23 ديسمبر، 2024 2:11 م

دور بعض الدول بالانقلابات

دور بعض الدول بالانقلابات

“بينما نجح حافظ الأسدُ في فرض سيطرته على معظم القوات المسلحة السورية، فقد أحكمَ صلاح جديد قبضته على جهاز الحزب المدني بشغل أهم مراكز الحزب المدنية بمؤيديه، وهكذا تم خلق ما يُسمّى بـ “ازدواجية السلطة”، مؤسستا السلطة السورية الرئيسيتان؛ وهما القوات المسلحة وجهاز حزب البعث المدني، قد تم السيطرة عليهما من قِبل جماعات “علوية” مختلفة من الحزب أو الجيش”.

في فاتحة القرن العشرين كانت الأقطار العربية تعيش حالة من الغليان والصدمة، غليان بسبب السياسات الخاطئة التي تعرّضت لها من قِبل العثمانيين في فترة حكومة الاتحاد والترقي تارة، ومن قِبل العرب أنفسهم تارة أخرى، وهم الذين اتَّحد جزء مهم منهم مع السياسة البريطانية في المنطقة التي هدفت إلى السيطرة على تلك البلدان واحتلالها وتفكيكها على أساس عِرقي وقومي، وبسبب تبدل العالم القديم وإمبراطورياته في خضم الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وصعود القوتين الإنجليزية والفرنسية، فقد قرّر هؤلاء تقسيم الأقطار العربية وفق اتفاقية “سايكس – بيكو” الشهيرة في العام 1916م.

كانت سوريا من جملة البُلدان التي تعرضت على الدوام إلى تيارات من الهجرات والحروب والمواجهات لكونها ضمن أقطار “الهلال الخصيب” التي طمعت فيها الإمبراطوريات على الدوام منذ أقدم العصور، الأمر الذي جعلها ملتقى للهجرات، وموطنا لكثير من الأقليات، وقد لعبت تلك الدول التي احتلت الأقطار السورية والشامية في العموم بهذا الملف الطائفي، لا سيما في العصر الحديث، طبقا لمصالحها السياسية والفكرية، وضربا لأي وحدة بين هذه “الفسيفساء”، الأمر الذي أدّى إلى نتائج كارثية في تاريخ سوريا الحديث. فكيف نشأت المسألة الطائفية والأقلوية في سوريا الحديثة؟ وكيف دخلت هذه الطوائف طوال عقود في حرب تكسير عظام؟ وما النتائج التي ترتبت عليها؟ وما أبرز الطوائف التي سيطرت على الدولة السورية؟ وكيف وقع هذا الأمر ولماذا؟ ذلك تاريخ لا بد من الوقوف معه في سطورنا التالية.

خلال القرن التاسع عشر تأثَّر وضع الأقليات الدينية بصورة قوية نتيجة التدخلات السياسية في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية من قِبل فرنسا وإنجلترا وروسيا الذين فرضوا أنفسهم حماة للأقليات الدينية، فادّعت فرنسا لنفسها حق حماية المسيحيين الموارنة في لبنان، وادّعت الحكومة الروسية لنفسها حقا مماثلا في حماية المسيحيين الروم الأرثوذكس التابعين للسلطان العثماني، بينما استأثرت بريطانيا بعلاقات طيبة خاصة مع الدروز واليهود].

من جانب آخر جلبت لهم هذه الحماية الأجنبية كراهية عميقة من جانب الدولة العثمانية، بل وغالبية السكان من المسلمين السُّنة الذين اعتبروا بعضهم -كما يقول المؤرخ ألبرت حوراني- “خونة محتملين، ومصدر ضعف، وعملاء للسياسة الأوروبية، وخطرا على الإمبراطورية العثمانية والأمة الإسلامية بوجه عام” [2]، وهكذا أدّت الشائعات والتدخلات الأجنبية في ذلك القرن إلى سوء العلاقات بين الأقليات الدينية في سوريا.

وحين انهزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وأُجبرت قواتها على الرحيل من سوريا في شهور سنة 1918م، وكانت القوات العربية التابعة للشريف حسين متحالفة مع الإنجليز في المنطقة العربية بقيادة أبنائه فيصل وعبد الله، فإن فيصل بن الحسين قد أُعلن ملكا دستوريا على سوريا في الأول من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1918م، لكن سرعان ما انقلبت فرنسا وبريطانيا على هذا الاتفاق مع العرب، وأنفذوا اتفاقهم الشهير “سايكس بيكو” لتقع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي في 24 يوليو/تموز سنة 1920م والذي سيستمر 26 عاما ذاقت فيه سوريا ويلات الاحتلال الفرنسي وألاعيبه الخبيثة].

ففي عهد الانتداب الفرنسي حُرِّضت الولاءات الطائفية عمدا لكي تمنع أو تحدّ من ظهور الدولة السورية المستقلة، ومن ناحية أخرى شُجِّعت ظاهرة الانفصالية والتخصصية بين الأقليات الدينية والقومية عن طريق منحهم حكما ذاتيا في المناطق التي كانت تُشكِّل فيها تلك الأقليات الغالبية المحلية، وبناء على هذه السياسة فإن منطقة اللاذقية والتي تنحاز الغالبية فيها إلى العلويين، ومنطقة جبل الدروز التي يغلب فيها الطائفة الدرزية، كانتا لهما حكومتهما لفترة ما أثناء الاحتلال الفرنسي، وكانتا تُعتبران مستقلتين بحكم ذاتي عن الجمهورية السورية، وقد أُعلن تحت سيادة الاحتلال].

