها المجتمع الأميركي منذ عشرية نحو شبكة الإنترنت؛ فنسبة 53% من الوقت الذي يقضيه الأميركي مستعملًا الإنترنت يفرده للاطِّلاع على المضامين، و7% للبريد الإلكتروني، و23% لشبكات التواصل الاجتماعي. وتُظهر هذه الأرقام أثر المنافسة الشديدة التي تحدثها شبكة الإنترنت لبقية وسائل الإعلام التقليدية. إنه إعلان عن إعادة صياغة لكل الإشكالات التقليدية التي لها علاقة باقتصاد الإعلام وماهية مستقبل اقتصاديات الإعلام الرقمي تحديدًا.
في أغلب الدراسات المتصلة بالإعلام الجديد، ومنها ما يتعلق باستعمالات الفيديو، تشير إلى أن 70% من الزيارات على الإنترنت ستكون من نصيب محتوى الفيديو، وذلك في أفق 2021، وأن السيطرة ستعود إلى منصة موقع “اليوتيوب” الذي يستهلك ما بين 50 و70% من مجموع المشاهدات على الهواتف الذكية، بينما يغطي “نيتفليكس” ما بين 10 و20 %. وتعتبر هذه النتيجة -تقنيًّا- منتظَرة بحكم النمو المتسارع لجودة وقوة الفيديو وسرعة بثه وسيطرته المتزايدة على مواقع التواصل الاجتماعي. أما فيما يتصل بالتوزيع الزمني للمشاهدة والتصفح، فإن الوقت الذي يقضيه المراهقون أمام التليفزيون التقليدي قد انخفض إلى النصف، في وقت ارتفعت فيه نسبة مشاهدتهم للفيديو عبر الهواتف الذكية إلى 85%. ويبقى المراهقون، أكبر المستهلكين للفيديو؛ حيث زادت نسبة مشاهداتهم عبر الهواتف الذكية بنسبة 127% بين عامي 2014 و2015.
ولمزيد تشريح علاقة متغير السنِّ بوسيلة الإعلام وبالشبكات، فإن الفئة العمرية التي تتراوح أعمارها بين 13 و24 سنة تستهلك المحتوى المشاهَد من الإنترنت، خصوصًا من “اليوتيوب”، بمعدل 11 ساعة في الأسبوع، بنسبة 96% من مجموعة محتوى الفيديو المشاهد(30). في المقابل، يبقى الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و35 سنة يقضون أربع ساعات أكثر من المراهقين أمام التليفزيون التقليدي. وعلى سبيل المثال، فإنه، وفي أفق 2021، سيستهلك الأميركي ما يعادل 22 غيغابايت من البيانات عبر الهاتف الذكي كل شهر، وذلك في أنشطة أغلبها مرتبط بمشاهدة الفيديو. هكذا، أصبحنا إعلاميًّا أمام هرم مقلوب وفي ظرف أقل من قرن، فبعد أن كانت الصحافة في سنة 1916 هي وسيلة الاتصال الجماهيري، ومع الحرب العالمية الثانية الإذاعة، وفي الستينات والسبعينات كانت السطوة للتليفزيون، ها نحن اليوم أمام هرم مقلوب لنجد الصحافة المكتوبة في أسفل الهرم وشبكة الإنترنت في أعلاه. إن كل هذه التحولات ليست خاصية الولايات المتحدة الأميركية، ففي فرنسا أيضًا ومن خلال الجدول الآتي يستقي 53% من الفرنسيين أخبارهم من الإنترنت في حين للصحافة اليومية 5% فقط من اهتمامات رواد وسائل الإعلام.
