19 ديسمبر، 2024 12:12 ص

دولة الطائرة والخيط : بالحمار والفرس نصنع الإرهاب ونمنح الشهادة !

دولة الطائرة والخيط : بالحمار والفرس نصنع الإرهاب ونمنح الشهادة !

الكثير من حقول العمل ربما تخلق البيئة الفاسدة التي تتحول فيما بعد, بالطبع , إلى إستراتيجية للصراع تقوده دولة ما , أو قرية تدعي أنها دولة أو مكوّن معين ومن هذه الحقول على سبيل المثال : حقل السياسة والاقتصاد والخدمات العامة ذات الحزمة من الإجراءات الإدارية الروتينية ..الخ.

ولكن لنتوقف لنسأل: هل يعني أن السياسيين أو الاقتصاديين أو العاملين في حقل الخدمات العامة هم عناصر فاسدة ؟ الجواب: لا.. إذ نجد أغلب السياسيين هم من الضعفاء من ناحية القدرة على إدارة شؤون الدولة إلا أنهم ليسوا فاسدين, بل على العكس نراهم على أتم التوافق فيما بينهم وبين المادون في سلّم المسئولية من ناحية , ويظهرون واقعا مغايرا وجديدا وذلك باستحداث بنى تحتية تواكب العصر لبلدانهم , وإدخال البساطة في إجراءات الخدمات العامة لتسهيل حياة الإنسان المرتبطة بها من ناحية أخرى .

والأمثلة كثيرة إذا تقصّينا تاريخ السياسيين في العالم سواء في العراق القديم ( نبوخذنصر ) أوالحديث (السيد محمد الصدر ) أو اليونان القديم(أرستيديس ) أو أمريكا ( أبراهام لنكولن ) أو الهند ( غاندي ) أو في العالمين العربي ( عبد الناصر ) أوالإسلامي (مهاتير محمد ).

هذه الأسماء ليست بالضرورة أن تتخذ كقاعدة لتعضيد هذا المقال , لكنها على الأقل لم تغدوا طيلة بقائها في موقع المسؤولية مربضا للذباب او خدمة للكرسي , بل أنها عرفت بنزاهتها في مجال العمل السياسي إضافة إلى أنهم أقاموا تشريعات قانونية غيرت مجرى التأريخ, و أواصر إنسانية ارتكزت على الالتزام بقضايا شعوبهم من جهة , وبالطابع التواصلي بين شعوبهم والشعوب الأخرى من جهة أخرى .

إذن ما الذي يجري في هذه الحقول لتنشأ البيئة الفاسدة ؟!

هل هي الشخصية المسمومة (الحاقدة ), أم المختلة, أم المثيرة للقلاقل والفوضى المستفيدة من بيئة وطن غير توافقي أو مفكك, أم الشخصية الوضيعة أم الهزيلة ؟ !

في مثال الشخصية الحاقدة , يمكن أن نضع “هتلر” كنموذج لها ,فهو غير سوي ( = مختلّ عقليآ ) ومحب للسلطة ووقف ضد الشيوعية والسامية على حد سواء بعد أن تجمعت فيه عقدة التهميش والإلغاء ليتحول إلى غول عدواني ومريض , فحوّل نصف شعبه الألماني الذي أنتخبه إلى أموات ونصفه الآخر إلى معاقين متّبعا في ذلك مذهب دارون : البقاء للأصلح , الذي أستجدّ في تلك الفترة فأراد مناصريه تطبيقه على الشعوب!! فكانت ألمانيا فعلا أللأصلح لنفسها أن تؤول إلى الخراب بدلا عن هذا العالم الجميل .

أما مثال الشخصية المختلة الثانية , فهو “موسوليني” الرجل النرجسي ذو التعليم البسيط الملقب ب “قيصر نشارة المنشار” لتفاهته وكذبه ونفاقه, المتحول من الفكر

الاشتراكي إلى الفكر القومي الفاشي المتشدد والسائر على درب النازية لتطبيق نظرية أخرى للانحراف داخل أوربا العلم والحضارة, ثم حكم إيطاليا بالحديد والنار وأصبحت السلطة همّه الأول مهما كانت نتائجها .وأثبتت نرجسيتة جدارتها في إحالته إلى المرزاب وتدمير أعظم حضارة في أوربا وإحالتها إلى الخراب في نهاية غير مجيدة .