أما منطقة الجزيرة في الشمال الشرقي حيث مثَّلت الجاليات المسيحية قوة لا يُستهان بها، وحيث كان الأكراد بالنسبة لهم أغلبية محلية، فلم يحصلوا على حكم ذاتي رسميا تحت الاحتلال الفرنسي، بل وُضِعت المنطقة تحت حكم الإدارة الفرنسية المباشرة، وشُجِّعت تطلُّعات الأكراد نحو تحقيق حُكم ذاتي.

ويرى المستشرق الهولندي نيقولاس فان دام أنه كجزء من سياسة “فَرِّق تَسُد” فقد شجّع الفرنسيون تجنيد فصائل خاصة من العلويين والدروز والأكراد والشراكسة والأقليات الأخرى الذين شكّلوا بعد ذلك ما عُرف باسم “القوات الخاصة للشرق الأدنى”، والتي استُخدمت لحفظ النظام وقمع الفتن الداخلية، ونظرا لأن هذه القوات كانت مُشكّلة من الأقليات فقد زاد هذا من شعور الاستيلاء بين الأغلبية السنية التي تتحدث العربية، كما أُثيرت الخلافات بين الأقليات الدينية والعِرقية عن طريق الفرنسيين الذين كانوا يُناصرون قائدا عشائريا ضد الآخر، وقد ظل نظام “المجتمع المغلق” الذي يقوم على تناحر الطوائف وصعودها على حساب الغالبية السنية الناطقة بالعربية في سوريا ساريا خلال النصف الأول من القرن العشرين

كان خروج الاحتلال الفرنسي من الأراضي السورية سنة 1946 وتسارع وتيرة التحديث والتصنيع قد خفّف من حدة الأقليات في المسألة السياسية والاجتماعية إلى حدٍّ ما، لكن الأحزاب السورية التي نشأت في تلك الفترة كانت لا تزال تعكس مصالح جهوية أو إقليمية، وكثير منها تركّز في مناطق محددة دون غيرها من سوريا، الأمر الذي أدّى إلى استمرار النزعة الطائفية بالرغم من خفوت حدّتها زمن الانتداب الفرنسي.

وساعد على تفكيك هذه الروابط العصبية والدينية والعشائرية والجهوية في بادئ الأمر إنشاء حزب البعث في العام 1940م على يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، المعلمين الدمشقيين البرجوازيين اللذين وضعا شعار الحرية والمساواة والاستقلال، متكئين على المبادئ الاشتراكية التي لاقت دعما من أهل القرى أكثر منه في المدن وفي القلب منها دمشق، وقد شجع ميشيل عفلق أبناء الأقليات الدينية من المسيحيين العرب على الاندماج في هذا الحزب الذي اتخذ المبادئ العلمانية الاشتراكية دون النظر للمكوّن الديني، وإن اعتبر الإسلام دينا يُشجِّع العروبة ويعمل على وحدتها، وكانت مقالات ميشيل عفلق ورسائله مشجعة للسوريين بجميع طوائفهم، إذ بيّنت لهم أن هذا الحزب سيجعلهم متساوين في الحقوق السياسية والاجتماعية، الأمر الذي جعل الكثيرين من أبناء هذه الطوائف يسارعون في الانضمام لحزب البعث العربي.

وعلى الرغم من أن حزب البعث قد حُلَّ في العام 1958م بطلب من الرئيس المصري جمال عبد الناصر كشرط للوحدة بين مصر وسوريا، بل أُضعِفَ بصورة تامة، فإنه مع تفكك الجمهورية العربية المتحدة في سبتمبر/أيلول سنة 1961م، أُعيد تشكيل حزب البعث من جديد من نواة البعثيين القدماء الذين ظل بعضهم في تنظيم سري في مناطق اللاذقية ودير الزور وحوارن، وكانوا على ارتباط قوي مع الضباط البعثيين في الجيش السوري].

وفي 8 مارس/آذار 1963م قام تنظيم الضباط البعثيين بانقلاب عسكري استولوا فيه على مقاليد السلطة في البلاد، وقد لعب الدور البارز في نجاح هذا الانقلاب التنظيم العسكري الذي تشكّل في مصر إبان عهد الوحدة، والمؤلَّف من الضباط محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وأحمد المير وعبد الكريم الجندي، وقد أمسك هذا التنظيم بمقاليد الدولة كافة، حتى نشاطات الأندية الرياضية والاجتماعية.