الجدول رقم (2) يوضح نسبة استعمالات الفرنسيين لوسائل الإعلام طبقًا للمحمل
وسيلة الإعلام
النسبة%
شبكة الإنترنت
53
التليفزيون
27
الإذاعة
9
صحافة المجلات
6
الصحافة اليومية
5

وتثير مسألة تعدد قنوات البث إشكالية شائكة لوسائل الإعلام، من قبيل: هل الانصهار الذي تعيشه وسائل الإعلام يؤذن بأن وسائل الإعلام هذه متجهة نحو الاندثار؟ ربما هنا علينا العودة إلى ما قاله أحد خبراء مايكروسفت سنة 2008 من أنه، وبعد عشر سنوات، لن تكون هناك وسائل إعلام مكتوبة، قائلًا: “إننا لن نستهلك مستقبلًا وسائل الإعلام إلا عن طريق موفر خدمة إنترنت، لن يكون هناك صحف أو مجلات كل شيء سيتحول بثه على هيئة نسخة إلكترونية” . قد تكون هذه النبوءة قد تحقق نصفها وهو أنه لم تعد هناك نسخ ورقية بحتة كما أن صحفًا ورقية قد تحولت كليًّا إلى نسخ إلكترونية. إن مثل هذا المشهد المتقلب ما زال محل أخذ وردٍّ فكري ومعرفي حول تعريف وسيلة الإعلام. فحسب دومنيك فولتون (Dominique Wolton)، فإن الإنترنت ليس بوسيلة إعلام معتمدًا على مرجعية أن وسيلة الإعلام تقوم على قاعدة عرضها للجمهور لمادة إعلامية في حين أن شبكة الإنترنت يذهب إليها المواطن للبحث عما يرغب فيه . قد يكون هذا التعريف صالحًا مع الجيل الأول من شبكة الإنترنت، لكن مع الإنترنت 2.0 فقد أصبحت محملًا لتبادل الأخبار والمعلومات بل منصة تلتقي فيها فتتجمع المضامين التي يقدمها كل من الباث والمتلقي معًا. لكن هل مع كل هذا يمكن اعتبار الإنترنت ميديا، فما هو إذن دور الهاتف الجوال وأجهزة الكومبيوتر؟
في هذا السياق، يصح القول: إن “ليس كل ما يلمع ذهبًا” الذي هو مَثَل في إحالة على أنه ليس كل شخص ينشر خبرًا هو بالضرورة صحفيًّا وليس كل من يقدم أخبارًا مجانية أو بمقابل هو بالضرورة مؤسسة صحفية وإعلامية . إن النماذج الجديدة من البث والتي فرضها المعطى الرقمي قد طمست وبشكل كبير الحدود بين المضمون، والمحمل والنشر ووسيلة الإعلام. إن إعادة توزيع الأدوار هذه هي التي تفسر، وبشكل كبير، الأزمة الوجودية التي تعيشها وسائل الإعلام التقليدية، وتطرح هذه المسألة من جديد أي نموذج اقتصادي لتلك المؤسسات الإعلامية التقليدية. إن هذا المشهد الجديد يدفع الجميع إلى حالة من التخصص في مهن الإعلام والاتصال بين منتجي المضامين الإعلامية، ومن يتكفلون بتحميلها وآخرين ممن يسهرون على استقبالها عبر كل تلك المنصات الإلكترونية. إن مفهوم الميديا كما ترسَّخ وعهدناه في تقاليدنا (صحافة، إذاعة، تليفزيون…) هو بصدد إعادة الهيكلة. ومن مآثر كل هذه التغيرات هو الاتجاه نحو غلبة المضامين الإعلامية على الوسيلة، فكثيرًا ما كان الانبهار بالوسيلة -تكنولوجيا- على الرسالة، أما مع شبكة الإنترنت فإن كل عناوين الصحف المكتوبة يُلْقَى بها كليًّا أو جزئيًّا على الشبكة. إن بعض الصحف العريقة قد اختارت وبشكل نهائي الهجرة الكلية نحو النسخة الرقمية على شبكة الإنترنت، وتؤكد بذلك علوية المضامين على المحمل التي تعبر بها -من العبور- إلى المتلقي. ويمكن هنا ذكر صحيفة لاتربيون (la Tribune) التي ظهرت في سنوات 1980، والتي اختارت هجرة المطبوع لصالح شبكة الإنترنت، وذلك منذ 2012. وهو نفس الاتجاه الذي اتخذته الصحيفة الأميركية العريقة، نيوزويك (Newsweek)، بسبب العراقيل المالية التي عاشتها. عربيًّا، يمكن ذكر جريدة السفير والتي قررت التوقف عن إصدار طبعتها الورقية في بداية 2017 . الطريف في الأمر هو أن البعض أخذ اتجاهًا آخر معاكسًا يتمثَّل في تحويل النسخة الإلكترونية إلى نسخة ورقية؛ فموقع marmiton.org وبعد عشر سنوات على إطلاقه كموقع إلكتروني على الشبكة أصدر مجلة ورقية. كما توجد في الولايات المتحدة مواقع إلكترونية لها نسخ ورقية وليس كما هو سائد في بعض دول العالم من أنها صحف ورقية لها نسخة إلكترونية. كل هذه الأمثلة وغيرها مثيرة للتساؤل، وما هي إلا دلالة على أن الذي يتقدم في كل هذا السجال هو المحتوى قبل المحمل وأن المحدِّد هو تجربة المستخدم. على ضوء كل تلك الأمثلة، يبدو أنه حري بنا إثارة سؤال: ما هو مستقبل مفهوم الميديا أو وسيلة الإعلام؟ فوسائل الإعلام تبدو في الأصل كما كانت منذ بداياتها رغم حالة التحديث والسَّلْعَنَة التي عاشتها وأنها ليست غاية في حدِّ ذاتها بل هي بكل بساطة معرفية مجرد وسيط لكمٍّ هائل من الأخبار والمعلومات.
