نكمل قراءتنا فيما جاء في الخطاب الفاطمي الحادي عشر للمرجع اليعقوبي فبعد أن تحدثنا في الحلقة السابقة عن ” اكتمال الكرامة ” نتحدث في هذه الحلقة عن “الزهراء عليها السلام ودولة الإنسان”، فنقول:نص ما جاء في الخطاب الفاطمي عن الموضوع :”لقد كان موقف السيدة الزهراء (عليها السلام) نوعياً بكل معنى الكلمة وفي مرحلة استثنائية من حياة الأمة التي قُدّر لها أن تقود البشرية جميعاً، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(آل عمران : 110)، تلك المرحلة التي شكّلت فيصلاً بين خط الكرامة الإنسانية التي وهبها الله تعالى للبشر، وخط الذلة والهوان والفساد والانحراف الذي يزداد انحطاطاً كلما مرّ الزمن.فوقفت السيدة الزهراء (عليها السلام) موقفها العظيم في ذلك الجو الرهيب لتحفظ كرامة الإنسان والأمة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) من الله تعالى، لكن الفترة التي قضاها النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته لم تكن كافية لتطهير مجموع الأمة من رواسب الجاهلية وأغلالها وعصبياتها، وإن الأصنام المنصوبة في الكعبة وإن حُطّمت يوم الفتح، إلا أن الأصنام المصنوعة في النفس الأمارة بالسوء من التعصب والجهل والانانية كانت موجودة ومحرّكة لسلوكيات الكثيرين، فكان القيام الفاطمي معزّزاً بعناصر التأثير والصدمة التي أحدثتها السيدة الزهراء (عليها السلام) مكمِلاً لرسالة الإصلاح والتطهير التي أداها النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل تحرير الإنسان وتكريمه.ومن أهم معالم الحياة الإنسانية الكريمة التي دافعت عنها الزهراء (عليها السلام) استمرار دولة الإنسان الكريمة التي أسسها النبي (صلى الله عليه وآله) وضَمان ديمومتها بالقيادة الربانية التي اختارها الله تعالى المتمثلة بأمير المؤمنين (عليه السلام) ومما قالت (سلام الله عليها) في وصف الحياة الإنسانية الكريمة في ظل هذه القيادة الإلهية وما تنعم به الأمة من بركات فيما لو انصاعوا للحق ووّلوا امير المؤمنين (عليه السلام) : (ولسار بهم سيراً سُجحاً –أي سهلاً- لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً، روياً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنق –أي يتكدر- جانباه ولأصدرهم بطاناً –أي شبعانين- ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل ) أي لا يبقي لنفسه شيئاً دون الأمة كالأب الرحيم الكافل للعائلة فانه يكتفي بالقوت ويعطي ما عنده لعائلته.وبالمقابل حذرتهم من تداعيات الابتعاد عن منهج الكرامة الإلهية ومما قالت (عليها السلام): (وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)(هود : 28) )
فهذه هي نتائج عدم إقامة الدولة الكريمة : فتن وصراعات وهدر للأموال وفوضى عارمة واستبداد الحكام وفقدان للأمن والاستقرار والنظام.أيها الأحبة:لاحظوا المصداقية الكاملة لكلام السيدة الزهراء (عليها السلام) فيما نعيشه اليوم وفي كل يوم، وهكذا يجب أن نتدبر في كلماتها (عليها السلام) ونستفيد منها في معالجة مشاكلنا ووضع البرامج الصحيحة لحياتنا، أما الاقتصار على ذكر مظلومية الزهراء (عليها السلام) دون التعرض لبيان أهداف حركتها فإنه تقصير في حقها وفي فهم رسالتها المقدسة، فقد كانت (سلام الله عليها) مكمّلة لدور أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما) في مشروع بناء دولة الإنسان التي تكون فيها القيمة العليا للإنسان وتُراعى حقوقه في كل القوانين والأنظمة والدساتير، ولا مجال فيها للاستبداد والاستئثار والتخلف والجهل، وتتحقق نصرتنا للسيدة الزهراء (عليها السلام) بمقدار مساهمتنا في إنجاح مشروعها العظيم.