واللافت أن عدد أعضاء حزب البعث المدنيين حين وقع انقلاب أقرانهم الضباط كان يقترب من 400 شخص فقط، وهو عدد قليل للغاية لتحمل مسؤولية الحكم والسلطة في البلاد، ومن هنا قرّر المكتب التنظيمي لقطاع الحزب المدني السوري الذي شُكِّل حديثا آنذاك زيادة أعضاء الحزب المدنيين بدرجة كبيرة، وأصدر قرارا في هذا الشأن بترقية أنصار الحزب فورا إلى رتبة “عضو عامل”، مع حقّه في الاشتراك في انتخابات الحزب، وترشيح أشخاص للعضوية، وفي العام التالي على انقلاب 8 مارس/آذار تضاعف عدد أعضاء حزب البعث خمس مرات، وتوضح وثيقة حزبية يرجعُ تاريخها إلى عام 1965م أن أي عضو جديد كان عليه أن ينتظر فترة أطول قبل أن يُصبح عضوا عاملا ثمانية عشر شهرا كنصيرٍ، ومدة مماثلة كعضو متدرب].

وقد استفاد بعض قادة الحزب من إجراءات القبول المتساهلة هذه، وضمّوا أقرباء وأصدقاء ومعارف لجهاز الحزب كأعضاء عاملين دون الحاجة إلى توافر معايير معينة مشددة مثل مستوى معين من التعليم أو التعرف على المبادئ الأيديولوجية للحزب والالتزام بها، علاوة على ذلك لم يكن هناك في الكثير من الحالات وثائق حزبية للتحقق من عدد وهُوية وأعضاء الحزب السابقين، ورُتبهم في الحزب وطريقة قبولهم، لذلك لم يكن الأمر عسيرا على هؤلاء القادة وأنصارهم من تحويل تكوين بعض فروع الحزب جذريا لمصلحتهم الشخصية، ونتيجة لتلك السياسة تكوّن عدد من الكتل الحزبية والمصالح المتحالفة ارتبط أعضاؤها ببعضهم بعضا عن طريق خلفية إقليمية أو عشائرية أو طائفية مشتركة أكثر من كونها مبادئ عقائدية وأفكارا يجتمعون عليها].

أدّت هذه الطائفية والحزبية وخلق تيارات مصالح داخل حزب البعث إلى آثار خطيرة لا تزال تعاني منها سوريا إلى يومنا هذا، فقد أضعف الانضباط الحزبي، وسعى الجميع إلى الصراع على السلطة من منطلق جهوي أو طائفي، وما لبث أن ازداد عدد أعضاء الأقليات في سلك الجيش السوري على حساب الأغلبية السنية، وقام هؤلاء باستدعاء العديد من الضباط وضباط الصف الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية أو إقليمية لتعضيد مراكزهم الجديدة التي حصلوا عليها بصورة سريعة في انقلاب 8 مارس/آذار 1963م].

ويبدو أن آثار هذه الطائفية سرعان ما أفصحت عن وجهها القبيح داخل حزب البعث ذاته، حيث جاء في النشرة الدورية للحزب في سنة 1966م، تحت عنوان “أزمة الحزب وحركة 23 شباط” ما يلي:

“ألحّت ظروف الثورة الأولى ومرحلتها الصعبة على دعوة عدد كبير من العسكريين الاحتياطيين، حزبيين ومؤيدين، لملء الشواغر التي نجمت عن تصفيات الخصوم، ولتدعيم مواقف الثورة (انقلاب 8 مارس/آذار) وحمايتها، ولم يسمح ذلك الإلحاح آنذاك باعتماد أسس موضوعية في عملية الاستدعاء، وإنما كانت عوامل الصداقة والقرابة وأحيانا مجرد المعرفة الشخصية هي الأساس، مما أدّى إلى تسرّب عدد معين من العناصر الغريبة البعيدة عن منطق الحزب ومنطلقاته، وسبّب بالنتيجة استخدام هذا الموضوع سلاحا للطعن في نيّات بعض الرفاق والتشكيك بهم”].

واللافت أن معظم العسكريين الذين استُدعوا بهذه الطريقة كانوا ينتمون إلى الأقليات العلوية والدروز والإسماعيلية، ولم يكن الأمر مثيرا للاستغراب، إذ إن معظم أعضاء اللجنة العسكرية البعثية المشرفة على نشاطات التنظيم العسكري البعثي كانوا من أعضاء تلك الأقليات، وكان تسعة 9 ضباط من أصل 15 ضابطا من هذه الأقليات من بين أعضاء اللجنة العسكرية الحاكمة للبلاد آنذاك].

وجاء أوج احتكار البعثيين للسلطة في 18 يوليو/تموز 1963 عندما قامت مجموعة معظمها من الضباط الناصريين من الأغلبية السنية تحت قيادة الضباط جاسم علوان بانقلاب فاشل، لما رأوه من سيطرة مطلقة للأقليات وعلى رأسها العلويون لمقاليد السلطة، وتغلغلهم وأقاربهم وأبناء طوائفهم في المناصب المفصلية المدنية والعسكرية، وكان معظم الضباط الذين أخمدوا هذا الانقلاب، مع إراقة الدماء، ينتمون لأقليات وكان من بينهم ضباط علويون لعبوا دورا متميزا في هذا الشأن].

كان انقلاب الناصريين السنة الفاشل في يوليو/تموز 1963م البداية الحقيقية للصراع على السلطة بين قادة اللجنة العسكرية البعثية، حيث لجأ هؤلاء القادة بهدف تقوية مراكزهم إلى زيادة أعداد العسكريين الموالين لهم على أسس طائفية أو عشائرية أو إقليمية، وبسبب ذلك قُوِّضت بنية القيادة والانضباط داخل الجيش السوري.

