17 نوفمبر، 2024 7:16 م
Search
Close this search box.

ديريك والكوت يمجِّد الفراغ على ضفاف العمر

ديريك والكوت يمجِّد الفراغ على ضفاف العمر

صفة الشاعر الكبير التي تبدو مبذولة هذه الأيام، تكتسب اعتبارها ومعناها الصريحين مع شعر ديريك والكوت، فالواقع إن هذا الشاعر الذي اضطر لاستدانة 200 دولار لطباعة ديوانه الأول «25 قصيدة» هو اليوم أهم الشعراء الأحياء الذين يكتبون بالإنكليزية. وصوتُ والكوت الذي ينحدر من «سانت لويسا» تلك المستعمرة البريطانية القديمة في جزر الأنتيل الصغرى يعيد الاعتبار إلى الشعر الكلاسيكي، لا بمعنى التقليدية والإعادة والترجيع، وإنما بالفخامة والقدرة على الخلود، والعبور في الزمن محتفظاً بتلك الأثيرية التي لا يفقد معها جماليته.

ديوانه الأخير «البلشون الأبيض» الحائز جائزة «إليوت 2011» قام بترجمته الشاعر العراقي المقيم في لندن غريب إسكندر مع مختارات إضافية، وصدرت تحت عنوان «هنا يكمن الفراغ» (دار التكوين – دمشق 2015) والبلشون الأبيض طائر شبيه بمالك الحزين يعيش قرب مياه البحار، يحضر بقوَّة في الكتاب إلى جانب الطبيعة، كشاهدَين على فناء الإنسان، وتحضر معه كذلك العديد من الطيور البحرية وغير البحرية كالنوارس، والغربان، والببغاوات، واللقالق، والكراكي وسواها.

كتب والكوت ديوانه هذا وهو في الثمانين من عمره، واقفاً فيه على ضفاف العمر، ولكن معبراً عن اعتزازه «بضوء الثمانين الغامض» ممتنُّا لهذه البرهة/ الخاتمة التي لا تخصُّ أحداً سواه، عائداً إلى عوالمه الأولى في جزيرته الصغيرة على المحيط الكاريبي، ومنها يستعيد عوالم جمعية كونية، لا سواحل لها من دون أن يهمل العناية بنفسه:«رجلٌ عجوزٌ في عالمٍ مُعتم/ الفرحُ علامتُهُ فقط/بينما الصمتُ علامةُ الشوارعِ المنكوبةِ /حيثُ لا كلب ينبح» «سأجلس هناك وحيداً/ شاعر عجوز مع أفكار بيضاء»

حتى يبدو سنّ التعاقُد حلفاً مع الإصغاء إلى الأعماق، وتغدو الشيخوخة رحلة غير متعجلة في البعيد لإعادة استكشاف الآني، حيث المدن تنكشف عن هوية تاريخية مُوغلة في أسطوريتها، وهو يستعيد تاريخها المندثر، ويعيد صياغة صورتها من خلال مصيرها، لا من خلال التبدلات المكانية العارضة فيها. وأمام موت الأصدقاء تحضر أسراب البلشون الأبيض لترسم لوحة الخلود بأجنحتها في العواصف والأمطار:

«أصدقائي، على قِلَّةِ ما تبقَّى مِنهُمْ،/ماتوا، لكنَّ البلشونات تتبخترُ في المطر/كما لو أنَّ لا شيءَ مميتاً يمكنُهُ النيلَ منها». وفي غياب أصدقائه الحياتيين، يسعى إلى إيجاد صداقات بديلة في الزمن المتدفّق عبر العصور فيخاطبُ أنداده التاريخيين: هوميروس، هوراس، فيرجيل، بترارك، سرفانتس، كونراد، لوركا، كواسيمودو، بليك، فان كوخ، وأسماء كثيرة تزدحم بها قصائد الديوان.

