19 ديسمبر، 2024 2:08 ص

 

ذات يوم وجدت نفسي في خربة بائسة تحيطها جدران آيلة للسقوط هذا ما أخبرتني به عيني المتورمتين من الضرب المبرح وخيط الدم الذي يسيل من فمي إعتلت غشاوة ضبابية على عيني التي لا أستطيع دعكها لان يداي مقيدتان ومن ثم رأيت أكوام من القمامة التي تحيط بي ولا أدري من الذي أتى بي الى هذه الخربة الحمقاء أردت أن أستعين بذاكرتي لتخبرني من أنا وكيف أتيت الى هذه الخربة هل كان الامر بمليء ارادتي ؟
لماذا يداي مقيدتان ؟ ما هذا الدم المتيبس على وجهي ؟ هل يمكن أن يكون رساما أراد بريشته الوحشية أن يرسم منظرا خلابا على وجهي بعد فترة وجيزة بدأت أتذكر بعض الاشياء وبدأ شريط الذاكرة يعرض لي فلما وثائقيا عن حياتي … نعم…. ها أنا أتذكر بعض الأشياء.. كان يلقبونني مجنون شارع الرشيد لأني لطالما تحدثت بصوت عال مع ذلك التمثال الذي يقطن في شارع الرشيد وسط تلك الحديقة المليئة بالزهور التي تطل على هذا الشارع عرفت اسم ذلك التمثال مذ كنت صغيرا وقد كنت ذاهبا مع أبي الى شارع المتنبي إعتراني بعض الفضول لأدخل الى هذه الحديقة وقد وافق أبي على ذلك لبرهة من الوقت كنت أنظر الى تلك الزهور الحمراء والصفراء الى أن قادتني قدماي الى تلك الصخرة الرخامية التي يعتلي عليها التمثال كان مكتوب عليها زعيم الفقراء سمعني البعض ذات يوم عندما كنت أتكلم معه بصوت عال وبنبرة ساخرة لطالما حدثني أبي وجدي عنك هل كنت حقا زعيما للفقراء والبائسين والكادحين والمعاقين والمشوهين والمتسولين والمعتوهين أم انهم جعلوا منك اسطورة وميثولوجيا خرافية ماورائية أم جعلوا منك إله اغريقي يقدمون إليك القرابين في حظيرتك القدسية … هل أنت من آلهة النار والدم التي اعتلت دفة الحكم في هذه البلاد التي صبت عليها المصائب والويلات وزجوا بها في حروب طائفية ومذهبية وغوغائية عبثية… كانوا يعزفون لنا بقيثارة الموت سمفونية صاخبة بصوت إنفجارات العبوات والاحزمة الناسفة والعربات المفخخة اللامتناهية .صار الدم يلون البيوت والدكاكين والأزقة والشوراع والمقاهي والحانات والاسواق والجوامع والكنائس والمدارس .إغتصبوا بغداد وجردوها من ثيابها قتلوا عروس العالم .كهرمانه مخضبه بالدماء بخناجر الاربعين حرامي وشهرزاد مقطوعة الراس في حضن شهريار ماتت معها الاقاصيص و ألف ليلة وساعة بغداد هربت عقاربها وما عادت تشير الى الوقت حمامات الدم وولائم الذبح في كل مكان انفتحت شهيه اخطبوط الموت ورغبته المقيته لإلتهام أبناء هذا الوطن أصبحنا لا نعرف معنى للحياة رسمت على وجوهنا لوحة بؤس كئيبة بدأت اتفقد الخربة وعيناني تتفحص المكان ..أين أنا يا ترى ؟ رحت أحاول أن أتذكر بعض الاشياء علني أصل الى حل هذا اللغز المحير الذي أتى بي الى هنا… نعم ها أنا أتذكر إسمي ….. أنا أدهم قنديل مذ كنت صغيرا كنت بائعا للأكياس البلاستيكية وقضيت عمري بعد ذلك أعمل بائعا للشاي في شارع الرشيد قرب احد المطاعم الشعبية لم أجني شيئا منها سوى بعض المال القليل الذي أجمعه لشراء بعض الكتب عندما أذهب الى شارع المتنبي كنت أجلس في مقهى الشاهبندر واستمتع بقراءة الكتب .أذهب تارة الى ابو صباح بائع الكتب الذي كنت ألقبه العم دوستويفسكي الذي أضناه التعب ومرارة الحياة أشتري بعض الكتب منه…وأتحدث معه
في بعض الاحيان كان يقول لي وقد ملئ محياه بعض الأسى .عندما كنا في مرحلة الصبا كان الكثير منا شغوفا بقراءة الكثير من الكتب لكن الان اصيب المجتمع ببعض الضمور والخنوع الفكري صبح الشاعر والاديب والمثقف والقارئ يعيشون حالة من الاغتراب في هذا المجتمع تجد الكثير عبارة عن جثه خاوية اصيبت بجوع فكري قد يتبين لك أن هذا مجتمع حي، لكنه مجتمع يحتضر ولا اظن انه يبقى على قيد الحياة.عندما ضربت العراق عاصفة الحصار الاقتصادي وعاني الكثير منا من الفقر والحرمان والعوز اجبرت في أحد الايام على بيع كتبي كنت أعتصر ألما عليها ..أحسست وكأني أبيع أطفالي بثمن بخس هكذا كنا نحرص ونحب الكتب والقراءة أما الان فقد
أصبحنا غرباء في ضل هذه الدوامة الفوضوية…..
بعد لحظات بدأ شريط ذاكرتي يعرض لي ما حل في عائلتي
,, قتل أبي إبان دخول القوات الامريكية الى بغداد لن أنسى ذلك المشهد المرعب الدموي الذي لا يزال عالقا في ذاكرتي عندما نشبت معارك بين القوات الامريكية وبعض الجماعات الاسلامية خرج أبي في ذلك الحين لكي يتفقد أخي الذي خرج من المنزل في تلك اللحظة عندما خرج رماه أحد قناصي القوات الامريكية برصاصة أردته قتيلا كنت أنظر اليه من نافذة المنزل وهو ملقى يلفظ انفاسه الاخيرة في وسط ذلك الزقاق ولا استطيع الخروج لكي انقذه
أخي هو الاخر لم يعد الى المنزل منذ تلك اللحظة وجدو جثته مقطوعة الراس عند نهر دجلة ………..
وتذكرت كيف خطفوني عندما كنت سائرا اتمشى بالقرب من ساحة الحرية بتجاه عملي واذا بثلاث مركبات تحيطني من كل جانب نزلوا خمسة اشخاص من مركباتهم وانهالو علية بالضرب والشتائم ثم وضعوعي على عيناي منديل وربطوه حول راسي وقيدوني بالحبال ثم وضعوني بداخل احد السيارات وانطلقوا
