17 نوفمبر، 2024 5:24 م
Search
Close this search box.

دولة الطوائف .. وشراكة المصالح

دولة الطوائف .. وشراكة المصالح

كل يوم يتأكد لدي الحكم الذي أصدرته على البداية التي شرعت بها الدولة العراقية الجديدة بعد نيسان 2003 والذي مفاده، أن العملية السياسية صممت بطريقة نظام منتج للخطأ، وليس نظام فيه بعض الخطأ، والفارق واضح للمتدبر.
استبشرنا كثيرا بعد تجاوز الأزمات السياسية الخانقة التي رافقت الانهيار الأمني الكامل في السنوات التي سبقت عام 2008 ،وكان المفروض أن تصاعد وتيرة الديمقراطية تتجه نحو الأعلى ،وان قواعد بناء الدولة تترسخ تدريجيا ،والذي يعني تكامل مؤسسات الدولة ،ووضوح خارطة الواجبات والحقوق لكل الموطنين ،لمن في السلطة أو المعارضة ،الحاكمين والمحكومين،ونضوج الأداء السياسي للقوى والأفراد ،إلا أن الأزمات المتتالية وخصوصا (أزمة الحكومة في المركز/السيد مسعود البرزاني) و جديدا (أزمة اعتقال حماية وزير المالية السيد رافع العيساوي وتبعاتها والتي تتصل بذيول وخيوط مع قضية طارق الهاشمي) ،تقوض هذا الانطباع وتعلي من قيمة خط التشاؤم إلى أعلى القيم.
وفي ظل هذا الوضع المتذبذب تلج في صدر المراقب من داخل العراق وخارجه مصفوفات من الأسئلة تتمثل في :لماذا تنتكس العملية السياسية من ابسط الطوارئ؟ ولماذا يعود الشركاء في العملية السياسية إلى خنادقهم الأولية في مواقع طوائفهم وقومياتهم عند النزاع على موضوع يتقاطع مع مصالحهم ؟ وأين هي نقطة الخلل في بناء الدولة العراقية الجديدة ؟ ومن يتحمل مسؤولية هذه الأزمات التي تنعكس طرديا على سوء الخدمات وتدهور الأمن وتطلق العنان للإرهاب ؟ والى متى يبقى العراقيون في حالة قلق ورعب من كل خصام سياسي؟هل من سبيل للخلاص ؟يعتقد البعض أن الشراكة غير المستقرة أسوء من الانفصال ،لذلك فان الحل الأنسب أن يذهب كل جمع أو طائفة على وجهها والى الوادي الذي تحب؟و يقف بالضد من هذا الرأي توجه آخر يعد الحديث بهذه الطريقة تفتيت لوحدة العراق و التي تمثل خطا احمرا ، ولا بد من عدم السماح لأي احد أن يفرط عقد الاجتماع العراقي بأي وسيلة كانت ،حتى وان اقتضت الضرورة لاستعمال القهر والقسر؟وتتولد من تلك المصفوفة أسئلة أخرى مفادها:هل نحن بحاجة إلى مزيد من الديمقراطية أم إلى مزيد من التنمية أم مزيد من العدالة؟ وهل نحن بحاجة إلى مزيد من الحزم ومواجهة الأزمات بالردع أم أننا بحاجة إلى مرونة اكبر وحوار أوسع وأعمق؟هل تتمثل المشكلة في عدم وجود تماثل وتناسق فكري وثقافي بين القوى والمكونات التي تشكل كيان الدولة والسلطة أم أن المصالح الشخصية والحزبية هي التي تحرك عجلة المشكلات والأزمات ،وان الأطراف يدافعون عن المصالح بتقمص شخصية المدافع عن تنوعهم الثقافي والفكري؟و هل أن هناك مشاكل جوهرية تقتضي معالجات جذرية أم أن هناك فن لتضخيم الأزمات ورغبات جهوية لاصطناع وافتعال أزمات لا جذور لها واقعا من أجل أغراض ومنافع شخصية ومكاسب انتخابية وسياسية؟
