الإنتخابات في الولايات المتحدة دائما ما تُصور بأنها تنافس سياسي بين الحزبين العريقين الديمقراطي والجمهوري، فكل له برنامجه الإنتخابي وتوجهاته السياسية العامة. فالعملية السياسية متأرجحة بينهما، ومع أنَّ هنالك مرشحين من أحزاب صغيرة أخرى، كالحزب الليبرالي وحزب الخضر وحتى الحزب الشيوعي، ولكن التصويت لهم مجتمعين قد لا يتجاوز العشرة في المائة من الأصوات.
في هذه المرة، فإن التنافس لم يكن بين حزبين بقدر ما كان بين شخصيتين قويتين للغاية. كان في الجانب الديمقراطي هليري كلنتون التي قضت أكثر من ثلاثين عاماً في العمل السياسي، وتبوأت أعلى المناصب من عضوة في مجلس الشيوخ الى وزيرة الخارجية ومن ثم قيادة الحزب الديمقراطي وحصولها على الترشيح الرسمي منه. فهي، كما وصفها الرئيس أوباما، بأنها صاحبة خبرة وقدرة في تبوء منصب الرئاسة حتى أكثر منه ومن زوجها بيل كلنتون. من جهة الجمهورين، كان دونالد ترمب، رجل الأعمال الأكثر شهرة وإثارة منذ ثمانينات القرن الماضي، ويعتبر الوحيد من بين الرؤساء الذي ليست لديه أية خبرة في إدارة الدولة أو أحدى الولايات، أو حتى خدمة في الجيش الأمريكي. فهو شخصية تدعو الى التغيير ولكنها من خارج نطاق النخبة السياسية بالمرة. فقد نبذه وندد به أغلب قيادات الحزب الجمهوري، فهو لا يمثلهم ولا يحظى بالدعم منهم. في نهاية المطاف، فإن الشعب إختار صاحب شعار التغيير على من لديها الخبرة. فطبيعة الشعب الامريكي أنه دائما ما يحذو نحو التغيير، وخلال أكثر من ستين عاماً لم يصوت الى ولاية ثالثة لحزب حاكم، إلا مرة واحدة وهي عندما إنتخب لمرة واحدة بوش الأب بعد إنتهاء حكم ريغن من الحزب الجمهوري. فالتغيير هو سمة الشعب الامريكي حتى لو كانت انجازات رئيس الحزب الحاكم عظيمة.
في هذه الإنتخابات، بعد أن تخلى الحزب الجمهورية بصورة ملفتة للنظر عن مرشحه، اصطفت جميع النخب السياسية والمالية والإقتصادية والإعلامية والفكرية والفنية مع مرشحة الحزب الديمقراطي، هليري كلنتون، وكانت وسائل الإعلام تعطي الإنطباع بأنها قد ضمنت الفوز بالانتخابات لا محالة. ولكن كانت الغالبية البيضاء (70% من الشعب الامريكي من أصول أوربية) تشعر بالتهميش من قبل تلك النخب المسيطرة على كل مرافق الدولة والإقتصاد وكأنها تغرد خارج إهتمامات أغلبية الأمة وتطلعاتها ورؤيتها. فكان التصويت لشخصية من خارج سرب تلك النخب، رجل الأعمال ترمب، هو خيارها الوحيد على الرغم من تصريحاته التي توصف بالرعناء أو المقززة للذوق أو العرف العام. فبالنسبة للغالبية البيضاء التي شعرت
بالتهميش، فإن التصويت الى ترمب هو التعبير عن حالة الرفض لتلك النخب التي لا تعبر عن تطلعاتها وفشلت – بنظرها- في إدارة الدولة وتحقيق النمو الإقتصادي المفترض والقيام بإصلاحات وسياسات عامة للنظام القائم. فيمكن إعتبار هذا التصويت على أنه ثورة ذوي البشرة البيضاء (ثورة الرجال البِيِض بالتحديد).
فقد كانت الإنتخابات تجري ليس بين حزبين، ولكن بتحالف التيار المحافظ مع التيار اليميني الذي يمثل غالبيته الفئات الدينية المسيحية المحافظة بضمنهم الطائفين والمتعصبين ضد التيار الليبرالي، الذي بدأ يدافع عن حقوق الأقليات ويطرح السياسات العامة في العلاقات العائلية الشخصية (مثل الإجهاض وزواج المثليين) المخالفة للأعراف والقيم المسيحية. فالملاحظ إن هنالك انقسام حاد في المجتمع الامريكي – حالة الإستقطاب الواضح والمُبين بين إتجاهين نقيضين، بين إئتلاف التيار اليميني-المحافظ مع المتذمرين من سوء الوضع العام (الإقتصادي والإداري وكذلك المشاعر العنصرية ضد الملونيين وباقي الأقليات) وبين التيار الليبرالي-التقدمي الذي يدعو الى تغيير يكاد يكون جذريا (راديكالياً) كما كان يطرحه ساندرز المنافس الديمقراطي لكلينون. وفي النهاية إصطفت جميع النخب مع مرشحتهم – هليري كلنتون ضد الغريب عن سربهم والدخيل على العمل السياسي وحديث العهد في السياسة، رونلد ترمب.
وقد لا تعنينا الإختلافات بين الطرفين في السياسة الداخلية، فهذا الإنقسام بين التوجه الليبرالي والخط المسيحي المحافظ كما هو معرف محلياً متجذر في التاريخ السياسي الامريكي. ولكن الملفت للنظر هو أن ترمب لا يمثل قطعاً في سلوكه وتصرفاته الإلتزام بالقيم المسيحية بل يخالفها تماماً، ولكنه أصبح يمثل توجهاتهم في الوقوف بوجه النخب الحاكمة على الرغم من كونه من طبقة المليارديرية المنتفعين. فهو بالاحرى ليس خارج الطبقة الرأسمالية الحاكمة في البلاد، ولكنه يغرد بالشعارات الشوفونية التي تقبع في خوالج ومشاعر الأغلبية.
ان الذي يعنينا من الإنتخابات الامريكية هو السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفي منطقتنا بالذات. دائما ما تتأرجح علاقات أمريكا مع العالم بين توجه التدخل في القضايا الدولية وبين توجه الإنعزالية والإبتعاد عن التدخل بصورة سافرة في شؤون الدول الآخرى، لأن هذا التدخل دائما ما يجلب الضرر أو التورط العسكري، وهنالك هدر للدماء والموارد الاقتصادية.
خلال العقدين الماضيين، وبالتحديد منذ عهد الرئيس ريغن، سيطر المحافظون الجدد على مؤسسات رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فكان توجههم هو بالتدخل الإمريكي المباشر والسافر في شؤون العالم للمحافظة على ديمومة سيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولي. وبعد سقوط الإتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي كان هدفهم بأن تبقى الولايات المتحدة
المتربعة الوحيدة على قيادة النظام الدولي وأن يجعلوا القرن الواحد والعشرين هو القرن الأمريكي.
تقف هيلري كلنتون في جبهة المحافظين الجدد على الرغم من أنها تمثل الخط الليبرالي، فسياستها الخارجية منصبة على هذا التوجه، وكما يقال إنها لم تمانع أبداً أي توجه لشن الحروب. فهي “رجلة” أكثر من الرجال.
فقد كانت السياسة الخارجية لزوجها بيل كلنتون (الرئيس السابق) التوجه الدبلوماسي في حل الخلافات بين الدول، أما الرئيس باراك أوباما فقد فاز بالانتخابات بشعار إنهاء الحرب في العراق وإفغانستان، فنجح – شكليا على الأقل- في الأولى وفشل في الثانية. ففي كلتا الإدارتين الديمقراطيتين، كانت الولايات المتحدة لا تحبذ التدخل العسكري في شؤون الدول إلا ضمن تحالف دولي وبقرار من الأمم المتحدة. فهذه النظرة هي عاقبة الحرب ضد الإرهاب وإحتلال العراق ، والتي أصبح الشعب الامريكي من جرائها لا يريد التدخل بشن حروب جديدة بالمرة بعد أن خسر في ذلك التدخل المباشر في الدولتين المسلمتين الغالي والنفيس بما يزيد عن الترليون دولار ،على أقل تقدير، وآلاف القتلى والجرحى.
بالنسبة لكلنتون، فإنها في نظر الشعب الامريكي، هي المسؤولة عن نمو داعش عندما كانت وزيرة الخارجية، وهي التي دمرت كل من سوريا وليبيا وتسببت في موت السفير الامريكي مع الطاقم الدبلوماسي هنالك. وبما أن تأثير داعش وصل الى عقر دارهم في أوربا وحادثتين في الولايات المتحدة والصور المروعة عن همجية داعش وقتلهم بعض المواطنين الامريكيين ببشاعة العصور الوسطى. فالخبر الإعلامي الأول الذي يسمعوه ويشاهدوه يومياً المواطن الامريكي هو عن أحداث الحرب الأهلية في سوريا والحرب التي يشنها التحالف الدولي بقيادة الجيش الأمريكي على “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (اي داعش)” وبقية الدول العالم. فبسبب الصورة الدموية المفجعة والشنيعة التي تعرض عليه يومياً، أصبحت هنالك غالبية من الشعب الامريكي تلقي اللوم على هليري كلنتون بأن تلك الأخطاء الشنيعة في الحروب كانت بسببها.
سياسة ترمب الخارجية سوف تكون سياسة نأي النفس عن كل هذه الحروب والتدخلات في “الحروب الأهلية” التي يعتبرها الشعب الامريكي بأن لا ناقة لهم فيها ولا جمل – كما يقال.
بما أن دونالد ترمب هو رجل أعمال طوال حياته، ونشأ في عائلة خلفيتها العمل في التجارة والمال، فأن طبيعة رجل الأعمال هي الرؤية البراغماتية، فليس هنالك من مبادئ يستند عليها
ولا شعارات براقة. فسوف لن نسمع، إلا قليلاً ربما، من الآن فصاعداً شعارات نشر الديمقراطية والدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان أو جعل العالم على صنيعة أمريكا. كل ما في الأمر أن الشعار الإنتخابي الذي رفعه ترمب هو: لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. وبما أن رجل الأعمال بطبيعة عمله لا يستمع الى مستشاريه، فهو المالك وصاحب المال، فيأمر ويطاع، فقد يسمع ولكنه في الغالب لا يستمع، بل يتخذ قراره بنفسه. فهو ينظر الى المصلحة المادية، فقد يخاطر (وهذه صفة رجل الأعمال) ولكنه يخاطر عندما يكون متأكداً من إحتمالية الربح. ولكن النظام الامريكي هو نظام مؤسسات وهنالك توازن قوى بين السلطات الحاكمة، فإن “الرعونة” التي قد تصاحب قرارات وإعلانات الرئيس دونالد ترمب، سوف يجري تحييدها وتعديلها وإزالة مضاعفاتها السيئة قبل الموافقة على تنفيذها. فالحمد لله أنَّ هنالك دولة قانون ومبدأ توازن قوى بين السلطات تقلل من مخاطر التفرد في الحكم والحكم بإنفعالية ومزاجية.
في السياسة البراغماتية، سوف لن تكون هنالك من ضمانات لحلفاء الولايات المتحدة (أو كما يقال كتابة صك على بياض) إلا بمقدار ما ينفع أمريكا، فلا دفاع عنهم إلا بقدر ما تستفيد منهم امريكا.
هنالك أمران سيرسمان ملامح السياسة الأمريكية في منطقتنا في عهد ترمب:
أولاً: المساندة اللامحدودة لإسرائيل– لأن هذا من أساسيات السياسة الخارجية التي لامساس بها لأن دولة إسرائيل هي الحليف العضوي لحماية مصالح للولايات المتحدة، وكذلك لأنَّ الرئيس دائما ما يرغب في الولاية الثانية، وأن أصوات اليهود في الولايات المتحدة ودعمهم المالي هو أمر عليه أن يجذبه ويستميله وأن لا يتهاون فيه. فالجفاء العلني بين إسرائيل والرئيس اوباما سوف نتوقع أن يعقبه شهر عسل وعلاقة ود حميمة بين قادة اسرائيل والرئيس الجديد.
ثانياً: عرقلة تطبيق الإتفاق النووي مع إيران، لأن ترمب رئيس السلطة التنفيذية وهذه ضمن صلاحيته. وبما أنه إتفاق دولي لا يمكن للولايات المتحدة التنازل عنه، ولكنه يستطيع التباطئ في تطبيقه. فالإتفاق هو من إنجازات الرئيس اوباما، وإن ترمب عمل جاهدا طوال الثمانية أعوام الماضية ضده وقاد حملة التشكيك بأصالة مواطنته (اي الجنسية الأمريكية) أوباما. فسيعمل جاهداً على تحطيم إرث أوباما محلياً وخارجياً بصورة تدريجية. والإتفاق مع ايران هو من إنجازات اوباما.
فيما يخص العراق، فإن الحرب على داعش من الأولويات، ولكنه سوف لا يمانع الرئيس ترمب من التعاون مع الآخرين في القضاء عليهم (حتى من روسيا بوتن أوسوريا الأسد). فهذا الملف عليه أن يطوى، ثم يعلن الرئيس الجديد أنهى احدى مساوئ كلنتون وإنتصر على داعش، فيصبح هذا النصر بالنسبة له الفوز الأول والأرث الذي يدّعيه في العام الأول من حكمه، وبهذا سوف يزيد من شعبيته.