هكذا، تبدو الصحافة دائمة سليلة بيئتها وذلك بفعل ثورة الإنترنت والمعلومات؛ فما عاشته الصحافة المكتوبة من تطورات مختلفة وطيلة قرون من وجودها لم تعشه منذ ظهور شبكة الإنترنت فقد أحدثت هذه الأخيرة هزة عنيفة في إنتاج المعلومة والخبر وأشكال تلقيهما. يتميز إذن المشهد الصحفي الدولي ومنذ بداية هذا القرن وانطلاقًا من العلاقة الجديدة بين الإنترنت وتقنيات نشر الأخبار بنوع من الضبابية المعرفية والمهنية، وهي ضبابية مبررة علميًّا. ويعود هذا التبرير إلى التطور المتسارع للاكتشافات التكنولوجية واقتصاداتها والتي تُحدث بدورها أدورًا اجتماعية بذات درجة سرعة تبلورها، ويمكن بيان ذلك من خلال الفرضيات والاستنتاجات المتضاربة وفي أكثر من سياق كلما تعمقنا في جوهر العلاقة القائمة أو المحتملة بين الصحافة والإنترنت.
في هذا السياق، يحق فعلًا الحديث عن الصحافة الجديدة، أي صحافة ما بعد شبكة الإنترنت. والمقصود بالصحافة الجديدة ليس تلك القائمة فقط على قاعدة التلقي أي في مدى قبول أو رفض الآخر للرسالة الإعلامية التي تشكلها الصحافة في هيئتها الجديدة الرقمية والافتراضية. إن ما يحدد ماهية الصحافة الجديدة هو في الأصل مُحَدِّد داخلي علائقي في تفاعل مع الفضاء الخارجي، فالاهتمام بمخرجات الصحافة فقط يعزل قاعدة وبنى تشكيل الخطاب الصحفي وآليات الصراع والهيمنة داخل المجال الصحفي حسب تعبير بير بورديو (Pierre Bourdieu)(36). إن العناصر المكوِّنة لماهية الصحافة الجديدة ليست فقط بفعل التقنية ولا هي بفعل العولمة ولا يمكن اختزالها في لوبيات المال والأعمال، إن كل هذه العناصر مجتمعة لا قيمة لها إلا إذا وضعناها في سياق أن الصحافة هي بالإضافة إلى كونها ظاهرة متفاعلة مع الآخر هي أيضًا ظاهرة مستقلة لها نواميسها التي تحكمها سوسيولوجيًّا. فكيف يمكن فهم التقنية وشبكة الإنترنت وثورة الحواسيب إذا لم يُسلَّط عليها إرث العلاقة التاريخية بين الصحافة والديمقراطية وبين الصحافة والرأي العام، بين الصحافة ونهضة التحديث في أوروبا منذ القرن الثامن عشر وحديثًا الصحافة وشبكة الإنترنت.
كانت دراسات جمهور الصحافة التقليدية واتجاهات الرأي العام وصيغ تشكُّله إعلاميًّا من القضايا والمواضيع المثيرة للاهتمام في الغرب، وقد كانت تخصص للجمهور موازنات ضخمة وفرق متخصصة تشرف عليها مراكز علمية لامعة وذلك بهدف معرفة أثر وسائل الإعلام والصحافة على المجتمع وقياس أثرها على فئة محددة من المجتمع. وكانت نتائج هذه الدراسات تُعتمد لسنوات عديدة كمرجع مهني وأكاديمي في سياق تطور الصحافة التقليدية الورقية. مع تحول الصحافة من الورقي إلى الرقمي وتحول الاتصال من الجماهيري إلى الشخصي فإن دراسات الاتصال الرقمي محدودة النتائج في الزمن، ويعود السبب إلى التغير المستمر للتقنية وللجمهور؛ فنتائج دراسات الصحافة الإلكترونية الرقمية يمكن اعتمادها بكثير من الحذر ففي كل يوم ينسحب جمهور ويأتي آخر وتتطور تقنية لِتَنْدَثِر أخرى. من جهة أخرى، وجب علينا عدم تجاهل حضور مقولات بسيطة تميز شبكة الإنترنت لكنها محددة مثل مقولة: إن الإنترنت لا حدود لها ولا وطن لها ولا جنسية لها. هكذا وجب علينا ألا نهلِّل مسرعين بأية نتيجة جاءت بها بحوث ذات صلة بتأثيرات وخصوصيات شبكة الإنترنت على فئة ما، بل أخذها في سياقها الاجتماعي والتاريخي؛ وهو ما يساعدنا على تجنب العديد من الأحكام المسبقة عن علاقة الإنترنت بوسائل الاتصال التقليدية مثل الصحافة وظاهرة كل من شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الاجتماعي، أي بعبارة أخرى إثارة سؤال: أية علاقة؟

الرسم البياني رقم (1) يوضح توزيع استعمالات شبكات التواصل الاجتماعي حسب متغير السن

 

5- الإعلام التقليدي والجديد وشبكات التواصل الاجتماعي: أية علاقة؟