بالرجوع إلى ملامسة قريبة للازمتين محل النقاش وتطبيق أسئلة الإطار التساؤلي العام لهذا المقال عليها ،ما هي حقيقة الخلاف بين الأكراد وحكومة المركز،هل هي خلافات بين الأكراد كمكون والحكومة الاتحادية ،أم أنها خلافات بين الأكراد والسيد المالكي ،أم أنها خلافات بين أطراف محددين من الأكراد مع الحكومة الاتحادية ،أم أنها أزمة شخصية بين مسعود البارزاني والمالكي؟وما هو جوهر هذه الأزمة ،هل هو فعلا عدم وجود شراكة حقيقية في السلطة والقرار كما يقول الطرف الكردي ،أم أنها رغبة للتوسع في الحقوق وطلبات غير مشروعة مخالفة للدستور وتنصل عن الواجبات ،كما يراها طرف الحكومة الاتحادية؟ هل يؤمن السيد البارزاني أن المناطق المتنازع عليها أو المختلف بشأنها ،أو ….،هي مناطق لم يزل مصيرها غير واضح ،وانه ينتظر الإجراءات المحددة بالدستور والقوانين المتعلقة بهذا الملف ،ليذعن للنتائج التي تنتهي إليها تلك التسويات ،أم انه يعتقد بأنها مناطق كردستانية مغتصبة أو مخطوفة أو …وان عليه النضال من اجل استردادها وإلحاقها بكردستان؟وهل يؤمن الأكراد عامة والسيد مسعود البرزاني خاصة أن الجيش العراقي هو جيش يدافع عن كل العراقيين ،ومسؤولية احترامه وتطويره تقع على كل العراقيين ،أم انه ما زال ينظر إلى هذا الجيش بأنه جيش الحكومة التي يقف هو في طرف المعارضة منها ؟كيف يمكن قراءة الموقف الكردي من قيادة عمليات دجلة ،وكيف يمكن تفسير إطلاق قوات البيشمركة صواريخها على الطائرات التابعة للجيش العراقي ،هل يمكن فهم هذا التدافع الخطير في إطار أزمة ضيقة الحدود تتعلق بالموقف من مجموعة قطعات عسكرية ونشاط عسكري في مناطق معينة ،أم لا بد من قراءتها في ظل موقف شامل من الجيش العراقي ونشاطاته؟وما هي الشروط والضوابط التي على أساسها يعتبر الأكراد أنفسهم ممثلون حقيقة في الجيش العراقي ،وانه جيشهم؟هل تتصل هذه الأزمة بلعبة كسب المواقف والو لاءات من هذا المكون أو ذاك ،وهل يدرك المنخرطون في هذه اللعبة تداعيات وخواتيم لعبتهم؟وأخيرا ..هل مازال قادة الأكراد يؤمنون بأنهم ملتزمون بالشراكة في الوطن ،ويعملون على حماية هذه الشراكة ،أم أنهم قرروا فعلا (وبناء على مقولة حق تقرير المصير)الانفصال التدريجي من العراق؟وهل يتطابق الموقف الشعبي الكردي مع رغبة الانفصال ،أم أن ما يرشح هو ردود فعل طارئة لا ترقى إلى الرغبة المؤكدة بالاستقلال عن العراق؟ وهل يعد انفصال الأكراد حلا لمشاكل الدولة العراقية الجديدة؟