وفي غضون عام 1966م كتب الدكتور منيف الرزاز الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث قائلا: “إن روائح التكتيل الطائفي المقصود بدأت تفوح، وبدأ الحديث عنها أول الأمر، همسا، ثم بدأت الأصوات في الارتفاع حين ظهرت بوادر مادية تسند الاتهام”. وبدأ التمييز ضد السنة، حين سُرِّح أعداد كبيرة منهم عقب انقلاب 8 مارس/آذار، ثم لدى تقدُّمهم للالتحاق بالكلية العسكرية ومراكز التدريب، فضلا عن التجنيد للانضمام لحزب البعث، فقد كان العلويون والدروز والإسماعيلية والأرثوذكس في المقابل يحظون بمركز متميز على الدوام في المعاملة في معظم الحالات].

وعلى الرغم من أن رئيس البلاد ورئيس المجلس العسكري ووزير الدفاع والداخلية كان سنيا وهو أمين الحافظ، فإن الضباط العلويين البارزين أمثال صلاح جديد وحافظ الأسد قد حظوا على الدوام بمساندة جماعات عسكرية قوية من الأغلبية العلوية في الجيش التفّت حولهم، لا سيما بعد إبعاد اللواء العلوي محمد عمران عن البلاد، وكان صلاح جديد قد ارتقى لمنصب رئاسة أركان الجيش، واعتبارا من النصف الثاني من عام 1965م أصبح اتهام الرئيس أمين الحافظ لرئيس الأركان صلاح جديد علنيا بأنه يعمل على بناء كتلة علوية طائفية داخل الجيش، الأمر الذي أدّى إلى وجود كتلتين داخل الجيش السوري عملت كلٌّ منهما لضمان بقائها ومصالحها، وهما السنيون الملتفون حول أمين الحافظ، والعلويون الملتفون حول صلاح جديد وحافظ الأسد].

وقد أدّى هذا الاستقطاب العلني والطائفي داخل الجيش السوري وحزب البعث بين السنة والعلويين إلى وقوع انقلاب 23 فبراير/شباط سنة 1966م، بقيادة العلويَّيْنِ صلاح جديد وحافظ الأسد والدرزي سليم حاطوم، فقُضي على أمين الحافظ بالسجن ثم بالنفي إلى لُبنان بعد هزيمة يونيو/حزيران سنة 1967م، وكان من نتائج الانقلاب المباشرة تولّي صلاح جديد منصب أمين عام مساعد للقيادة القُطرية لحزب البعث، أما حافظ الأسد فقد ترقى من قيادة سلاح الطيران ليصبح وزيرا للدفاع، كل هذا من خلف رئيس مدني صوري لم يكن يملك من أمره شيئا هو نور الدين الأتاسي ذلك المنصب الذي خُصص للسنة آنذاك].

كما أسفر الانقلاب الجديد عن تصفية بعض جماعات الضباط السّنيين البارزة، ثم تمَّ تسريح أهم أعضاء كتلة وزير الدفاع السابق محمد عمران، وفي غضون عام 1966م تم تصفية هؤلاء أيضا بصورة رسمية، وكان أغلب هؤلاء الضباط الذين تمت تصفيتهم من أبناء السُّنة، ولقد نتج عن هذا الانقلاب وسياساته ازدياد تمثيل أعضاء الأقليات الدينية مرة أخرى، لكن هذه المرة دون توازن واضح، وفي غياب كبير للمكون السني ذي الأغلبية النسبية في البلاد، بل أصبح العلويون والدروز والإسماعيليون والأرثوذكس هم الطرف الأقوى في معادلة الحكم الجديدة، سواء في الحزب أم في الجيش.

كان استبعاد سليم حاطوم الضابط الدُّرزي من مكاسب انقلاب 23 فبراير/شباط 1966م، بل وبقاؤه على رتبته السابقة للانقلاب، وعمله في حراسة مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري، وهو الذي أقدم على هذا الانقلاب وكان صاحب اليد العُليا في نجاحه، مع صعود العلويين بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، قد أثار نقمته وحفيظته، إذ أدرك مدى الخيانة والخسارة التي تعرض لها، فراح يُجمع شتات أمره من جديد، متحالفا مع الأعضاء القدامى المؤمنين بمبادئ المؤسسين للحزب ميشل عفلق والبيطار، ومُلتجِئا هذه المرة إلى أفراد طائفته من الضباط الدروز وبعض قيادات السنة في الجيش آنذاك، لكن محاولته باءت بالفشل والانكشاف وذلك في سبتمبر/أيلول 1966م، وكان صلاح جديد وحافظ الأسد يملكون القوة الكبرى في الجيش السوري فضلا عن سلاح الطيران الذي أجبر سليم حاطوم على الهرب واللجوء إلى الأردن].