على هدي ما تقدم، فإن تحولات مثيرة تشهدها الساحة الإعلامية والمجال العمومي، وتحديدًا في قطاع صناعة الصحافة، فالتغييرات التي تشهدها صناعة الأخبار منذ ظهور شبكة الإنترنت لم تعرفها منذ نشأة مهنة الصحافة. ففي تقرير نشره المرصد الأوروبي للصحافة، فإن شبكات التواصل الاجتماعي ابتلعت كل شيء بدءًا بالدعاية السياسية، والأنظمة المصرفية، مرورًا بالمغامرات الشخصية، وصناعة الأدب، وصولًا إلى النشاط الحكومي وأنظمة الأمن . وربما أصدق مثال على كل تلك الهزات هو مثال صحيفة “بوسطن غلوب” (The Boston Globe)، فقبل سنوات من كشف الصحيفة تفاصيل فضيحة انتهاكات جنسية في الكنيسة الكاثوليكية في 2002 و2003، بيعت البوسطن غلوب إلى صحيفة نيويورك تايمز بأكثر من مليار دولار. لكن في عام 2013 أي بعد عشر سنوات من فوز بوسطن غلوب بجائزة بوليتزر للصحافة عن تغطيتها لذلك التحقيق الاستقصائي، فقد بيعت مجددًا، ولكن هذه المرة مقابل 70 مليون دولار فقط لجون هنري، مالك نادي ليفربول. يتضح أنه وخلال عشرين سنة فقدت مؤسسة إخبارية يبلغ عمرها أكثر من قرن 90% من قيمتها على الرغم من تفردها وتميزها في تحقيق إنجاز صحفي. وبوسطن غلوب ليست المثال الوحيد، فصحيفة الواشنطن بوست قد بيعت أيضًا عام 2013 إلى مؤسس موقع أمازون، جيف بيزوس. وفي بريطانيا، توقفت صحيفة الإندبندنت عن طباعة نسختها الورقية. وعلى مدى السنوات العشر الماضية اختفت 300 صحيفة محلية في أميركا. فالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، تُمكِّن الصحفيين بشكل ظاهر من القيام بأدوار أكثر حرفية، إلا أنها تسهم في نفس الوقت في جعل صناعة الصحافة مشروعًا غير اقتصادي. ويؤكد نفس التقرير أنه خلال السنوات القليلة الماضية تمظهر عنصران مهمَّان، إلا أننا لم نهتم بهما كما يجب، وهما:
فقدان ناشري الصحف السيطرة على التوزيع، وانتقال جزء منهم إلى شركات مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية.
أن النتيجة الحتمية لكل هذا هو زيادة قوة شركات مواقع التواصل الاجتماعي، وحضور أكبر لشركات منصات الإعلام الاجتماعي مثل غوغل وآبل والفيسبوك، وحتى شركات الدرجة الثانية مثل تويتر وسناب شات، وأن الشركات المختصة في تطبيقات المحادثات الصاعدة أصبحت أكثر شراسة في سيطرتها على آلية مَنْ ينشر، والجمهور المستهدف، وكيفية الاستفادة المادية من كل ذلك الكم الهائل من مستخدمي الشبكة.
– أثر شبكات التواصل الاجتماعي على التليفزيون
من خلال متابعة دور شبكات التواصل الاجتماعي أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية بين باراك أوباما وميت رومني وبعدها مع هيلاري كلينتون ودونالد ترامب سنة 2016، أو مع ثورات الربيع العربي منذ 2011، فإن شبكات التواصل الاجتماعي قد تجاوزت كونها مجرد ظاهرة في شبكة الإنترنت ؛ فقد غيَّرت هذه الشبكات علاقتنا بالتليفزيون وتَمَثُّلاتِنا له. لقد أصبحت علاقتنا بالتليفزيون خاضعة اليوم إلى التفاعل الحيني والفوري من خلال التعليق، ولقد أسَّست أيضًا جسورًا جديدة بين التليفزيون في هيئته التقليدية والتليفزيون وهو يلتحم بشبكات التواصل الاجتماعي. عربيًّا، يمكن القول: إن الهيئة التي ظهرت بها قناة الجزيرة في عيدها الـ20، سنة 2016، تعتبر أكبر استجابة لحتمية فعل شبكات التواصل الاجتماعي وكيف بات على التليفزيون أن يطوِّع نفسه مع مزايا النشر الفوري. فالارتباط الاستراتيجي للتليفزيون على مستوى المحمل والمحتوى مع شبكات التواصل الاجتماعي بوصفها وسيلة تواصل وأكثر من مجرد ميديا بات أيضًا غير قابل للتجاهل. وقد أظهرت بعض المؤشرات أن قناة الجزيرة الفضائية تحولت إلى أكثر القنوات الفضائية العربية متابعة على شبكات التواصل الاجتماعي محقِّقة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2016 متابعة أكثر من 20 مليون شخص .
