شنت مجموعة من القوات العسكرية التابعة لوزارة الداخلية قبل عدة أيام هجوما على عدد من النوادي الليلة والملاهي وفنادق الدرجة الاولى في بغداد، بدعوى مخالفتها لقوانين الحملة الإيمانية التي أطلقها النظام السابق عام 1994.
فجرت عملية الاقتحام حسب ما عرضته كاميرات المراقبة ونقلته وسائل الإعلام، بأسلوب أفلام الاكشن العربية القديمة، حيث تدخل قوات الأمن والشرطة فجأة ولا تتكلم مع اي احد وتبدأ بتحطيم كل شيء أمامها الأثاث والمحتويات فتسمع أصوات تكسر النوافذ والقناني الزجاجية وصحون الطعام، في الوقت نفسه تعتدي على العاملين بالضرب وتعتقل بشكل عشوائي اغلب الموجودين فنانيين ورواد وعاملين بسطاء اي كان، هذا ما حدث لان المقتحمين مشبعين بمشاهد درامية من تلك الأفلام، في حين ان رغبة التحطيم والتكسير عند كل إنسان حالة طبيعية، لولا القانون الذي يحكم البشر.
ان هذا الاعتداء ليس الأول من نوعه فقد سبقته اعتدائات أخرى كانت الأولى في كانون الأول 2009، والثاني في تشرين الثاني 2010، واعتداء آخر في العام 2012، بعد انتهاء الاعتداء الأخير اجتمع رئيس الحكومة مع القادة الامنيين، فيما عقد اجتماع آخر لقيادات وزارة الداخلية واصدر الجميع بيانات استنكار وتنديد، وجرى اعتقال المنفذين، فيما توعد المسؤولين بإنزال العقاب العادل بحق المجرمين.
السؤال الذي يجب طرحه ونحن نقرأ هذه الأحداث، يا ترى لما تتكرر هذه الاعتدائات؟ ومن المذنب؟ ولماذا تنفذ في كل مرة بهذا النفس الانتقامي؟ وأين دور المؤسسات الحكومية صاحبة الشأن في كل ذلك؟ …
للحدث وجهان ولكنهما لذات العملة، فاما العملة فهي غياب القانون، وضعف من يحميه ويسهر على تطبيقه، فالقانون كما هو معروف للجميع يمثل ” العقد” الذي يربط الشعب بالدولة، ويحدد واجبات وحقوق المتعاقدين، فيما الحكومة بأجهزتها هي العين الساهرة على تطبيق هذا القانون، وعند غياب او تقاعص اي طرف بواجباته فيسقط هذا العقد ويصبح كانه لم يكن، وهذا ما جرى في قضيتنا.
اما الوجهين، فلمن يريد فهم ما حدث بحيادية، فمن الافضل ان ينظر ويتعرف عليهما، فوجهها الأول هو دولة الملاهي، فمنذ التغيير عام 2003 اي منذ اثنا عشر عاما لا يوجد قانون واضح وصريح ينظم عمل المرافق السياحية، كما هو متعارف في كل دول العالم المتقدمة منها والنامية، حيث يوضح القانون لصاحب المرفق السياحي حقوقه وواجباته، فيعلم ما له وما عليه.
فيما يراقب وبشدة تطبيق هذا القانون من خلال جهاز امني متخصص، وهو ما يعرف بالشرطة السياحة، ويدرب هذا الجهاز على كيفية التعامل مع التجاوزات القانونية التي تحصل في تلك المرافق.
اما الواقع اليوم في اغلب تلك المرافق، فهو فوضى من العبث والفساد والدعارة المنظمة، وانتشار للرذيلة بكل ما للكلمة من معنى، وسط حماية من دولة الملاهي، والتي تعرف عن نفسها بانها خليط من بعض المتنفذين في مراكز صنع القرار وعدد من اصحاب رؤوس الأموال، وسط غياب لدولة القانون والتي اختفت بخجل غير مبرر.
فيما أمست هذه الأماكن أوكار للجريمة المنظمة، وسوقا للنخاسة يتاجر فيها الأقوياء وأصحاب النفوذ بالضعفاء الذين اضطرهم ضنك العيش وصعوبة الحياة لاختيار العمل تحت رحمة مثل هؤلاء وقواننهم الجائرة، بلا حول ولا قوة.