وقد قُبِض على حاطوم بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967م، حيث دخل إلى سوريا ظنًّا منه أن صفحة الماضي قد طويت، وأن رفاقه القدامى سيتّحدون معه من جديد بعد الهزيمة، لكن ما حدث كان العكس؛ إذ عُذِّب تعذيبا شديدا ثم أُعدم رميا بالرصاص في 26 يونيو/حزيران 1967م، وبهذا تُخُلِّص من أهم الجماعات أو الكتل المناوئة للعلويين في الجيش من الضباط والقيادات السنية والدُّرزية المناوئة، إما بالسجن والنفي وإما بالقتل والتصفية، ودخلت سوريا في منعطف النكسة والهزيمة فخسرت الجولان والقنيطرة، وكان من اللافت أن وزير الدفاع حافظ الأسد قد رقَّى نفسه آنذاك من رتبة لواء إلى فريق في ظل أجواء الهزيمة المذلة تلك، كما يروي الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ في شهادته على العصر]

وبهذا أصبح العلويون سادة الجيش السوري، بل والسلطة في البلاد موزعة بين صلاح جديد المسيطر على الحزب والحكومة والجناح المدني، وحافظ الأسد المسيطر على الجيش والأجهزة العسكرية، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات العلنية بين الرجلين في التوجهات الإقليمية والفكرية وقتها بعد هزيمة يونيو، وعمل حافظ الأسد في أثناء عام 1968م على إحكام سيطرته على الجهاز العسكري، واستطاع أن يفصله عن قيادة الحزب المدنية، كما أصدر أوامره بمنع أعضاء القيادة القُطرية أو مسؤولي الحزب المدنيين الآخرين من زيارة أقسام تنظيم الحزب العسكري أو القيام باتصالات مباشرة مع قطاع الحزب العسكري، كما مُنِع ضباط الجيش بدورهم من إجراء أي اتصالات مباشرة مع سياسيي الحزب المدنيين إلا عن طريق القنوات الرسمية لقيادة تنظيم الحزب العسكري].

وهكذا خُلِقَت “ازدواجية السلطة” بين القائدين العلويَّيْنِ، وكانت القطيعة بين الفريقين حين استطاع حافظ الأسد منع أي اتصالات بين الجانبين منذ فبراير/شباط 1969م، ويصفها نيقولاس فان دام “بما يشبه الانقلاب العسكري”، ثم استطاعت قوات الأسد السيطرة على مبنى إذاعة دمشق ومبنى إذاعة حلب، بالإضافة إلى مكاتب أكبر جريدتين سوريتين “البعث” و”الثورة”، وفرض الرقابة العسكرية على نشرات الأخبار والتعليقات السياسية وجميع البرامج السياسية والثقافية والإعلامية[19].

استمرت معركة كسر العظام بين الفريقين، كان الطرف الأقوى فيها حافظ الأسد الذي كان يسيطر على وزارات السلاح، ويقضي على ذوي المناصب الاستخبارية والعسكرية المؤيدة لصلاح جديد ونور الدين الأتاسي، ليفرض حافظ الأسد كلمة الفصل والنهاية بانقلاب عسكري ألقى فيه القبض على صلاح جديد والأتاسي في 13 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1970م، وبعدها بعام واحد فقط يعلن نفسه كأول رئيس علوي للجمهورية السورية، يبدأ فيها فصلا جديدا من احتكار وتوريث السلطة في الطائفة العلوية، بل وفي بيت حافظ الأسد.

لتدخل سوريا منذئذ إلى حقبة دولة الطائفة – العائلة، وذلك على الرغم من تقلُّد الضباط التابعين لطوائف دينية غير علوية مهامَّ عسكرية عليا لكن بصورة شكلية أو صورية مثل مصطفى طلاس وناجي جميل وغيرهم، في مقابل أغلبية علوية ارتقت إلى المناصب المفصلية والحسّاسة في الدولة السورية، وكانت على الدوام منذ ذلك التاريخ قادرة على سحق أي مقاومة أو انقلاب محتمل يُهدِّد من وضع الجمهورية “العلوية” الجديدة.

تلك كانت قصة نشأة الطائفية الدموية في سوريا الحديثة، طائفية جرَّت البلاد إلى الخراب والدمار والحرب والاقتتال الأهلي، بدأها الفرنسيون والروس والإنجليز منذ نهاية الحقبة العثمانية، وخُتمت على يد الروس والأسد والإيرانيين وغيرهم، خاتمة لا تزال مشاهدها المحرقة تُلهب سوريا من شمالها إلى جنوبها، حتى أمسَت خطرا يُهدِّد العالم كله، ويجعل سوريا ساحة لتصفية الحسابات على أنقاض مقدّراتها وشعبها ودمائها البريئة النازفة.

 