– شبكات التواصل الاجتماعي والتفاعلية
مع شبكات التواصل الاجتماعي أصبح للتفاعلية دلالات أخرى مغايرة. لقد بات تصميم البرامج التليفزيونية يحدث على قاعدة التفاعل والتعليق عليها من قِبل رواد هذه الشبكات، سواء أكان ذلك على تويتر أو على شبكة الفيسبوك. فبالعودة إلى العديد من البرامج الحوارية على شاشة التليفزيون في فرنسا وأميركا وحتى بعض القنوات الإخبارية العربية مثل قناة الجزيرة وFrance24 وBBC فما أن ينطلق البرنامج ويُطرح موضوع النقاش -وحتى قبل البث- فإنه تقع دعوة رواد شبكات التواصل الاجتماعي للتفاعل والتعليق وطرح الأسئلة، وأخيرًا القيام بنوع من الاستفتاء حول مدى وجاهة تلك الآراء. لقد أصبحت قيمة البرنامج وشهرته في مدى تحقيقه لدرجة عالية من التفاعل داخل شبكات التواصل الاجتماعي من خلال تصميم الرابط الخاص بالبرنامج على شبكة تويتر عبر وسم أو “الهاشتاج” الخاص بالبرنامج والذي بات يقوم به متخصصون في إدارة شبكات التواصل الاجتماعي من داخل وسائل الإعلام التقليدية كالتليفزيون، وبديلًا عن الأسئلة عبر الهاتف والتي باتت تقنية تجاوزها المتلقي. أصبح التفاعل المباشر مع البرامج التليفزيونية مؤشرًا بل محددًا لمدى نجاح البرنامج به نقيس نسب المشاهدة والتي باتت تتمظهر مؤخرًا وبشكل كثيف عبر الهواتف النقالة الذكية.
– سلطة المباشر أو فورية البث والتلقي
في الإعلام التقليدي يوجد فارق زمني بين تصميم الرسالة وبثها، لكن مع شبكات التواصل الاجتماعي يوجد ما يمكن أن نطلق عليه: التدوين المباشر عبر تويتر. فمن خلال عدة شبكات تواصل اجتماعي (تويتر، الفيسبوك، سناب شات،…) يمكن للمستخدم أن يكون حاضرًا وبشكل مباشر في البرنامج دون أن يكون حاضرًا جسديًّا وهو ما يبرز قيمة الآنية والفورية في عملية البث والتلقي، أي أن تكون عملية التواصل متطابقة بين المرسل والرسالة والمتلقي وهو ما يبشِّر بضرورة مراجعة مقولة الاتصال الجماهيري التي يكون فيها المتلقي سلبيًّا والباثُّ مُهَيْمِنًا من خلال بثه لرسالة واحدة لجمهور غير متجانس في الميولات وزمن المشاهدة والمستوى الثقافي والاجتماعي.
– شبكات التواصل الاجتماعي مصدرًا للأخبار
ليس جديدًا إذا ما قلنا: إنه، ومنذ بروز شبكات التواصل، فإن مهنة الصحافة تواجه العديد من الهزات المهنية وأخرى لها علاقة بتموقعها في المجتمع. وليس غريبًا أيضًا أن يصل الخبر إلى الصحفي من شبكات التواصل الاجتماعي مثله مثل أي مواطن عادي، وهو ما يجعل منها اليوم وغدًا مصدرا مهمًّا من مصادر الأخبار للصحفيين. ويمكن أخذ العديد من الأمثلة ولعل منها خاصة ما يتعلق بقضايا الشأن العام؛ فوزيرة العدل الفرنسية كريستين توبيرا أعلنت استقالتها، سنة 2016، من حكومة فرانسوا هولاند على حسابها بتويتر، وكثيرة هي الأخبار التي بات يلقي بها قادة الشأن العام على شبكات التواصل الاجتماعي قبل إرسالها إلى الصحفيين. تشير مثل هذه المتغيرات إلى أن الصحفي لم يعد هو المتحكِّم ولا المطَّلع الأول على المعلومة والخبر حتى ينشرهما في وسائل الإعلام التقليدية. إن هذا المعطى يجعلنا نقر بأن وسائل الإعلام التقليدية تلك غدت أمام حقيقة مفادها أنها لم تعد هي المحمل الوحيد لنشر الأخبار وتداولها.
– شبكات التواصل الاجتماعي والصحفيون
في سياق مقارنة بين الإعلام التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي، يمكن القول: إنه لم يبقَ من الإعلام التقليدي من إعلام غير الصحفي، والذي يعتبر المحدِّد الرئيسي في تشكُّل ظاهرة الصحافة، لكن مع شبكات التواصل الاجتماعي لم يعد للصحفي سلطة مطلقة على عملية إنتاج الأخبار. فمن خلال شبكات التواصل الاجتماعي أصبح بإمكان أي مواطن أن يكون شاهدًا على أي حدث يعترضه وأن يشارك غيره تفاصيله التي جمعها بالكاميرا أو بالتدوين أو بالصوت أو بكل هذه الحوامل معًا . باتت هذه الظاهرة تُعرف بصحافة المواطن مستغلة سرعة النشر ومجانيته وهو ما بات يربك عمل الصحفي الذي عليه أن يتحرى وأن يعود إلى أكثر من مصدر لعرض خبره على الجمهور حتى يطلع على تفاصيله . دفع هذا المعطى الجديد وسائل الإعلام التقليدية إلى إفراد ما يبثه المواطنون على شبكات التواصل الاجتماعي ببُعد مهنيٍّ مجسَّدًا في مسؤولي أو مديري شبكات التواصل الاجتماعي (Social Media Manager )، لاقتناص الأخبار والصور والفيديوهات التي قد تكون صالحة للنشر وحتى لا تكون المؤسسة الإعلامية التقليدية في تسلل عندما يطفو إلى السطح خبر مهم جاء به صحفي مواطن. أمام حُمَّى النقر على شريط الأخبار بات من الضروري على الصحفيين أخذ هذه التحولات في مهنتهم بشكل حرفي في المستقبل.