اما قوانينها فيحددها رجال العصابات والمافيات السياسية، الذين يديرون النشاطات ويجنون الأرباح، وينظمون الاعمال التي يزاولها كل مرفق، فيسمحون لذاك ويمنعون على آخر، فيما ترمى عائدات النفط وثمن قوت الشعب المسكين تحت أقدام ارذل الخلق وادنسهم، وخلف الستار تقف مجموعات مسلحة توفر الحماية والدعم اللوجستي لهذة الأماكن وفق اتاوات شهرية.
على الدولة والحكومة ان تحدد موقفها وبحزم، لمنع هكذا استهتار بالتراث البغدادي، فعاصمتنا ليست مرتع للدعارة والفجور تتحكم فيها مافيات الجريمة المنظمة، وفي الوقت ذاته هي ليست قندهار كما يحاول البعض يجبرها ان تكون.
اما الوجه الثاني لهذة الجريمة فهم أمراء الحرب وتجارها، وهنا تبرز مشكلة أخرى فأما الدولة أو الفوضى، فهذا الاعتداء وكما هو واضح قد تكرر في أزمنة مختلفة، وفي ظل ثلاث كابينات حكومية، وفي كل مرة تنتفض الحكومة بعد الحدث وتحاول لملمت ما يمكن لملمته، فتحاسب ذاك وتعتقل الآخر، وتفتح تحقيقا لاحتواء الجريمة، ولكن السؤال المحير لماذا لم يأتي تحرك الحكومة قبل الواقعة؟، ولماذا لا تعالج الداء وتنتصر عليه؟، بدل أستعمالها في كل مرة العلاجات المسكنة، والتي لا تغني ولا تسكت جوعا.
فرغم ان وضع الحكومة اليوم ليس في افضل حالاته، فالحرب المفروضة داخل البلاد تستنفذ طاقاتها ومواردها المادية والعسكرية، ولكنها مطالبة بتشريع القوانين وفرضها على الأطراف كافة، وهذا لا يتطلب قوات عسكرية، فمعركتها ستحسمها بإرادة سياسية تتعامل بقوة مع الخارجين على القانون، فتفرض احترامها وهيبتها على الجميع.
كما نتسأل اين دور وزارة السياحة، وهذة المرافق تدار وفق تعليمات تصدر منها، وتحت رقابتها، على الوزارة ان تكون أكثر فعالية في التعاطي مع هذا الحدث وهو قد تكرر لأكثر من مرة، فإذ كانت القوانين مشرعة في زمن النظام البائد وفق أهوائه ومزاجيته، فالواجب عليها قراءة القوانين مرة اخرى ودراستها وتعديلها، وطرحها في مجلس الوزراء لإقرارها والعمل بها، وبهذا نسحب البساط من تحت الخارجين عن القانون من كل الأطراف، ونقطع الطريق أمام المزايدين على الدين والأخلاق.
لا نريد ان تكون هذه الحادثة مؤشر سلبي على تنامي سلطة أمراء الحرب ونفوذهم، فبعد ان تحط الحرب أوزارها ويحرز النصر المبين، لن نسعد بان يتحول بلدنا الى دولة أمراء الحرب، لكل منهم مقاطعته أو “دوقيته” التي يفرض فيها قانونه وسلطته، فيما تغدو الدولة إرثا من اطلال الماضي، أو حكما عادلا يفض نزاعات معشر الأمراء .
ان الكرة في ملعب الحكومة وعليها ان تحزم أمرها، وتبدأ بتشريع قوانين تحدد اطر العمل في المرافق السياحية كافة، وفق مراقبة من قوات أمنية مهيئة للتعامل مع هكذا مرافق، وبطرق حضارية كما في جميع دول العالم المتحضر، والتي لا تسمح ان يفرض القانون ويطبق بمزاجية كل من “هب ودب”، هذا إذا كنا ما زلنا نحلم ببناء دولة ديمقراطية تحترم القانون وتطبقه، وإلا فالمعركة ستحسمها دولة الملاهي وليشرع أمراء الحرب قوانينهم.