في تلك الاثناء بعد بضع ساعات سمعت صرير الباب المطل على الخربة ها هي قد انفتحت وخرج منه رجلا ضخم القامة ملئت قسمات وجهه سحنة وحشية يحمل بيده كلاشنكوف ركلني على ظهري بقدمه ثم حمل إناء يحتوي على ماء ورماه في وجهي ثم أردف يقول بنبرة ملأتها الخشونة قم أيها الكلب القذر وأمسك بي من خصلات شعري وسحبني بقوة كنت خائفا مرتعبا مذعورا وإزداد خفقان قلبي أحسست نفسي كأني شاة مقادة الى المسلخ قادني الى غرفة مظلمة اجلسني على مقعد قديم وقيدني عليه بعد لحظات ضغط على زر توهج مصباح تلك الغرفة كانت لا تحتوي على شيء سوى طاولة وأمامها كرسي بعد فترة من الوقت دخل علي رجل قصير القامة أصلع الراس متجهم الوجه وجلس امامي وبدأ التحقيق معي وقال ما اسمك ؟ أجبت أدهم قنديل .. هل انت شيعي ام سني ؟ كردي شيوعي كاثوليكي ايزيدي آشوري سومري طفيلي ام حشرة بشرية ..؟أجبته انا إنسان احمل في قلبي حب لكل تلك الأطياف التي ذكرتها انا أشترك معهم في الانسانية قام من مكانه وضربني برجله سقطت على الارض وقال بغضب شديد ما هذه الترهات التي تقولها هل تهزء بي ايها الحقير بعدها دخل أحدهم اجلسني على الكرسي مرة اخرى بعدها جلس جلادي وبدء يدخن وينفث الدخان في وجهي ثم قال .في اي زقاق تسكن ؟.أجبت اني اسكن في الحيدر خانة… اين تعمل ؟ صمت للحضات ثم أجبت أعمل بائعا للشاي في شارع الرشيد هل تنتمي الى حزب ؟ كلا ….اجبت عن كل هذه التساؤلات كنت أنظر اليه وهو في حالة عدم اطمئنان من اجابتي أنظر في عيناه وهي تحمل في طياتها حقدا علي ثم نادى الى أحد الرجال الذي يقف خلف الباب وأمرهه أن يأخذني وقادني الى تلك الخربة ودخل معه رجلان بعد ذلك بدأوا بضربي ضربا مبرحا بعدها ضربني أحدهم بعمود حديدي على راسي أفقدني وعيي بعدها حملوني ورموا بجثتي في مكب النفايات ظلت جثتي تصارع البرد القارس والاكياس البلاستيكية المتخمة من القمامة وعلب سمك السردين ومعجون الطماطم والخرق والذباب والقطط والكلاب والاشباح بقيت على هذه الحالة يوما كاملا الى أن جاء أحدهم وجدني على هذه الحالة الفوضوية وانا اتوسد على رمضاء القمامة اقترب مني شيئا فشيئا أحس بأن جثتي فيها رمق من الحياة نهض مسرعا راح يبحث عن سيارة إجرة بعد برهة من الزمن احضر السيارة وقد ترجل هو والسائق وحملوني ثم وضعوني في داخلها وراح السائق مسرعا يدخل من زقاق الى زقاق ومن محلة الى محلة الى أن وصلوا الى مستشفى وحملوني الى الداخل ووضعوني على أحد الأسرة داخل قاعة كبيرة حضر الطبيب مسرعا يتفحصني ومد يده الى راسي يتفحصه ببطء شديد لكن يده قد إنغرزت في الجزء الخلفي من راسي قد أحدثوا كسرا عميقا في جمجمتي نزفت كثيرا كان الدم متيبسا بين خصلات شعري نقلوني الى غرفة العمليات بعدها أجروا لي هذه العملية بقيت خمسة أيام في غيبوبة عبثية إستفقت منها بحرارة دموع امي التي سقطت على يدي كنت أنظر اليها بغرائبية عجيبة ووجدت قد وضعوا على راسي بعض الضمادات الطبية في ذلك الحين لم اتذكر شيئا عما حصل لي ….