وفي الشخصية المثيرة للقلاقل نضع لها صورة كل من له إحساس عميق بلغة الخطاب السياسي الذي يتطاير منه الشرر ليدفع ثمنه فيما بعد من لا يملك شروى نقير .

أما مثال الشخصية الوضيعة فهي الشخصية الصهيونية على اختلاف أشكالها, لتمتعها بصفة الكذب والزيف واللف والدوران على مرّ السنين. وللتدليل على الشخصية الهزيلة, أنها متقلبة وتدّعي المعرفة وذات نبرة صوت مرتفع, يهدد ويتوعد ولا يحترم قوة الخصم بل يتنازع معه رغم ضعفه.

إذن في هذا التحديد من الأسباب نضع أنفسنا أمام عُقد تعود إلى أبعاد جينية – تربوية – أخلاقية . وبمجرد أن نقرأ هذه العُقد بصورة مفصّلة ومتكاملة يبرز أمامنا ما يجب عمله, ومن دون ذلك أو إغفاله فإننا لن نفهم لماذا يتحول العنصر البشري ضمن هذه الحقول أو الشخصيات – كناتج – إلى عنصر فاسد !

العقدة الأولى

في عالمنا يولد الناس في بيئات متعددة ومن أرحام متعددة , فمنهم من يولد في بيئة أكثر سكانها من المعدمين , ومنهم من يولد في بيئة سكانها من الأطباء أو المهندسين . ينتج مما ورد من هذه الاختلافات أن أفرادا من دولة واحدة يصبحون بعد عقود نتاج بيئة متناقضة ومتصارعة وصعبة التقبل من كلا الطرفين. وهذا ينطبق على البيئات الأخرى الخاصة بالفلاحين والعمال وغيرها .

ووفقا لذلك نجد الكثير من القادة القمعيين ومنهم هتلر وموسوليني الذين أمعنوا في الظلم والتهجير للقوميات من غير الألمانية أو الايطالية , والبعض من المسئولين سواء في العالم العربي بشكل عام أوفي العراق السابق بشكل خاص كانوا يدققون في مسقط رأس (=بيئة) كل من يغرد خارج السرب .

فهو بحسب اعتباراتهم يكون وفيا للمكان الذي ولد فيه . وهذا المكان يحتضن بيوضآ ستفقس عن ثعابين خرائب , فهو عدو مبين لهم دون أن يعلموا تارة , ويعلمون تارة أخرى أنهم بهذا الأسلوب قد مهّدوا وبشكل منهجي إلى تقنين غير مكتوب يفرّق بين تلك البيئات من اجل إثبات أن سبب الخلاف السياسي أو العرقي أو الطائفي يكمن وراء تلك البيئات ولذلك برزت جينية فرانكشتاينية جديدة بين الأمة الواحدة عرفت على سطح الأرض بسمة ” التطرّف ” .

العقدة الثانية

تأخذ جينية التطرّف سماتا عديدة كالتطرف السياسي مثلا , إذ يعزوا فيه السياسي نجاحات الدولة لفئته الحزبية التي ينتمي إليها دون الآخرين , أو التطرف الديني أو الطائفي الذي برز في المحيط العربي في القرن الماضي ليتمدد إلى وقتنا الراهن . ومما زاد الطين بله أن البعض من الدول الراديكالية المعروفة قد تركت العنان – ومن دون حدود – لهذا التطرّف ( = الجينية ) إلى رجال الدين المنحدرين من البيئة البدوية المعروفين أنثروبولوجيآ بالتزمت والعصبية , والتي أغلقت عليهم الحدود للتفاعل مع البيئات الأخرى مما ولد لديهم نظاما لتوزيع هذا التطرف على المحيط العربي أولا والمحيط الإقليمي ثانيا متذرعين بخطأ النهج الديني أو الطائفي لهذين المحيطين , بل إلى إلغائه وتكفيرهم ومن ثم إبادتهم إذا لم يسيروا على طريقهم نفسه , تماما مثلما فعل هتلر حينما ألغى معاهدة فرساي سنة 1918… ليبدأ غزوه للبلدان الضعيفة وإبادة الضعيف منها للترويج لمذهب دارون الجديد.