– شبكات التواصل الاجتماعي مؤشر لاتجاهات الرأي العام
توفر شبكات التواصل الاجتماعي، وبشكل ظاهر وعلني سريع، ما يقبله المجتمع وما يرفضه الناس في لحظة تاريخية معينة. قد يكون هذا الرفض أو القبول ذا خلفية سياسية أو منتج جديد أو توجه في نمط الحياة والعيش. لقد بات ما هو مقبول في شبكات التواصل الاجتماعي مقبولًا في المجتمع الواقعي. هكذا، على الصحفي أن يراعي اليوم ما يدور ويُتدَاوَل داخل شبكات التواصل الاجتماعي والتي باتت تسهم في تأطير الأحداث من عدة زاويا، فهو مطالب بتتبع اتجاهات الرأي العام الافتراضي وميولاته حتى لا يكون في تعارض مع ما يستجد داخل هذا الفضاء الذي يعج يوميًّا ولحظة بعد لحظة بالعديد من التعبيرات ذات الخلفية السياسية والثقافية والاجتماعية وحتى فيما يتصل بالذوق، واللباس وكل ما له صلة بحياة الناس اليومية بكل تفاصيلها. لقد أصبحت، على سبيل المثال، بعض التدوينات في تويتر تُنشَر لاختبار رد فعل المتلقي، أي القبول أو الرفض للخبر، للمنتج أو للفكرة أو للرأي المعروض على شبكات التواصل الاجتماعي ومدى تقبل الناس له.
– شبكات التواصل الاجتماعي: سلطة ضد سوء استخدام السلطة
تعكس شبكات التواصل الاجتماعي، ومنذ أحداث الربيع العربي، قدرة هذه الوسائط الجديدة على إيصال رسالةٍ ما إلى الرأي العام المحلي لا تريد وسائل الإعلام التقليدية نشرها. إن هذا يعد مؤشرًا إيجابيًّا على أن شبكات التواصل الاجتماعي يمكنها أن توفر فرصًا أكثر للمواطنين للمشاركة في الحياة العامة ومعها ضخ دماء جديدة في الديمقراطية بوصفها نظام حياة مشتركًا . يمكن اليوم عبر هذه الشبكات إيصال رسالة موظف مظلوم، أو طفل في حاجة إلى علاج، أو التشهير برجل شرطة طلب رشوة. باتت مثل هذه المظاهر سُلطة في يد رواد شبكات التواصل الاجتماعي، أي أن تتوجه مباشرة إلى الرأي العام والمسؤول وكل من له دخل في ملف تلك القضية السياسية أو الإنسانية . لقد تحول العديد من الشكاوى إلى محاكمات لمسؤولين عُزلوا بعد أن تضامن رواد الشبكات مع تلك الضحية. لقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي سُلطة في وجه الإعلام التقليدي الذي كثيرًا ما يتجاهل قضايا حيوية في المجتمع وذلك بحكم رهانات وراءها لوبيات سياسية ومالية وسلطة أيضًا في مواجهة التوظيف السيء للسلطة .
– شبكات التواصل الاجتماعي والميديا: من النهايات إلى الحدود؟
يبدو، ورغم كل تلك الأرقام وكل تلك الإضافات التي جاءت بها شبكات التواصل الاجتماعي، أن لهذه الظاهرة حدودًا وهي تتعرض إلى نقد شرس يصل حدَّ اعتبار ما يقذف فيها يوميًّا من معلومات لا علاقة لها بالأخبار والإعلام. إنها سوق تجارية من الإعلانات ومن الرقائق الإلكترونية المختلفة والتطبيقات والتي لا تعير أي اهتمام بعالم الأخبار وصيرورة إنتاجه ونشره وعلاقته بالرأي العام والديمقراطية . فمنطلق الخبر يقوم على قاعدة أن المواطن هو الذي يذهب إليه وأنه توجد مؤسسة تسهر على غربلة وتدقيق الأخبار ونشرها أي بعبارة أوضح: على عرض وطلب. في شبكات التواصل الاجتماعي، فإن المواطن لا يطلب الأخبار بل تأتي إليه، وهو ما يقلب المعادلة الصحيحة لصيرورة الأخبار. وحري بنا أن نتساءل عن صدقية خبر يُنشَر على شبكات التواصل الاجتماعي أو تعليق على حدث ما بالعودة إلى أدبيات أخلاقيات العمل الإعلامي؛ فأثناء الحملة الانتخابات الرئاسية الأميركية بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون فإن من بين 20 خبرًا الأكثر تداولًا عبر شبكات التواصل الاجتماعي اتضح أن 10 منها كانت خاطئة . إذن، فنحن، وأمام هذا السؤال الوجودي لمهنة الصحافة، علينا أن نذكِّر بمن هو المؤهَّل اليوم للبتِّ في الصحيح وغير الدقيق من الأخبار، أي: هل ما زالت توجد حاجة إلى حارس بوابة أم لا؟ إن عملية غربلة الأخبار وترتيبها ونشرها لا يمكن أن تكون إلا من داخل النسق الفكري للجسم الصحفي التقليدي والقائم على قواعد كلاسيكية تتمثل في القيم الأخلاقية الصحفية من موضوعية ومصداقية حتى وإن استعان في ذلك بشبكات التواصل الاجتماعي كمعطى تقني وسوسيولوجي أكثر تحررية لا يمكن تجاهله وهي بذلك تحقق أمنية فيكتور هيغو عندما قال في خطاب شهير ألقاه في يوليو/تموز سنة 1850: “بما إنني أريد السيادة في كل حقيقتها، فإنني أريد الصحافة في كل حريتها” .