عشية الانقلاب الذي نفذه الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) في السودان، عبّرت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، عن صدمتها وخيبة أملها في نظيرها المصري، سامح شكري، الذي لم يردّ على اتصالاتها الهاتفية. كما أنه لم يتصل بها كي يعبّر عن تضامنه معها ومع زملائها، من الوزراء والمسؤولين المدنيين، الذين احتجزهم البرهان عشية تنفيذ انقلابه، وذلك على غرار ما فعل وزراء خارجية ومسؤولون آخرون تواصلوا معها، وعبّروا عن تضامنهم معها ومع زملائها، ورفضهم ما جرى. وبقدر ما يعكس حديث الوزيرة السودانية، والذي أدلت به هاتفياً لقناة الجزيرة، قدراً عالياً من حُسن النية يصل إلى حد السذاجة السياسية، فإنه يكشف عن الدور الكبير والمؤثر الذي لعبه، ولا يزال، نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي في وقوع انقلاب البرهان. ولا تعرف مريم المهدي، وربما تعرف ولكن لا تريد أن تصدّق، أن نظيرها المصري وبقية مؤسسات دولته، ليسوا بعيدين عما يجري في بلدها، بل لا يُستبعد أن يكون شكري نفسه ممن يسوّقون حالياً انقلاب البرهان خارجياً خلف الأبواب المغلقة. هذا هو منطق الأشياء في منطقتنا، وما عداها تفكير بالأماني، فالوزراء والمسؤولون في بلادنا لا يقدحون من رؤوسهم، ولا يتصرّفون من تلقاء أنفسهم. ولِمَ لا وقد لعب الوزير شكري نفسه هذا الدور ببراعة على مدار السنوات السبع الماضية، بعد أن تم تعيينه وزيراً للخارجية في مصر من أجل تسويق انقلاب الجنرال السيسي إقليمياً ودولياً.

لسنا في حاجة، إذاً، لعبقرية أو ذكاء استثنائي، لاستنتاج طبيعة الدور المصري في وقوع انقلاب البرهان، تماماً كما أننا لم نكن في حاجةٍ كي “نضرب الودع” أو “نقرأ الفنجان” كي نعرف، بل ونتوقع، أن انقلاب عسكر السودان على شريكهم المدني لم يكن سوى مسألة وقت، خصوصا في ظل عدم وجود سلطة حقيقية في يد الحكومة التي كان يقودها رئيس الوزراء المعزول، عبد الله حمدوك. وقد كتبْتُ عن هذا الأمر على صفحات “العربي الجديد” وغيرها، كذلك كتبَ وتحدّث باحثون ومراقبون آخرون كُثر، من أبرزهم عبد الوهاب الأفندي، الذي كتب محذّراً الفريق المدني في السودان من مخاطر الانسياق وراء العسكر. ففي مقال له بعنوان “في جنازة الديمقراطية والدولة السودانية” كتبه الأفندي قبل عام بالتمام من وقوع الانقلاب، كتب فيه بوضوح إن “الحكومة المسمّاة مدنية تأتمر بأمر العسكر، الذين سلمت رقابها لهم لأنها لم تكن تريد الحوار مع بقية الشركاء في الوطن. العسكر بدورهم يأتمرون بأمر آخرين من خارج الوطن، وينتظرون كذلك سراباً، ويبيعون الشرف والوطن والقرار بيع الغرر. وستكون نتيجة الصفقة الحالية، كما هو الحال في مصر وغيرها، تعزيز وضع العسكر، وتأجيل الديمقراطية إلى أجلٍ غير مسمّى”.

كما لا يمكن، في أي حال، أن نتخيّل أن الجار الشمالي للسودان، الذي يحكمه جنرال عسكري جاء إلى السلطة من خلال انقلاب دموي قبل ثماني سنوات، سوف يقبل أن يكون على حدود بلاده الجنوبية دولة يحكمها مدنيون، ناهيك عن أن تكون دولة ديمقراطية. والحقيقة أن القاهرة لم تُخفِ يوماً قلقها من حدوث هذا السيناريو، فقد عبّرت مراراً وتكراراً عن عدم ارتياحها للشراكة بين المدنيين والعسكريين. ويكفي هنا أن نقرأ ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مصادر مصرية أنّ مدير المخابرات العامة، اللواء عباس كامل، زار السودان قبل الانقلاب بأيام قليلة، والتقى البرهان، ورفض مقابلة حمدوك، بل قال للبرهان نصاً بأنّ “حمدوك يجب أن يرحل”! أو بما تخبرنا به الصحيفة نفسها عن زيارة سرّية قام بها البرهان للقاهرة قبل يوم فقط من القيام بانقلابه، التقى خلالها السيسي، وأطلعه فيها على التفاصيل الأخيرة للانقلاب، وذلك من أجل ضمان دعم السيسي له إقليمياً ودولياً. كذلك يكفي أن نعرف أنّ مصر هي الدولة الوحيدة التي رفضت البيان الرباعي الذي أصدره حلفاء السيسي الإقليميون والدوليون (السعودية والإمارات وأميركا وبريطانيا)، ويدعو إلى عودة الحكومة المدنية الانتقالية، وإنهاء حالة الطوارئ التي فرضها البرهان عشية الانقلاب.

كلما زاد ضغط الشارع السوداني والقوى المدنية على البرهان ورفاقه ازداد التدخل المصري لصالح الانقلابيين

الأكثر من ذلك، بتحليل بسيط لخطاب الانقلاب الذي ألقاه البرهان عشية الخامس والعشرين من أكتوبر، يكتشف المرء أن الخطاب، في ما يبدو، قد كُتب في القاهرة، وليس في الخرطوم، وأن بصمات من كتبوا بيان انقلاب السيسي في الثالث من يوليو/ تموز 2013 ظاهرة فيه، كما تنبعث منه رائحتهم بشكل لا يمكن إخفاؤه أو طمس معالمه. كما أنّ الإجراءات والخطوات التي اتخذها البرهان منذ القيام بالانقلاب تسير على الطريق نفسه والأسلوب نفسه الذي نفذ السيسي من خلاله انقلابه. وكأن البرهان يقرأ من كتاب “الانقلابات” الذي وضعه السيسي، والذي أصبح بمثابة “كتالوغ” يسير عليه كل من يرغب في الانقلاب على شركائه المدنيين. تماما كما فعل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز الماضي حين استخدم اللغة نفسها والأسلوب والمنهج نفسيهما من أجل تنفيذ انقلابه على الدستور، وعلى الحكومة، وعلى البرلمان، وتماماً مثل ما قد يحدث في ليبيا قريباً!