وبسبب عدم قدرة قاطني هذه البيئة على تطبيع أنفسهم مع بيئتهم أو مع المجتمعات المدنية مما خلق لدى البعض جذرا جديدا في البناء النفسي ليوظفه هؤلاء والبدء بتداوله مستغلين تلك الغربة وعدم التطبيع وذلك في اللجوء إلى الاجتهادات المضللة في المسائل الفقهية والعمل على الموروثات واستغلالها لخلق وعيا جديدا كعلاج روحي لأنسنتهم بما يتوافق مع العصر وبالطريقة الدارونية نفسها.

وهذا النوع من الحكومة( = الدولة ) تعلم إن إستراتيجية هؤلاء الرجال هي محض ذهانية وانحراف عن القيم الأصلية ولا تقود إلى شئ غير تأجيج الصراعات الطائفية والدولية المسلحة , لكن الذي يهمها في هذا الشأن الإبقاء على نفوذهم في الداخل أو الخارج .

وهنا برزت حقيقتان: الأولى, أنهم حوّلوا بيئتهم الصحراوية إلى قاعات اجتماعات لهؤلاء النخبة من الرجال المنظّرين , للمحاولة في نقل الواقع الخاص بهم إلى احتمالات التقبّل ولو بدرجة واحدة على مقياس ريختر من جانب المحيط العربي أو الإقليمي من اجل تجريب فهمهم لنظام مرجعي وفقهي خارج بنية التابوات النصية الأصلية ليلعب دورا جديدا بعد قبوله لإيجاد اسواقآ له في العالم بعد أن أغلق عليهم ذلك الواقع حدودهم منذ قرون.

أما الحقيقة الثانية فقد كشفت عن موقفهم المضطرب جراء الاهتمام ببعض المسائل والتغافل احيانآ كثيرة عن المسائل الكبرى المشتركة ذات العلاقة بجوهر الدين , بل إقصاؤها لو تطلب الأمر لحساب بقائهم كنظم عائلية مما يوضح من ناحية أخرى دعمهم في إرساء نظام تربوي يرفض الآخر لكنهم تسببوا بالسخرية لأنفسهم , ومرة بالنقد اللاذع من دون أن ينصتوا لكي يعرضوا عن ذلك النظام , بل ولّد لديهم إستراتيجية “الغائية” داخل أنفسهم جعلتهم ينفتحون – من باب الليبرالية الذي افتتحوه – نحو إسرائيل وتركيا بينما يشكلون أحلافا عسكرية مضادة لدول شقيقة لهم سواء بالدين أو الدم لعجزهم – كما ورد – في الانفتاح نحوهم لقبولهم .

إن بناء عالم بأفكار تتعارض مبدئيا مع الآخر ضمن المحيط الواحد يعتبر عالما مثقوبا يفر من خلال ثقوبه أصحاب الأفكار الثابتة والأصيلة ( مثال : أهل الكهف ) أو الرغبات المتناقضة تماما أو المغامرين وهؤلاء أمثلتهم كثيرة وأشهرهم عناصر القاعدة وداعش وغيرهم من المارقين الذين شاركوا أصحاب ألإستراتيجية الإلغائية (= التكفيرية ) فأنشئوا خطابا آخر أكثر زيفا, وذلك تعويضا عن ذلك العالم الذي يروه مبنيا على التأويل الشخصي والمزاجي وإن كان منشأه وطنهم نفسه, بينما كلا الخطابين وأي خطاب ينجم عن ذلك العالم ينسف نموذج الخطاب المبين بحد ذاته كما ينسف الأخوّة والصداقة بين أفراد الوطن العربي الواحد ويثبّت الزيف الذي يروّجون له . وعند حدوث ذلك يتيحون الفرصة لظهور تطبيق منحرف آخر لهذا الزيف في بيانه وتبيينه والأمثلة عديدة كما نراها في سورية .