وعلى رغم هذا الاحتدام الزمني إلا أننا نجد صاحب «حياة أخرى» شاعر عزلة شاسعة ومضيئة وكاهناً في كنيسة التأمُّلات، فبينما تمرحُ الطبيعة من حولهُ وتصطخب وهي تمارس تحوّلاتها في مشهد مضّطرب، فإنَّ بصيرته الداخلية تعيدُ تشكيل ذلك الاضطراب من حوله بمزيد من الصفاء والطمأنينة، كأنه يُروِّض هياج الموجة، وحرارة الشمس، وعتوّ الرياح، وحركة المراكب، وضجيج المرافئ على سواحل الأنتيل، ليحيلها إلى ممرٍّ ومرايا يستقبل من خلالهما الذكريات. وبينما يتأمَّل «سعادة الفشل» في الوقت الذي تحلّق الطيور البحرية، وتسافر المراكب، فإنَّ للعجوز الجالس أمام البحر سفراً من نوع آخر ليفتح لنا شاعر «المسافر المحظوظ» خريطة أخرى تتّسم بنوع من العود الأبديّ فالزمن لديه متصل وبكثافة صُلبة: «لم تكنْ هناك حاجةٌ للسَّفر إلى هذا البُعْد/كي أتعرَّفَ على أشياءَ أعرفُها من قَبْل».

الملحمة المحليَّة

الأجواء الملحمية في شعر والكوت، سمة واضحة في مجمل تجربته فقد رسَّخَها عبر مطولات شعرية وأعمال مسرحية متواصلة، وهي تعود في هذا الديوان للحضور بصيغة أخرى. وإذا كان البحر هو مسرح الأسطورة الكبرى والملحمة التي لا تنتهي، فإنَّه جعل أبطالها عمَّال الموانئ الذين تتداخلُ في شخصياتهم ظلال المحاربين والتائهين، عندما أحال الملحمة الإغريقية، إلى ملحمة بحرية محلية أبطالها هؤلاء العمَّال، فاستعاد طروادة هوميروس في جزر الأنتيل الصغيرة، وأعاد مشهدية الحب والحرب بين الصيادين في البحر الكاريبي في ديوانه «أوميروس» الذي كان سبباً لنيله نوبل الآداب عام 1992.

بيد أن الصياغة الجديدة للملحمة في هذه المختارات تتمثّل في كون قصائدها تتفاعل في ما بينها وتتصل مكونة أجواء ملحمة أخرى بمناخاتها، وبمعمارها المركّب والمحكم سواء على صعيد القصيدة بذاتها، أو على صعيد التماسك النهائي بين قصائد الديوان مجتمعة، إضافة إلى معمار صُوريّ فخم لخلق مشهدية واسعة ومحبوكة.

أشعار والكوت تتماهى بصورة لافتة مع تكوينه الذاتي والثقافي، فكلاهما ملتقى للثقافات، وبقدر ما ينطوي عليه شعره من تفاصيل يوميّة، فهو محتدم بتاريخيته وأسطوريّته، وهو شخصيّ بقدر كونيَّته، أنه من ذلك الشعر الذي لا ينظر إلى المكان بأبعاده الهندسية التقليدية الثلاثة، وإنما يعنى كثيراً برصد تصوّرات الحدس عن البعد الرابع، حيث يكشف اللثام عن شبح الزمن وظلاله المتنقلة في المكان رغم شحوبها، ويتجلى ذلك بوضوح منذ القصيدة الأولى في الكتاب «محاربو الترَّاكوتا» : «فلو كانت العهودُ مرئيَّةً لشاهدوا عهودَنا/ بيادقُ لا تتغيَّر بتغيُّرِ الضوء» كما أنَّ ثمة أصداء متلاطمة لمدنٍ قديمةٍ تلمع في حاضره وخاطره، فلا يرى صقلية ولا إسبانيا، لا سواحل الأدرياتيكي ولا شواطئ العرب إلا عبر ساحل لا ينتهي من التاريخ: «لا نكونُ تماماً حيثُ نكون، حتَّى في إيطاليا، إلا في مكانٍ آخر».