ما تريده القاهرة من الخرطوم، وغيرها من العواصم العربية التي تحلم بإقامة حكم مدني ديمقراطي، واضح وصريح: لن نقبل سلطة مدنية، مهما كان الثمن، ولو تطلّب الأمر التدخل المباشر لإجهاض ذلك وضمان عدم وقوعه. ولا يتعلق الأمر فقط بخوف العسكر وحلفائهم في المنطقة من انتشار عدوى الديمقراطية بين الشعوب العربية، لكن أيضاً برغبتهم في تحطيم أي نموذج مدني للحكم قد يؤثر على صورتهم وسلطتهم ونفوذهم في المنطقة.

بكلمات أخرى، يبدو أنّ الديمقراطية العربية أصبحت بمثابة الخط الأحمر الذي لن يقبل السيسي، ومعه محور الثورة المضادّة، أن تتخطّاه المجتمعات العربية. لذلك، من المتوقع أنّه كلما زاد ضغط الشارع السوداني والقوى المدنية على البرهان ورفاقه ازداد التدخل المصري لصالح الانقلابيين هناك، ما يعني أنّ السودان مقبل على أوقات عصيبة وأثمان مرتفعة سوف يدفع ثمنها المدنيون، وذلك في سبيل التصدّي لانقلاب البرهان ومن يدعمونه ويقفون خلفه.

 

وجد مجلس الأمن صعوبة بالغة في إصدار موقف موحد حول الانقلاب العسكري الأخير في السودان نظرا للخلافات القائمة بين الأطراف المكونة للمجلس، لاسيما بين روسيا من جهة والغرب من جهة ثانية. وأمام هذا الوضع المتأزم للمنظومة الدولية، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس “القوى العظمى إلى التكاثف لضمان وجود رد فعال لوباء الانقلابات”. وانقلاب السودان ما هو إلا حلقة جديدة من مسلسل الانقلابات المتواصل الذي يزعزع استقرار القارة السمراء أمام أنظار العالم. فكيف يفسر هذا العجز الدولي عن وقف هكذا انقلابات؟

توالي الانقلابات العسكرية في أفريقيا منذ عامين، أصبح يثير قلق القوى الإقليمية والدولية على حد سواء بشأن استقرار القارة ومسار انتقالها نحو الديمقراطية وبناء مؤسسات مستدامة. ولا تواجه هذه الانقلابات ما ينبغي من الحزم من لدى المجتمع الدولي، ما يزيد من مخاوف استمرارها وانتقال العدوى إلى بلدان أخرى.

ويعد انقلاب السودان آخر حلقة في مسلسل الانقلابات هذه، التي أتت بالعسكر إلى السلطة، وأطاحت بالحكم المدني في عدة بلدان، حتى وإن كانت الأنظمة السابقة محل انتقادات عديدة، سواء لاستفرادها بالسلطة وطريقة تدبيرها للحوار مع المعارضة (كما في غينيا) أو لفشلها في حلحلة الملفات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة وكذا الأمنية (مثلا في مالي والسودان).

وارتفعت وتيرة الانقلابات في القارة الأفريقية منذ 2020 بشكل ملحوظ، وكانت مالي أول من دشن هذه المرحلة الجديدة من عودة العسكر إلى السلطة في أكثر من بلد بالقارة السمراء. ويتم الاستيلاء على الحكم من قبل الجيش عادة بناء على مبررات هشة يسوقها الانقلابيون في محاولة لكسب الشرعية.

وقبل هذه المرحلة الجديدة من الانقلابات، كانت آخر عملية سطو على السلطة تعود إلى عام 2017 في زيمبابوي، وتحديدا في 21 تشرين الثاني/نوفمبر عندما استقال الرئيس روبرت موغابي في عمر ناهز 93 عاما ثلاثون منها في الحكم، بدفع من الجيش وحزبه وضغط من الشارع في ختام أزمة دامت أسبوعا.

ومنذ ذلك التاريخ، مرت الأنظمة الأفريقية بنوع من الاستقرار حتى 18 آب/أغسطس من 2020، تاريخ الإطاحة بالرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا بعد عدة أشهر من أزمة سياسية، لتفرض على النظام الجديد عقوبات دولية لم ترفع إلا بعد تشكيل حكومة انتقالية في 5 أكتوبر/تشرين الأول، على أن يتم تسليم السلطة للمدنيين خلال 18 شهرا.

ليأتي دور تشاد في 20 نيسان/أبريل 2021، أي غداة وفاة الرئيس إدريس ديبي، إذ قام مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي الذي كان آنذاك قائدا للحرس الرئاسي، بحل الحكومة والجمعية الوطنية. ووعد نجل الزعيم المتوفى بمؤسسات جديدة بعد انتخابات “حرة وديمقراطية” في غضون سنة ونصف السنة.