العقدة الثالثة

إذن التغافل عن المسائل المشتركة وترك الخيط والطائرة بيد فئة من الرجال للتحكم بالدين لجرّه نحو الانحراف على شرط أن تكون الطائرة والخيط نفسها بيد حكومتهم للتحكم بالسياسة الداخلية والخارجية كان هدف تلك النظم العائلية ليفعلوا مايشاءون .

من هنا تبدأ العملية الوصفية لتنشئة الأرحام التي تلد التطرف جيلا بعد جيل وتصديره للخارج في ثوب جديد سمي بالإرهاب , الذي بدوره يحدد شكلا مشوها آخر لطبيعة العلاقات على مستوى الحكومات أو الأفراد مما أتاح للمرجعيات الدينية والسياسية المضادة تكذيب خطابهم المزيف ومن يقف ورائه, وتزكية الأصيل .

في خضم هذا الصراع في حقل السياسة , نجد الكثير من الأفراد يقارن ما يجريه من المعاملات في محيطه بمرآة مرجعيته بشكل عام , والبعض الآخر يرى – رغم قرابته من مرجعيته – إن الرابط الديني بمسائله الجوهرية هو الوشم الذي يحمله , إلا أنه يدعوا إلى البراجماتية للتفريق بين التطرف والاعتدال .

لكن لنسأل ثانية: عند نقل هذه الشريحة(شريحة التطرف وشريحة البراجماتية ) لتأليف حكومة وطنية ما , هل سيقوم أفرادها بإنشاد نشيد الوطن الواحد ,ويحكمون وفق الدستور أولا ووفقا لمعايير الخطأ والصواب ثانيا ؟!

الجواب : بالطبع كلا , لأن شريحة التطرف تبقى في علاقتها مع مرجعيتها رغم قناعتها بالانزلاق تارة في إستراتيجية لا تتطابق مع إرادة هذه الحكومة في تمرير العديد من القوانين , وتارة تقع في التهميش والعزلة فيلجئون إلى خيار النزاع الذي يصل أحيانا إلى أبعاد مسلحة مما يجعل عمل المحيط بالضد منهم ويفضي الأمر إلى الحروب وتتأزم الأمور أكثر فأكثر.

ماذا لو كان فراش العالم العربي يحفل بهذا النوع من العلاقات المختلفة والتطرّف فهل ينام أفراده المعتدلين حقا مع الطاعنين بالتطرّف ليلة واحدة نوما هانئا, مفعما بالآمال والأحلام

السعيدة ؟ وهل يتم فوق ملاءته الالتقاء والزواج ؟! أم تنبثق في صباح اليوم التالي حالة من الإصرار على الاختلاف لبدء مغامرات جديدة ؟

الشق الأول من السؤال جوابه : نعم . والشق الثاني منه جوابه: كلا, لأن الاختلاف وسياسة الإلغاء الناجمة عن التطرف تبقى المعيار والمنهجية في التعامل بين المتقلبين على الفراش. ووفقا لذلك لن يكونوا أوفياء في عملهم , بل يدخلون أبواب الحكومة من أجل جرّ حقائب المال الحرام فيملئون به أكفهم أختلاسآ ومن ثم إلهاء الناس بالآمال المزيفة والأكاذيب لأن رياح التعصب والتطرف هي التي تدفعهم وتطلب منهم فعل ذلك .

هكذا تنشا بيئة الفساد وتدمر الشعوب بعد أن يتقلد غباره مسئولين ضعفاء وهزيلين , لكن حينما تعصف رياح التغيير بهم وتهزّ أكتافهم ليرون غبارهم العفن بأعينهم , تراهم مثل القنافذ وهي تلوذ من فزعها بالحمار والفرس لدولة الطائرة والخيط الحديثة التي حلمت بهم – يطلبان منهما فتوى تتلائم مع مصيبتهم فيأفكون لهم هذه المرة بالجلوس تحت حوافرهم لتدوس فوق رؤوسهم حتى تتكسر وتجفّ جلودهم تحت الشمس وتتناثر في الحضيض لينالوا شهادة الإفرنج هناك .