وإننا إذ نعيش هذه المرحلة الاستثنائية في حياة البشرية وهذه الانطلاقة المباركة للعقيدة التي آمنا بها بعد قرون طويلة من القهر والاضطهاد والحصار يكون المطلوب من السائرين على نهج الزهراء (عليها السلام) القيام بالعمل النوعي الذي أرست دعائمه، وعلينا أن نصنع لأنفسنا هذا الدور كالأفذاذ في كل جيل، وليس ننتظر أن يصنعه غيرنا ثم يكلّفنا به، ولا يُنال ذلك الا بتوفيق الله الكريم”. انتهى. وينبغي التوقف عند هذا الجزء من الخطاب طويلاً، والحديث عن جزئيات ما جاء فيه لأهميته ولأنه نتاج لما سبق ومكمل لما سيأتي والذي سنختم به، فنقول باختصار:1-دور المرأة الكبير في حفظ الكرامة الإنسانية والذي مثلته الزهراء عليها السلام خير تمثيل كيف لا وهي سيدة نساء العالمين، هو دور مهم جداً ويبرز-وتكون الحاجة له ملحة- في الكثير من المفاصل الحاسمة، والتي يكون فيها دور المرأة هو الأهم، وتكون المرأة هي صاحبة الريادة في حفظ الكرامة الإنسانية في تلك المواقف، لذا ينبغي أن يسعى الجميع لتأهيل المرأة في المجتمع لتكون جاهزة لأداء هذا الدور، وينبغي للمرأة أن تثق بما لديها من إمكانيات وتعي ما عليها من مسؤوليات ولتعرف ذلك بدقة ينبغي عليها قراءة موقف الزهراء (عليها السلام) هذا بدقة.2-إن إكمال الدين وبعث النبي الخاتم ليس نهاية المطاف في الصراع بين الخير والشر، ولعلي لن أجد نصاً أفضل من النص الذي استخدمه صاحب الخطاب للتعبير عن ذلك “وإن الأصنام المنصوبة في الكعبة وإن حُطّمت يوم الفتح، إلا أن الأصنام المصنوعة في النفس الأمارة بالسوء من التعصب والجهل والانانية كانت موجودة ومحرّكة لسلوكيات الكثيرين “.3-إن دور المرأة لحفظ الكرامة الإنسانية يكون عبر الوسائل المؤثرة والتي أسماها المرجع اليعقوبي “عناصر التأثير والصدمة ” لا عبر وسائل تهين كرامة المرأة نفسها كما هو الحال في الصور الحالية لذلك، والتي يكفي للتعبير عن بعدها عن ذلك كثيراً الحديث عن صورتها الأبشع، وهي برأيي حركات التعري للمرأة لمناهضة سلب حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته وحريته في التعبير عن رأيه ومناهضة التطرف!فعناصر التأثير والصدمة التي تحرك الجانب الإنساني في الانسان يجب أن تكون بما يحفظ للمدافع عن الكرامة نفسه-وهو هنا المرأة- كرامته لا بما يذلها ويهينها، نعم قد تصدر ردة فعل من الطرف الذي يجري الاعتراض عليه وعلى سلوكه فيبادر لأقوال أو أفعال لإهانة كرامة المرأة أو الإنسان عموماً-كما في تعرض الزهراء عليها السلام للضرب أو تعرض نساء أهل البيت عليهم السلام للسبي بعد حادثة الطف- ولكن ذلك الفعل لم يكن مقصداً لهن ولكنه رد فعل خاطئ بشكل مبالغ به من الطرف المقابل، نعم هو بمستوى من المستويات متوقع ولكن توقعه لا يمنع من الاستمرار لعدم وجود البديل عن ذلك لا طلباً للإهانة، فضلاً عن كونه فاضحاً لنوايا