خاتمة
من رقمنة الإعلام التقليدي إلى أعلمة التواصل الاجتماعي
في البدء كانت الخلفية من وراء رَقْمَنَة الإعلام التقليدي هو أن يكون مواكبًا للتقنية وأكثر انتشارًا وأكثر قربًا من المتلقي. في البدء أيضًا كانت شبكات التواصل الاجتماعي ذات بُعد يهتم بالعلاقات الاجتماعية والمهنية أما اليوم فقد غزتها أيضًا المعلومة والخبر لتتحول إلى فضاءٍ مُؤَعْلَم، أي نافذة للإعلام. قد تصح، ونحن نرصد كل هذه التحولات، العودة إلى ذلك المثل العربي “هذا الشبل من ذاك الأسد” في إحالة إلى علاقة شبكات التواصل الاجتماعي -الشبل- بالإعلام التقليدي -الأسد- بعد أن غزته الرَّقْمَنَة. يمكن، وضمن مقاربة في خاتمة تفتح أكثر لمجالات التفكير في براديغم الإعلام الاجتماعي وشبكاته في علاقته بالبيئة الجديدة للإعلام، أن نتوقف عند القضايا الآتية:
‌أ. إن من بين خصائص شبكات التواصل الاجتماعي في علاقتها بالإعلام التقليدي أنها تبدو بلا حدود، وهو ما يبدو أيضًا أحدَّ حدودها؛ فما ليس له حدود يعتبر علميًّا ليس له وجود. وربما أكبر تحدٍّ علمي وبحثي أكاديمي مستقبلًا هو السعي إلى توفير حدود نظرية لظاهرة الإعلام الاجتماعي وشبكاته. ربما يعود كل ذلك إلى أننا ما زلنا في تعاملنا مع شبكات التواصل الاجتماعي في مرحلة الانبهار التكنولوجي، كما عبَّر عن ذلك باتريس فليشي (Patrice Flichy)، عندما شخَّص هذه الحالة بيوتيبيا التقنية . ومن بين الحدود التي اخترقتها شبكات التواصل الاجتماعي وحافظ عليها الإعلام التقليدي، العلاقة بين ما هو خاص وما هو عام في حياة المجتمعات المعاصرة والتي قامت فلسفتها التحديثية على قاعدة الفصل المنهجي والعملي أيضًا بين الخاص والعام والذي باتت تنص عليها، كما نعرف، الدساتير والمعاهدات الدولية والمرجعيات الفلسفية والقانونية المعاصرة.
‌ب. لم نعد اليوم، ومع الإعلام الاجتماعي، أمام جمهور يذهب إلى وسائل الإعلام بل نحن أمام وسائل إعلام عليها أن تتأقلم مع الاستعمالات الجديدة للمتلقي. وربما يعود ذلك إلى تغير الزمن الميدياتيكي، فلم يعد التليفزيون في حاجة إلى أوقات بث الذروة أو هل باتت صحيفة الصباح ضرورية حتى نكون من الأوائل ممن قرأ الأخبار؛ وهو ما يدفعنا إلى استحضار ما قاله هيجل سنة 1820 من أن “الصحيفة هي الصلاة العلمانية الصباحية للإنسان الحديث” . لقد باتت هذه التقاليد في عداد النسيان اليوم. لم تعد هناك حاجة إلى أخبار الصحيفة في الصباح وهي طازجة أو أخبار الساعة الثامنة ليلًا التي يبثها التليفزيون. إن هذا الانقلاب في تقاليد وعادات التلقي بات معطى سوسيولوجيًّا يفرض مقاربة مغايرة في التعامل مع المتلقي وهو ما يفترض تبني مقاربة إعلامية تعتمد على تعدد المحامل أو ما يمكن أن نطلق عليه: عبر الوسائط (Cross media). فالتفكير في المتلقي من خلال مقاربة تعتمد على وسيلة إعلام أحادية في التواصل باتت شيئًا متجاوَزًا معرفيًّا وتكنولوجيًّا، فالحدود بين الوسائط زالت؛ فماذا بقي للسمعي المرئي في علاقته بالمكتوب؟ وما علاقة الرقمي بغيره من المحامل كالهاتف الجوال؟ لقد دخلنا عصر الاندماج وانصهار الوسائط حيث تتجاور ذات المضامين على حوامل مختلفة فيعلق عليها ويتبادلها الناس على أكثر من محمل وهو أمر يحيلنا إلى الاعتقاد بأن وسائل الإعلام هي بصدد الاندثار شيئًا فشيئًا تاركة المجال أكثر للمحامل وإن بقيت وسائل إعلام على قيد الحياة فستكون المضامين فيها عابرة فلا هي تنتجها ولا هي توطنها بشكل منفرد . تتأكد هذه الثورة الإعلامية الجارفة خاصة في الهجرة اليومية للملايين من الناس من التواصل مع المعلومة والخبر عبر وسائل إعلام تقليدية إلى وسائل تواصل رقمية ذكية.