الاستعمار والتسامح

بينما يتّسم أدب ما بعد الكولونيالية، بكونه خطاباً نقديّاً للحقبة الاستعماريّة، ومحاكمة تنطوي في الغالب على ترجيح الإدانة والتجريم للآخر، إلا أن والكوت في تأمُّلاته الصافية يضفي نبرةً أخرى أكثر استرخاء في التعاطي مع الميراث الكولونيالي الثقيل والملتبس، فعلى رغم أنَّ هذا «الدخان خطيئة النار» وأن هذا الأرخبيل والجغرافيا المقهورة من المستعمرات ذنب الكولونياليات القديمة، إلا أنَّ المشكلة الحالية للعالم تكمن في مكان آخر، في هذه الريبة من الآخر والذعر والفوبيا من التواصل، ولهذا ينبغي الركون في نهاية المطاف إلى الهجنة الناعمة بين الخطيئة والتسامح، طالما أن الخريطة المتّسعة للإمبراطوريّة أصبحت ذكرى أطلال: «فجأة/لم تكنْ ثمَّةَ إمبراطوريَّة/انتصاراتُها هواء/ممالكُها مُوحلة». بينما نجد في قصيدة «شبح الإمبراطورية» إدانة مزدوجة: للهوَّة الكونرادية، ولإطروحات القطيعة المتبادلة وتلك العقدة المتسللة من «رواية إمبريالية عن القرن التاسع عشر» بين عالمين لا يمكن التكافؤ بينهما!

وفي قصيدتيه عن الرئيس الأميركي أوباما «أربعون فداناً» و«العالم ينتظر أوباما» صورة أخرى للتسامح ونهاية التاريخ العنصري، فيستعير في الأولى صورة الفلاح الأسود في شبابه من الحقبة التمييزية، ليحيي الرجل الخلاسي الذي أصبح أوَّل رئيس لأميركا لهُ أصولٌ زنجيَّة: «من الهَيَجانِ العظيم/يخرجُ رمزٌ واحدٌ/نقشُ شابٍ زنجيٍّ عندَ الفَجْر/بقبَّعةِ قَشٍّ وبدلةِ عَمَل/مثل رمزٍ نبوءةٍ مُستحيلة». الحلّ يكمن إذاً في التعايش بين العقل الإغريقي والمجد الروماني إلى جانب الخرافات المحليَّة وأعاجيب القدِّيسين والقدِّيسات: «كلُّ تلكَ الموانئ الصغيرة سُمِّيتْ بأسماءِ القدِّيسين/لإزالةِ الحُزْنِ الِّذي كانَتْهُ صقلية».

في الديوان حسٌّ رثائي واضح، لكن والكوت لا يتجادل مع الموت كثيراً، فهو لا يرى فيه نهاية شاملة، بل هو نوع من الغياب، ينبئ عنه حضورٌ، وتدوِّنه أمكنةٌ، ولهذا يتذرّع بأزلية الطبيعة إزاء فناء الإنسان: «أفتحُ كُتُبَهمْ كي أرى صورَهمُ البَعِيدَةَ/التي غالباً ما تقتربُ لتصل/فأسمعُ أصواتَهمْ/في صفحةٍ غائمةٍ مثل الأمواجِ المتكسِّرةِ في رأسي». وبين حتمية الموت، والحياة الوجيزة، تبدو الملحمة نوعاً من الخلاص، والكتابة استعارة أخرى للخلود.

عندما تكون موضوعات الشاعر كبيرة، وصوره الشعرية موسّعة ومركّبة ومفتوحة على التأويل، ولغته فخمة وبناؤه ملحمياً، تبدو صفة الشاعر الكبير التي يعيدها والكوت إلى الواجهة، مناسبة تماماً لهذا الشاعر الذي ينتمي إلى دهور بعيدة، بقدر التصاقه بلحظته الشخصية.
نقلا عن الحياة

أحدث المقالات