الخصم وصورته الفعلية.4-أستعرضت الزهراء (عليها السلام) صورة الحياة التي تحفظ الكرامة الإنسانية فيما لو تم الأمر للقيادة الحقة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله ) “ولسار بهم سيراً سُجحاً –أي سهلاً- لا يكلم حشاشه ولا يكل سائره، ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً، روياً، تطفح ضفّتاه، ولا يترنق –أي يتكدر- جانباه ولأصدرهم بطاناً –أي شبعانين- ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل ولا يحظى منها بنائل غير ري الناهل وشبعة الكافل” وهو وصف رائع لصورة الحياة التي تحفظ الكرامة الإنسانية في ظل قيادة حقة ومعيار أكثر من رائع للمقارنة والتقييم، استعرضت ذلك لتحرك فيهم الرغبة لذلك وتبين لهم فداحة ما خسروه بسبب عدم إتباع القيادة الحقة، وهذا دور قامت بهذه الزهراء (عليها السلام) على أكمل وجه ودفعت حياتها باكراً ثمناً له.5-لم تكتفي الزهراء (عليها السلام) بوصف الصورة الرائعة للحياة التي تحفظ الكرامة الإنسانية فيما لو أتبع القوم القيادة الحقة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وهي قيادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، بل وصفت لهم ما سيكون عليه الحال فيما لو استمروا على عنادهم في تولية من لا يستحق “وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)(هود : 28) “، وهو كلام واضح في رسم تلك الصورة-وهو ما تحقق فعلاً لاحقاً- مع التأكيد على إن المنهج الحق لا يكون بالإكراه والإلزام حتى يتحمل كل طرف مسؤولية قراره وما يترتب على ذلك ولكن عبر التوعية والاستمرار بها بوسائل مختلفة لا تتقاطع مع المنهج والمبادئ.6-إن استذكار المعصومين ومناسبتهم وكذلك الأولياء والعلماء بل وكل صاحب موقف إيجابي إنما هو لأخذ العبرة والعظة والتعلم لا لمجرد الاستذكار الفارغ من المحتوى والذي لا يلبث أن يتحول إلى فلكلور يفقد قيمته الحقيقية في صنع الوعي ويكون لدى البعض هدفاً لذاته ولا يرى وراءه أي هدف، أو يكون بهدف المجاراة أو التسلية أو غير ذلك، فالزيارة الفاطمية تصب بهذا الاتجاه-أي اتجاه العبرة والعظة والتعلم والتوعية- واستذكار مواقف الزهراء (عليها السلام) بقصد الاقتداء بها-وهي قدوة النساء والرجال- لا بقصد البكاء واستذكار المظلومية فقط، وإن كان هدفاً نبيلاً ولكنه بعض الهدف لا كله بل لعل الصحيح إنه وسيلة للوصول للهدف وليس هدفاً بحد ذاته.7-إن مشروع بناء الإنسان ودولة الإنسان على الأرض مسؤولية الجميع، ولكل فردٍ دوره فيه بمقدار ما يمتلك من همة ووعي، وبما يناسب المرحلة التي يعاصرها وخطورتها والأدوات التي تنفع فيها، لذا ينبغي أن تكون لكلٍ منا إسهاماته في ذلك دون، وأن نحرص على السعي للحصول على الوعي المناسب لمرحلتنا ومعرفة خصوصيتها والقيادة الحقة فيها، وأن نعلم إن الإنجاز الصغير خير من التراجع، وإن العمل الصحيح سيُنتج ولو بعد حين.8-إن روح المبادرة يجب أن تكون هي السائدة في العمل والسعي للأفضل يقول المرجع اليعقوبي ونكرر ما اقتبسنا في بداية الكلام “وعلينا أن نصنع لأنفسنا هذا الدور كالأفذاذ في كل جيل، وليس ننتظر أن يصنعه غيرنا ثم يكلّفنا به”، وإن كان هذا غير متحصل من الجميع ولا يُنال إلا بتوفيق ولكنه ينبغي أن يكون هدفاً.