‌ج. شهد الإعلام الدولي تحولًا من دَمَقْرَطَة الرَّقمي إلى رَقْمَنَة الديمقراطية. كانت أغلب الدول، وبغض النظر عن الخلفية التي تقودها والتي كانت بالأساس اقتصادية، تسعى إلى الاستثمار في رقمنة إعلامها وتبني شبكة الإنترنت ومد خطوطها وهي بذلك تُمكِّن أكبر عدد ممكن من الناس من الوصول إلى المعلومة والخبر والرأي الآخر. كما إنها بدَمَقْرَطَة الإنترنت تسحب تلك الأنظمة البساط من تحت إعلامها الرسمي التقليدي لتدق فيه خنجر ثقافة الرَّقمي وديمقراطيته الكامنة فيه. إن ديمقراطية الرَّقمي، ومنذ تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية، بدأت شيئًا فشيئًا توسِّع من التفكير الديمقراطي والتفكير في الديمقراطية بشكل مغاير. غزا الرَّقمي والإعلام الجديد الديمقراطية ليدخل الإنسان عصر رَقْمَنَة الديمقراطية وهو ما قد يوحي مستقبلًا بالتفكير الجاد في نظام سياسي واجتماعي يأخذ بعين الاعتبار كل هذه التحولات الجديدة التي جاء بها الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي .
‌د. بين فريق يمجِّد صحافة المكتوب والمطبوع إلى آخر يتنبَّأ باندثارها في النصف الثاني من هذا القرن إلى ثالث يدعو إلى أن العلاقة بين الورقي والرَّقمي في مهنة الصحافة لا يمكن أن تكون إلا في هيئة علاقة تكاملية وتواصلية، يصعب الوصول قريبًا إلى صيغة توافقية في أي مشروع لتوصيف علمي يشخِّص ما تعيشه مهنة الصحافة في العالم. إن مثل هذه القراءات وغيرها لها ما يبررها على المستوى الواقعي والنظري ولها من الحجج ما يقنع. لكن رغم هذا الخلاف فإنه يوجد حدٌّ أدنى من الإجماع وخلاصته هو أن الحديث عن الصحافة اليوم لا يستقيم إذا ما حافظنا على ذات آليات اشتغال الحقل الصحفي القديم -أي ما قبل الإنترنت- في علاقته بالمجتمع والفرد والسلطة. هكذا على الجميع الاعتراف والإقرار بوجود حالة تاريخية صحفية جديدة مختلفة عمَّا كانت تُقدِّمه صحافة نهاية القرن الماضي سواء أكان ذلك على مستوى إنتاج الخبر والمعلومة أو نشرها وتسويقها وصناعتها وتلقيها. يتطلب هذا استدعاء آليات بحث معرفية جديدة تعيد تشكيل بنية الصحافة الفكرية والثقافية أي فهم جديد للصحافة من حيث هي ظاهرة اجتماعية متجددة وعلى قدر كبير من التعقيد والتشابك وفي علاقة تجاذب دائم مع فاعلين اجتماعيين كالجمهور وقادة الرأي وصُنَّاع القرار والتقنية والمال وذلك بشكل يبدو اليوم متزامنًا ومتداخلًا. ختامًا، نقول: إن الصحافة التقليدية بوصفها المنظومة التي مكَّنت مقولات الاتصال الجماهيري من التَّشَكُّل مثَّلت، ولا تزال، المقاربة الوظيفية التقليدية والوظيفية الجديدة في نظريات الاتصال، أما الإعلام الاجتماعي وشبكاته، فإنه وبحكم استقلاليته النسبية عن فعل المؤسسة ونزعته الإطلاقية وغياب حدود نظرية تؤطِّره يكاد يمثِّل مدخلًا جديدًا لمقاربة وظيفية/نقدية لوسائل الإعلام والتي كانت دائمًا تنادي وتسعى إلى تحرير الفرد من هيمنة وسائل الإعلام الجماهيرية بوصفها منتجة للهيمنة.