في اتجاه آخر ،وعلى الجبهة الأخرى ،تفتح قضية اعتقال مجموعة من حماية السيد رافع العيساوي وزير المالية السجال من جديد ،خصوصا بالاستناد إلى التصريحات التي أطلقها العيساوي بشان السيد المالكي ،والتي تبعتها تصريحات السيد صالح المطلك ومجموعة من قادة العراقية ،وتابعتها التظاهرات الغاضبة في بعض المناطق من محافظة الانبار. تعيد هذه الأزمة والمواقف منها إلى الأذهان أسئلة كنا قد تصورنا خطئا أن زمانها ولى وانقضى،والتي تتمثل في :هل يشعر السنة أنهم شركاء حقيقيون في السلطة والقرار؟وما هي حقيقة موقفهم وشعور الداخلي من الحكومة والدولة العراقية الجديدة ؟هل هناك شعور بان الدولة اختطفت منهم ،وأصبحوا غرباء في العراق؟هل يعرف قادة المكون السني حقيقة حجم حقهم في التمثيل السياسي لكنهم يحاولون الوصول إلى المزيد من المغانم والهيمنة بالاختفاء خلف مقولة تهميش السنة أم أنهم مقتنعون حقا بفكرة التهميش؟هل كان السيدان العيساوي والمطلق ووزراء العراقية يشعرون بالاحترام والالتزام أمام السيد المالكي بوصفه رئيسا لمجلس الوزراء وهم أعضاء في حكومته ،أم أن العلاقة كانت علاقة تخادم من اجل مصالح متبادلة ؟وهل أن الأزمة التي تفجرت وتداعياتها تتناسب مع طبيعة القضية المتعلقة بالمعتقلين ،أم أنها مجرد قشة يمكن أن تقصم ظهر الجمل المثقل أصلا بالكثير من الأحمال؟هل تعني التصريحات التي أطلقتها أطراف الأزمة ،أنها تصريحات طبيعية يمكن قراءتها في سياق الجدل السياسي الطبيعي المرافق للديمقراطية ،أم أن الحديث يكشف عن خصام عميق ومعركة جوهرية بين الأطراف؟ماذا يعني أن يكون حماية نائب رئيس الجمهورية وحماية وزير لوزارة سيادية متورطين في جرائم إرهاب ضد مواطني بلدهم ،هل يمكن قراءة هذا السلوك في إطار النظريات الجرمية والتفسيرات التقليدية للسلوك الإجرامي ،أم أن الأمر يحيل إلى دائرة اكبر من هذه السعة ،ويفتح الباب لأسئلة خطرة تتجاوز حدود الحديث عن أشخاص الحمايات وعناوينهم الوظيفية؟
هل فعلا أن الموضوع أزمات مفتعلة تقوم الحكومة بالضغط على القضاء من اجل تحريكها وتفعيلها ،وأنها إحدى وسائل الخصومة السياسية ،أم أن القضاء بعيد عن الضغوطات ،وان المتهمين أطراف مطلوبين للقضاء بقضايا ثبتت إدانتهم بها بالدلائل الأولية؟وكيف يطمئن المواطن إلى حكومة تتهم وقضاء يدعى بأنه يتأثر بالصراعات السياسية؟أين تكمن المشكلة (إذا كان ذاك صحيحا)هل في ضعف القضاء ،أم في هيمنة الحكومة التنفيذية وسعة سلطتها ،أم بثغرات قانونية تتيح للسلطات التنفيذية أن تتدخل في مثل تلك الأمور؟
ختاما، متى يعرف قادة جميع القوى السياسية في العراق ومن كل المكونات ،أن غالبية شعبهم غير معنيين بهذا الصراخ والسجال السياسي وتلك الأزمات ،وهم معنيون فقط، بالبحث عن عدل حكومتهم وإنصاف حقوقهم ،وضمان حرياتهم ،وتوفير لقمة عيش كريمة في بيئة آمنة ،وان انزعاجا عاما في كل العراق يكاد يكون سمة عامة قبال هذه الانتكاسات والأزمات التي تهدم يوميا مشروع بناء الدولة ،وتسد الطريق أمام التنمية ،وتفتح الباب واسعا للإرهاب ،وتعمل بقوة على تقويض الأمن وتبيح دماء العراقيين لأعدائهم.

مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات

أحدث المقالات