بعد خروجي من المشفى أصبت بشي من التشيؤ والضياع والاكتئاب الحاد والعقد النفسية من هذه الحالة التعسة التي وضعت بها .ذات يوم إستاجرت سيارة اجرة لتقلني الى المشفى لاكمال بعض الجلسات العلاجية صعدت تلك السيارة كان السائق رجل طاعن بالسن أشيب الشعر تنمو على وجهه بعض التجاعيد سألني عن اللفافات الطبية التي وضعوها على راسي وقال بنبرة مازحة كثر ياولدي في بلدنا عمليات التجميل وزراعة الشعر لعلك ممن يريد زراعة غابات الامازون على راسه وضحك قليلا لكني أجبته لا لقد تعرضت الى شظايا انفجار سيارة مفخخة أصابت جمجمتي لكني لم أمت كذبت عليه ولم اقل الحقيقة لاني لا أريد أن أدخل الى تفاصيل قصتي الأليمة أصابه وابل من الحياء وقال لي انا آسف ياولدي على تلك المزحة الحمقاء لكني أردت تلطيف الحديث ولم اقصد الانتقاص منك أجبته لا داعي لذلك ثم قال بإستياء اللعنة على هذه الحكومة الحمقاء التي لم تفرض سيطرتها ولم توفر الامن والامان على بساط هذا الوطن القتل والدم والسحل والخراب والدمار والخطف والسلب والنهب واستلاب الحريات في كل مكان بعدها قال رحمة الله الواسعة على فلان كيف كانت الدولة مستقرة في زمانه تنعم بالامن والامان والكهرباء والماء قلت له وقد أصابني شي من الهستيريا والغضب عن اي فلان تترحم عن اي دولة تترحم دولة القمع والقتل والتنكيل رجل مريض معقد نفسيا أدخلنا في حروب هوجاء أرهقت هذا الشعب عن اي أمان تتحدث وقد كنا نعيش حالة من الرعب والهلع كان أبي وأمي يوصياني أن لا أتكلم عن اي شي فأن لهذه الجدران عيون واذآن عن أي شي أتحدث.. أتحدث عن المقابر الجماعية وتلال الجماجم البشرية أتذكر عندما يقع شخص ما فريسة تحت وَطِئَتْ أنيابهم ومخالبهم ينال أشد أنواع العذاب والتنكيل الضرب بالعصي والكيبلات والسياط والجلوس على القناني وكسر العظام وقطع اليد والاذن اما اذا اعدموه بالرصاص وأصابته لوثة الموت فلا يحق لأهله ان يقيموا مجلس عزاء وان يدفع ثمن طلقات الرصاص التي رست على جسده لم تطئ الرحمة يوما ما عند عتبة قلوبهم كانت أمي قبل أيام العيد تجلس خلف ماكنة الخياطة لتقلب عباءتها السوداء التي أصابها بعض الاحمرار الى بطانتها الداخلية لكي تظهر بالمظهر الجديد وترتديها كم كانت تذهب الى السوق لتبيع الرز والسكر والزيت لكي تشتري لنا بعض الملابس والاحذية لي ولاخوتي ويا لهذا الحذاء المسكين ورحلته الطويلة في قدمي كم كان يزور مرقع الاحذية ويقع تحت وطئت ماكنته مرارا وتكرارا قلت له بعد أن هدأت أن لا أدافع عن الحقبة الرعناء التي نعيشها الان من سياسات خاطئة ولهاث المسعورين والقتلة وبائعي الضمير حول السلطة وتهميش المكونات البشرية لكننا نعيش في كلا الحقبتين ديستوبيا واقعية نظر لي وقال ماذا تقصد بديستوبيا واقعية اجبته نحن نعيش حالة من الفوضى والعشوائية والدمار والاضطراب تتشظى الانسانية في بعض الانفس نعيش حالة من المرض والفقر والحرمان نعيش حالة من الفساد المالي والاداري والغش والرشوة وغسيل الاموال لماذا نجد الكثير من المتطرفين والمتشددين والمتعصبين والمتزمتين يسحبون الناس الى مستنقع الفتن والطائفية بين أطياف المجتمع وبالتالي يصعب جمعها في فسيفساء ملونة يجب علينا أن نتراحم ونتعاطف فيما بيننا وتسود بيننا المحبة والالفة والرحمة وتوحيد هذه الاطياف البشرية تحت مفردة التعايش السلمي وأن نصلح انفسنا قبل أصلاح المجتمع واستشهد بقول الشاعر …
إبدأ بنفسك وانهها عن غيها … فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ……. نظر الي وقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال لي بتألم وحزن
أتساءل في بعض الاحيان يا ولدي ما هذه اللعنة المقيتة التي حلت بهذا الوطن وما ذنب هذه التكوينات البشرية التي تعوم في مستنقع الدم والقتل والبارود بعدها اوصلني الى المشفى .
بعدما شفيت لم امضي في وطني سوى ثلاثة سنين بعدها هجرت الوطن أصبح العراق غابة مظلمة تحرسها الضباع ووحوش ضارية جاءت من مدن الضياع ومتاهة الدم والخراب…..

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات