18 ديسمبر، 2024 7:03 م

دولة ورق وكارتون وجماعات وفصائل لاتعترف بالقانون وسياسيون ومسؤولون مغتربون

دولة ورق وكارتون وجماعات وفصائل لاتعترف بالقانون وسياسيون ومسؤولون مغتربون

دولة ورق وكارتون وجماعات وفصائل لاتعترف بالقانون وسياسيون ومسؤولون مغتربون , وجيب ليل وأخذ  عتابه وسيادة القانون أهم ركائز الدولة والمعبّر عن ضمانة حيويتها وشعارات فضفاضة وأستينسل معاد !!!

يتفق العلماء والباحثون في الحقل السياسي والنظرية السياسية وعلم الاجتماع السياسي على أن الدولة فضاء حقوقي وسياسي وأخلاقي، عام ومشترك بين جميع مواطنات الدولة المعنية ومواطنيها، بلا أي تفريق أو تمييز بسبب العرق  والإثنية و”القومية” أو بسبب اختلاف الجنس أو الدين أو المذهب أو لون البشرة أو من حيث اللغة والثقافة والاتجاه الفكري والانتماء السياسي، ويتفقون على اعتبار الدولة شخصاً معنوياً، لا تتصف بأي صفة من صفات الشخص الطبيعي، زيد أو عمرو أو هند وزينب، ولا يجوز أن توصف بأي منها، وأن جوهر الدولة أو روحها هو القانون العام، الذي يجسِّده الدستور والمدوّنة القانونية، والذي يسري على الجميع، حاكمين ومحكومين، بالتساوي.

ويتفق كثيرون من المفكرين العرب على أن مفهوم الدولة شاحب أو ضامر وملتبس في الثقافة العربية، القديمة والحديثة والمعاصرة، وأن العرب المعاصرين لم يعيشوا تجربة الدولة. وكلمة الدولة، في العربية، لا تدل على المعاني والقيم المتداولة اليوم في العالم بوجه عام، وفي البلدان المتقدمة بوجه خاص، وواقع “الدولة” أو واقع الحياة السياسية والأخلاقية للشعب لا يزال دون مستوى الدولة الحديثة والحياة السياسية والأخلاقية الحديثة. لذلك لا نرى في العالم العربي دولاً، بل أنظمة حكم عائلية وعشائرية وإثنية ومذهبية تسلطية ومستبدة، لا ترقى أي منها إلى مستوى دولة وطنية حديثة، بما في ذلك ما تسمّى “الدول العميقة”، كالدولة المصرية.

الدول التي كانت تسمّي نفسها دولاً “تقدمية” في الماضي القريب، نشأت، كغيرها، في الحقبة الكولونيالية، ثم أعادت المؤسسات العسكرية – الأمنية تشكيلها وفقاً لمصالحها ومصالح واجهاتها المدنية، الفئوية منها أو الحزبية، التي احتكرت الحياة السياسية، وقلصت مجال الدولة (العمومي) حتى تطابق مع مجال السلطة (الخصوصي)  في كل منها، فصارت الوطنية لا تعني شيئاً سوى الانتماء لحزب السلطة والولاء للقيادة الحكيمة، التي تقود المجتمع والدولة، وقد تقود تحالفاً “سياسياً”، كالجبهة الوطنية التقدمية، في سوريا والجبهة القومية السابقة في العراق. وقد أدت عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، إلى انكشاف النوى (جمع نواة) الصلبة لهذه النظم، وتآكل شرعيتها التقدمية، قومية كانت هذه الشرعية الأيديولوجية أم اشتراكية، ونخرها الفساد البنيوي، الذي من “طبائع الاستبداد“.

لكن الظاهرة الأحدث والأبرز في حياة هذه النظم العائلية والتسلطية، وفي الحياة السياسية والأخلاقية بوجه عام، هي اعتماد الحكومات على ميليشيات طائفية خالصة ومافيات اقتصادية وكتائب حزبية وفصائل مسلحة، كلها مناهضة للدولة الوطنية (العمومية)، وبعضها أقوى من الدولة ذاتها، كما في لبنان وفلسطين والعراق وما يمكن أن تؤول إليه الميليشيات والعصابات في سوريا. واخترع العراقيون خاصة مفهوم “المكونات”، “مكونات المجتمع” أو “مكونات الشعب”، التي يعني الطوائف والإثنيات حصراً، ومكونات الدولة التي تعني الميليشيات المسلحة والمافيات الاقتصادية حصراً على ما بين هذه وتلك من تداخل وتضامن. ومن البديهي أن يغيب مفهوم الحزب السياسي، لا الحزب الأيديولوجي، القومي أو الإسلامي، بغياب مفهوم الدولة الوطنية، وتغيب معه منظمات المجتمع المدني. وقد استورد المثقفون والسياسيون السوريون هذا المفهوم الرديء “المكونات” وصار كاللازمة أو التيمة في خطاباتهم المختلفة والمتخالفة، يُظهر ما كان مخفياً من اتجاهات إثنية ودينية ومذهبية وطائفية.

وعلى سبيل الاستطراد، لا يمكن اعتبار “المنظمات غير الحكومية” المتكثرة والممولة من جهات خارجية رسمية وغير رسمية، منظمات مجتمع مدني؛ إذ لا يعقل أن تكون هناك منظمات مجتمع مدني من دون مجتمع مدني ودولة وطنية حديثة بالتلازم الضروري، المعرفي والأخلاقي والواقعي، بين المجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، التي تبدو لمواطناتها ومواطنيها، من الداخل دولة حريات أساسية وحقوق مدنية متساوية ومؤسسات عامة، وتبدو لغير مواطناتها ومواطنيها، من الخارج، دولة وطنية أو قومية، ولا فرق.

أردنا من الاستطراد السابق أن نشير إلى أن الميلشيات والعصابات تحل في البلدان المذكورة محل منظمات المجتمع المدني في البلدان المتقدمة، خاصة بغياب دور النقابات والأحزاب السياسية، فتغدو الفئات الاجتماعية رهائن لدى هذه الميليشيات والعصابات واحتياطياً بشرياً لتنظيماتها ومطارح كسب بلا تعب لقادتها وأعضائها أو موضوع نهب واستغلال وتسلط لهؤلاء وسادتهم.

السؤال، هنا، ما الذي يدفع حكومة، كالحكومة السورية، إلى شرعنة ميليشيا يفتقر أفرادها إلى الحد الأدنى من المعرفة والتعليم والكفاءة المهنية والجدارة الأخلاقية واعتبارها “جيش الدفاع الوطني”، مع وجود جيش نظامي استنزف الاقتصاد وقضم جزءاً من أعمار الشبان وحيواتهم على مر العقود؟ وما الذي يدفع حكومة كالحكومة العراقية إلى الرهان على الحشد الشعبي والعمل على شرعنته إلى جانب الجيش الذي أنفقت على تشكيله وتدريبه وتسليحه ما أنفقت، وما الذي يجعل السلطة الفلسطينة سلطة فصائل متناحرة محصلة تجاذباتها صفرية أو دون الصفر، وتستنزف القوى البشرية والمادية؟ وهل كان للبنان أن يكون ما هو عليه لولا شرعنة حزب الله الطائفي بقوة السلاح وضغوط لا تطاق من الحكومتين السورية والإيرانية؟.

النموذج النقي للميليشيا التي نعنيها، هو حزب الله في لبنان، لا حزب الله اللبناني، كما يسميه أنصاره والمذعنون لسيطرته، وهو حزب طائفي طائفية خالصة، مناهض للدولة أو لمشروع الدولة، ومسيطر عليها بقوة السلاح، وإيراني العقيدة والمنهج والتمويل والتسليح والتدريب والغايات والأهداف، علاوة على بنيته الشمولية المتوحشة وعقيدته الثأرية، التي تتخفى تحت شعار “المقاومة”. ولاء هذا الحزب – الميليشيا لإيران أكثر من ولائه للبنان، بصرف النظر عن مشاعر أفراده الواجدين فيه فرصة عمل مجزية، على الرغم من مخاطرها على حيواتهم، وبصرف النظر عن بيئته الاجتماعية المغلوبة على أمرها، فهو صورة واضحة وضوحاً تاما للميليشيات العراقية وبعض الفلسطينية والميليشيات السورية الأحدث عهداً، والتي يمكن أن يكون ولاؤها لإيران أو روسيا الاتحادية أو تركيا أو للسعودية وقطر أو غيرها أكثر من ولائها لسوريا، وإن كان قوامها البشري من المهمشين السوريين. أما المافيات الاقتصادية فولاؤها الأول والأخير لنفسها، بوصفها الوجه الآخر للسلطات الحاكمة هنا وهناك وشريكتها في إدارة النظام الميليشاوي الملائم للنظام المافيوي أشد الملاءمة.

ولعل النموذج النقي الآخر على الصعيد الإثني هو حزب العمال الكردساني، ذو النزعة اليسارية، في سوريا، الذي لا يختلف عن حزب البعث العربي الاشتراكي ذي النزعة اليسارية أيضاً، من حيث تطلعاته “القومية” وسعيه إلى احتكار السلطة والتفرد بالحكم، والذي لا يرى في سكان محافظة الحسكة السورية سوى شعوب كوردية وعربية وآشورية – كلدانية وأرمنية، ومذاهب دينية، على الرغم من حديثه المرسل عن “شرق أوسط ديمقراطي” وفدرالية سورية ديمقراطية حديثاً لا يتسق مع تعدد الشعوب والأمم في دولة واحدة كسوريا أو غيرها. هذا الحزب، لا يعدو، في نظرنا كونه ميليشيا إثنية مسلحة، وجهها الآخر مافيا اقتصادية، مثله مثل حزب البعث بكتائبه المسلحة وقيادته الحكيمة.

ليست الميليشيات والعصابات في هذه البلدان سوى تعبير عياني عن تفكك المجتمعات وتشظي السلطة المركزية واهتراء المؤسسات، في كل منها، بعد أن أجهزت السلطات المركزية على جنين المجتمع المدني، وعصفت بإمكانات الاندماج الاجتماعي وتشكل دول وطنية.

ومن اللافت للنظر أن الدول المؤثرة في السياسة الدولية، ولا سيما الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لا تزال تتعامل مع هذه النظم الميليشياوية على أنها دول، وتبارك هيمنة الميليشيات والمافيات الاقتصادية عليها، بل لعلها تتعامل مع هذه وتلك بصورة مباشرة، على أنها القوى التي تحقق مصالحها، وتضمنها في المستقبل المنظور. إن صيروة هذه النظم ميليشيات وعصابات هو ما يوفر الشروط المناسبة لهيمنة الروس والإيرانيين والأتراك والسعوديين والقطريين وكل من هب ودب وتحكُّمهم في أرواح الناس وممتلكاتهم وفي مصائر البلاد. وهو ما يوفر الشروط اللازمة لانقسام السوريين بين مرحبين بالاحتلال الروسي والاحتلال الإيراني، ومرحبين باحتلالات من ينافسونهم على الغنيمة، بعد أن وصلت الوطنية السورية المغدورة من أهلها إلى ما وصلت إليه من تهافت وخواء.

أينما ذهبت في البلدات والمدن السورية ترى مسلحين، يضعون شارات مختلفة، وتبدو على وجوههم  وأجسادهم آثار بؤس مزمن وحرمان من شروط الحياة الإنسانية والمكانة الاجتماعية، يتنمرون على الناس أو يستأسدون عليهم، ويوقفونهم على الحواجز، وفي عيونهم لا نظرات امتياز وتفوق وإشعاع سلطة شخصية مطلقة، بل نظرات شك في المدنيين العزل وتحرش بصري بالنساء، وازدراء بالشباب الذين يحملون وثائق التأجيل الدراسي من الخدمة العسكرية، وبمن تبدو عليهم بعض سمات التمدن. أينما ذهبت في سوريا ترى مظاهر الهمجية والتوحش والانحطاط الأخلاقي، بسبب اضمحلال الدولة وانعدام القانون، وعربدة منطق القوة والغلبة والقهر، وتنامي مشاعر الكراهية والحقد والانتقام والثأر.

نخشى أن يكون هؤلاء “النشامى” حكام سوريا القادمين و”حماة الوطن” والورثة الشرعيين لحكامها الحاليين. (بعض هؤلاء يضعون على أذرعتهم وصدورهم وظهورهم رقعاً كتب عليها “قادمون”). فإن سيرورة هدر الإنسان وهدر المؤسسات وهدر الدولة وهدر الوطن، هذه السيرورة التي لا تزال مستمرة، وتتعمق، وتتمادى، قد تجعل هذه البلدان بلا مستقبل، وغير صالحة للحياة الآدمية، تحكمها ميليشيات وعصابات، لا دول وحكومات.

 

يسيطر تحالف من ميليشيات وأحزاب ورجال أعمال ومسؤولين عراقيين على الحدود ومعابرها، ويحرم الدولة التي تعاني أزمة اقتصادية من موارد غالية، في حين يبدو أن إعادة سيطرة الدولة على هذه المرافق شرط أساسي للإصلاح.

على طول الحدود البرية والبحرية للعراق، يقوم كارتيل متشابك ومعقد بعمليات تهرب جمركي يحول من خلالها الملايين من الدولارات، التي يفترض أن تدخل خزائن الحكومة، إلى جيوب أحزاب وجماعات مسلحة ومسؤولين. ويقول موظف جمارك إن هذه الشبكة المتداخلة “لا توصف. الأمر أسوأ من شريعة الغاب“.

في البلد الذي يحتل المرتبة 21 في العالم في سلم الفساد، وفق منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، تعبد البيروقراطية المملة والفساد المزمن طريقا إلى امتصاص موارد الدولة، خصوصا رسوم الجمارك التي تعد المصدر الأهم للعائدات، لكن الحكومة العراقية المركزية لا تتحكم في هذه الموارد التي تتوزع على أحزاب ومجموعات مسلحة غالبيتها مقربة من إيران تتقاسم السطوة على المنافذ الحدودية وتختلس عبرها ما أمكن من الأموال.

ويقول وزير المالية العراقي علي علاوي: “هناك نوع من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين”، مشيرا الى أن “هذا النظام ككل يساهم في نهب الدولة“.

ويستورد العراق الغالبية العظمى من بضائعه، ويعتمد في الغالب على إيران وتركيا والصين في كل شيء من الغاز الى الكهرباء والطعام والإلكترونيات.

رسميا، استورد العراق ما قيمته 21 مليار دولار من السلع غير النفطية عام 2019، وفق أحدث البيانات التي قدمتها الحكومة، مرت معظمها عبر 5 معابر رسمية على الحدود مع إيران، التي يبلغ طولها 1600 كيلومتر، وواحد على الحدود مع تركيا الممتدة على قرابة 370 كيلومترا، وعبر ميناء أم قصر العملاق في محافظة البصرة الجنوبية قرب الحدود مع الكويت.

لكن نظام الاستيراد العراقي مرهق وعفا عليه الزمن، فقد تحدث تقرير للبنك الدولي عام 2020 عن “تأخيرات لا تنتهي، ورسوم مرتفعة واستغلال”. وقال مستورد يتخذ من دولة في الشرق الأوسط مركزا لعمله: “إذا كنت تريد أن تستورد بالطريقة الصحيحة، تنتهي بأن تدفع آلاف الدولارات كغرامة تأخير”، مضيفا أن هذا النظام “مصمم للفشل“.

وأدى ذلك، وفق مسؤولين وعمال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد مواز عبر المعابر البرية وميناء أم قصر، تتولاه أحزاب ومجموعات مسلحة، وتتحقق معظم الأرباح من ميناء أم القصر كونه المنفذ الذي تدخل عبره الكمية الأكبر من البضائع.

وأكد مسؤولون أن غالبية نقاط الدخول تسيطر عليها بشكل غير رسمي فصائل تنتمي الى الحشد الشعبي، مثل “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله”، ويعمل أعضاء الأحزاب والفصائل المستفيدة من ذلك أو معارفهم وأقاربهم كوكلاء حدود أو مفتشين وفي الشرطة، ويتقاضون مبالغ مالية من المستوردين الذين يريدون تجاوز الإجراءات الرسمية أو الحصول على حسم على الرسوم.

وأكد عمال ميناء أم قصر ومسؤولون ومحللون أن “منظمة بدر” مثلا، وهو فصيل تأسس بإيران في الثمانينيات، تدير معبر مندلي على الحدود الإيرانية. وأحد الأشخاص الرئيسيين في عجلة الفساد، هو “المخلِص”، أي موظف الجمارك الحكومي الذي غالبا ما يعمل كوسيط للجماعات المسلحة والأحزاب السياسية.

بعد الدفع نقدا مقابل عمليات صغيرة أو عبر تحويلات مصرفية لصفقات أكبر، يقوم المخلص بتزوير الأوراق الرسمية، عبر تحريف نوع السلعة التي يتم استيرادها أو عددها وقيمتها الإجمالية، مما يؤدي إلى خفض قيمة الرسوم الجمركية التي على التجار دفعها، والتي تكون في النهاية أقل بكثير من القيمة الفعلية للبضائع.

ومن خلال علاقات مع أشخاص نافذين، تتسرب بعض البضائع دون تدقيق على الإطلاق. وفي حالات أخرى، يأخذ التجار تراخيص استيراد وإيصالات مزورة إلى البنك المركزي العراقي الذي يرسل بعد ذلك دفعة بالدولار الأميركي إلى شركة شحن وهمية خارج البلاد، وتسمح هذه المعاملات بغسل الأموال.

وأشار مستورد إلى أنه دفع 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفة قانونية، مضيفا أنه يدفع بانتظام “رشوة لضابط في شرطة الموانئ” ليبلغه بعمليات التفتيش المفاجئة. ومقابل رسوم إضافية، عرض الضابط عليه “إرسال دوريات لتعطيل خروج بضائع منافسة“.

وكونهم يعتبرون المنافذ الحدودية مصدرا غير متناه للمال، يدفع الموظفون العامون أموالا لرؤسائهم لتعيينهم هناك، ويفاخر مسؤول في معبر مندلي بالقول إن المعبر يدر رشاوى تصل إلى عشرة آلاف دولار لأصغر موظف كل يوم.

ويعرب وزير المالية علاوي عن أسفه قائلا: “يتراوح سعر أصغر وظيفة في الجمارك بين 50 إلى 100 ألف دولار، وفي بعض الأحيان ترتفع إلى أضعاف ذلك“.

وتستخدم الأحزاب والجماعات المسلحة نفوذها السياسي للاحتفاظ بمواقعها هذه التي تسمح لها بتكديس الأموال، ولا تتوانى عن التهديد باستخدام العنف. وقال موظف كبير في المنافذ الحدودية إنه يتلقى مكالمات منتظمة من أرقام خاصة تهدد بالتعرض لأقاربه بالاسم، في محاولة لترهيبه ودفعه إلى وقف عمليات التفتيش.

ومنذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الوزراء في مايو 2020، جعل مصطفى الكاظمي من إصلاح المعابر الحدودية أولوية قصوى، فمع الانخفاض الشديد بأسعار النفط، بات العراق بأمس الحاجة إلى عائدات إضافية.

وفي رحلات حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى أم قصر ومندلي، تعهد الكاظمي بإرسال قوات جديدة إلى كل منفذ حدودي وتطبيق المداورة في وظائف الجمارك بانتظام لتفكيك دوائر الفساد.

على الورق، يفترض أن يكون ذلك مجديا، وبشكل شبه يومي تفيد هيئة المنافذ الحدودية عن عمليات ضبط بضائع كانت هناك محاولات لتهريبها بدون دفع رسوم، لكن مع انخفاض الواردات عام 2020 بسبب فيروس كورونا، والإعفاءات الجمركية المؤقتة الممنوحة للأدوية والغذاء، كان التأثير الإجمالي لتلك الإجراءات متواضعا.

وقالت هيئة المنافذ الحدودية إن العراق حصد 818 مليون دولار من الرسوم في 2020، وهو مبلغ أعلى بقليل من 768 مليونا في 2019.

ويعتبر مستوردون ومخلصون ومسؤولون هذه الإجراءات ذرا للرماد في العيون، وقال مستوردون إنه في حين أن بعضهم يدفع الآن الرسوم الحكومية، فإنهم ما زالوا يدفعون في الوقت نفسه الى المخلصين للتأكد من أن البضائع لن يتم تأخيرها بشكل تعسفي.

وقال رجل أعمال عربي يقوم بتصدير بضائع الى العراق منذ أكثر من عقد “في النهاية، ندفع مرتين”. في غضون ذلك ، لم يتأثر أصحاب العلاقات الجيدة بالتدابير الجديدة. وقال مستورد عراقي: “لم يتغير شيء. يمكنك إدخال أسلحة أو أي شيء آخر تريده عبر مندلي بدون رخصة استيراد وبدون دفع رسوم جمركية“.

واعترف المسؤول الحدودي الكبير بأن بعض عمليات نشر إضافية لعناصر أمن تم التعهد بها، لم تحدث قط.

ويقول المستوردون والمسؤولون إن السبب الرئيسي في فشل تلك التدابير هو أن “تناوب الموظفين لم يشمل عنصرا حاسما في آلة الفساد: المخلص“.

وتوقع مسؤولون أن يتجنب التجار بشكل متزايد المعابر التي تديرها الدولة، ويعتمدوا إما على التهريب أو الاستيراد بشكل غير رسمي عبر كردستان شمالا، محذرين من أن تفكيك الشبكة بالكامل سيؤدي إلى عنف قد يكون الكاظمي غير مستعد له. وقال ضابط المخابرات: “هذه المصالح تساوي ملايين الدولارات. رصيف واحد في أم قصر يعادل ميزانية دولة”، مضيفا: “لن يتنازلوا بسهولة“.

 

سيادة القانون أهم ركائز الدولة والمعبّر عن ضمانة حيويتها، وهذا ما تحاول حكومة بغداد ترجمته إلى واقع رغم العوائق الكثيرة وعلى رأسها تدخلات الملالي، وارتباك القوى الغربية في التعامل مع الميليشيا وآيديولوجيتها وشبكاتها وقوتها بما يفوق الارتباك في لحظة الربيع العربي، والتعامل مع التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية بحكم أن الأخيرة أجبرت منطق سيادة القانون ومصلحة الدولة الغربية أن يخرج عن حياده البارد حين تم استهداف عواصم غربية بالإرهاب، لكن تراخيه اليوم في الوقوف تجاه ذات الإرهاب الميليشياوي برافعة طائفية، لأنه مرتبط بتطرف دولة الملالي الذي يرسل شعارات الوعد والوعيد للغرب وصواريخه، واستهدافه لدول المنطقة في ازدواجية تبدو غير محفّزة للمجتمع الدولي على التدخل خارج أقواس الإدانة كما رأينا في التعامل مع ميليشيا الحوثي أو الميليشيات بالمئات في دول التوتر، لكن العراق حاول أن يخرج من هذا السائد في التصالح مع منطق المتطرف وفرض ذلك كواقع بالقوة حين اعتقل قاسم مصلح قائد اللواء الثالث عشر بقوات «الحشد الشعبي» أو ما يعرف بـ«لواء الطفوف» والمدان بعدة اغتيالات بشعة وترويع الآمنين والنشطاء ضد التدخلات الفجّة من دولة الملالي.

جراحات العراق الدامية التي جزء منها مرتبط بحالة الاستعجال والإهمال والارتباك في المقاربة الغربية منذ لحظة سقوط نظام البعث، بحاجة إلى مراجعات نقدية ومساءلات طويلة حول المقاربة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في طرح مفهوم الدولة الشكلانية والتعامل مع مناطق التوتر عبر فرض الأمر الواقع وإطالة أمد الأزمة، ومحاولة الخروج بأقل قدر من الخسائر ولو بتوريث كوارث تحتاج إلى عقود، أو ما يمكن أن أصفه بـ«متلازمة أفغانستان» الذي تشبه العودة الأبدية لحالة ما قبل الدولة.

المجتمع الدولي بمنظماته الكبرى يعاني من إشكالية كبرى في قراءة حالة العنف المنظم، ويخطئ في توصيفه على أنه نزاع سياسي أو حرب أهلية. عنف التنظيمات والميليشيات الآيديولوجية بشقيها السني والشيعي من «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما إلى الحوثيين، هو عنف أقليات عقائدية لا يمكن أن تمارس الخطاب السياسي بشكل مراوغ وبراغماتي، لكنها تنجح لكونها مسنودة بصمت الأكثرية غير المسيسة، التي تعتقد أن إدانة العنف خيانة للذات. من جهة أخرى دخلت على الخط مجموعات منتفعة من العنف عبر استغلاله سياسياً، سواء في تضخيم المسألة، أو تحويلها إلى صراع أممي، وهنا تدخل على الخط إشكالية التقاطع مع الخارج؛ سواء كان استخبارات ودولاً وكيانات مركزية وجماعات مسلحة عابرة للقارات، كما رأينا في الكوادر الإيرانية وأخرى تابعة لـ«حزب الله» تقوم بتدريب ميليشيا الحوثيين على زرع الألغام، وتهريب الأسلحة، وإعادة تصنيع الصواريخ محلياً، إضافة إلى تكوين اقتصادات «الميليشيا» عبر النهب والسلب وبيع المساعدات الإنسانية، وهي ممارسات موثقة يعلمها كل من يتابع الملف اليمني عن كثب.

ما تفعله دولة الملالي بطهران اليوم في المنطقة بميليشياتها وشبكاتها لا يعبر عن تصدير للثورة فقط، وإنما تأسيس عقيدة عسكرية جديدة لتعميم نماذج دول الميليشيا في العواصم العربية استنساخاً لتلك التجربة التي شهدنا ولادتها وتضخمها واختطافها لمنطق الدولة في لبنان، والتي بدأت مع تجربة «حزب الله» الابن المدلل وصولاً إلى الأداة المفعلة عبر تبني ميليشيا الحوثي واستهدافه للأمن العالمي، هذا التبني الإيراني لأجنة الميليشيا أجهز على الحياة السياسية في المنطقة، رغم الفرص الكثيرة التي منحها وتمنحها دول الاعتدال لإعادة الأمل من زاوية الشراكات الاقتصادية وتقديم لغة الحوار والتفاوض، وصولاً إلى الاستثمار في مناطق متعثرة في القارة الأفريقية كما شاهدنا في الكلمة التي ألقاها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ورؤيته أن جزءاً من مشروع إصلاحات المنطقة وتأهيلها لمستقبل أفضل لا بد أن يمر عبر القارة السمراء بما تملكه من إمكانات وموارد وتحتاجه من شراكات على طريقة «ما ينفع الناس يمكث في الأرض».

في مقابل منطقة تعجّ بالميليشيات والاغتيال والدم تتمسك دول الاعتدال في مقدمتها السعودية رغم كل التشغيب بمنطق الدولة واحترام السيادة وقضية الاستقرار، محذرة أكثر من مرة من مغبة التساهل مع السلوك الإيراني الذي يدمر المنطقة، ويؤسس ليس للثورة فحسب بل لحالة «عسكرة» شاملة، يتم التصالح معها بشكل براغماتي ضيق من معسكرين؛ معسكر الأصوات الناقمة على الإدارة الأميركية السابقة في أميركا والتي تضغط على إدارة بايدن لخلق تفاوض هش، ومعسكر الباحثين عن فرص اقتصادية ولو على حساب أمن المنطقة من بعض الأجنحة في الدول الأوروبية التي تسعى إلى الانتعاش الاقتصادي ولو عبر التصالح مع تلك العقيدة العسكرية، وغض النظر عن جرائم إيران ضد شعبها ودول المنطقة، والتلكؤ في كل حدث سياسي يمس الخليج بشعارات تتصل بحقوق المرأة والإنسان في تناقضات بدأ الوعي والمناعة ضدها في تزايد في مجتمعات دول المنطقة.

تستلزم عسكرة المنطقة ومحاولة التصالح مع الميليشيا إعادة ترسيم أمن الخليج كأولوية قصوى، وتعميم رؤيته للمستقبل، والتعاون مع العقلاء في العالم لدعم مشروع الاستقرار المؤسس على أمن الأوطان حجر الأساس في رفاهية البشرية.