ولم يستبعد الجنرال ديبي في الآونة الأخيرة تمديد الفترة الانتقالية 18 شهرا إذا لم يتم استيفاء “بعض الشروط”.

وانتقلت “العدوى” مجددا إلى مالي في 24 أيار/مايو 2021، إذ اعتقل العسكريون الرئيس ورئيس الوزراء بعد تعيين حكومة انتقالية جديدة أثارت استياءهم. وتم تنصيب الكولونيل أسيمي غويتا في حزيران/يونيو رئيسا انتقاليا.

وأكد الضباط الماليون في بادئ الأمر أنهم سيسلمون السلطة إلى المدنيين في مطلع 2022، لكنهم يعتزمون إرجاء الانتخابات المقررة في 27 شباط/فبراير، فيما تطالب مجموعة دول غرب أفريقيا بإجرائها في الوقت المحدد كما عبرت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء ذلك.

وفي 5 سبتمبر/أيلول الماضي، أطاح انقلاب عسكري برئيس غينيا ألفا كوندي بعدما تمت إعادة انتخابه في أكتوبر/تشرين الأول 2020 لولاية ثالثة مثيرة للجدل. وعد الانقلابيون بقيادة الكولونيل مامادي دومبويا بإجراء “مشاورات” وطنية بهدف تحقيق انتقال سياسي يوكل إلى “حكومة وحدة وطنية”.

وفي 25/أكتوبر/تشرين الأول، اهتز السودان على وقع انقلاب عسكري قاده الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يرأس المرحلة الانتقالية، وقام بحل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك.

يرى أستاذ العلوم السياسية المغربي رشيد لزرق في حديث لفرانس24 أن هذه الانقلابات “موجة لن تتوقف ومحركها يظل خارجيا وفق نظرية المحيط و المركز، وهي من تداعيات تغييرات يعرفها العالم إذ إنه داخل دول المركز تتحرك خيوط اللعبة السياسية…”، مشيرا إلى أن “الدول الاستعمارية السابقة لم تنه الارتباط بالنخبة الحاكمة في أفريقيا كما أن هناك العديد من المشاكل لم تحل بطريقة جذرية، وهذا ما يؤدي إلى إشعال حروب أهلية ونزاعات المسلحة بين الفينة والأخرى، والتي كانت السمة المميزة والطريق الذي يؤدي إلى السلطة في دول لا تزال تعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي الذي يرجح كفة طرف على طرف آخر”.

فإن كان العسكر يستغلون “الغضب الشعبي” لتنفيذ عمليات الانقلاب، حسب لزرق، إلا أن محدثنا يركز أيضا على “الأزمات الاقتصادية والبيئة الدولية المتقبلة” لما لها من دور في وصول العسكر إلى الحكم، في عالم تحكمه مصالح القوى الكبرى. ويلفت لزرق إلى أن أفريقيا تحولت بدورها لحلبة جديدة للصراع الدائر في العديد من مناطق العالم بين الصين وروسيا من جهة والغرب من جهة ثانية.

وهذا الصراع يفسر المأزق الذي تواجد فيه مجلس الأمن لإصدار موقف موحد بشأن الانقلاب في السودان قبل أن يخرج الخميس ببيان بعد أيام من المباحثات الشاقة، ظلت روسيا تشدد خلالها على تخفيف لهجته تجاه الوضع الجديد في هذا البلد العربي والأفريقي.

وطالب مجلس الأمن الدولي الخميس “بعودة حكومة انتقالية يديرها مدنيون” في السودان. وأعرب المجلس عن “قلقه البالغ” إزاء الوضع. كما طالب بـ”الإفراج فورا عن جميع من اعتقلتهم السلطات العسكرية”. وكانت مسودة بيان أول في بداية الأسبوع تضمنت “إدانة بأشد العبارات” لانقلاب العسكريين قبل أن يتم شطب هذه العبارة من المسودة.

وبدا الأمين العام للأمم المتحدة واضحا في مؤتمر صحافي لتأكيد حدة هذا الصراع بين الغرب وروسيا خاصة، وتحدث بجلاء عن “الانقسامات الجيوسياسية الكبيرة” التي تمنع “مجلس الأمن من اتخاذ تدابير قوية”، وتجعل “القادة العسكريين يعتبرون أن لديهم حصانة كاملة، وأن بإمكانهم فعل ما يريدون لأنه لن يمسهم شيء”.

ودعا غوتيريس “القوى العظمى إلى التكاثف من أجل وحدة مجلس الأمن لضمان وجود ردع فعال لوباء الانقلابات”، الذي يشهده العالم ليس في أفريقيا وحسب بل حتى في آسيا.

 

أطاح جنود من القوات الخاصة بالرئيس الغيني ألفا كوندي. الانقلاب لم يكن مفاجئاً لمتابعي شؤون غينيا، وخاصة بعد “النزعة السلطوية” للرئيس وتغييره الدستور وتنظيم انتخابات تسمح له بالحكم لولاية ثالثة أثارت الكثير من الجدل.

أعلن ضباط من القوات الخاصة الغينية أمس الأحد (الخامس من أيلول/ سبتمبر 2021) اعتقال الرئيس ألفا كوندي والسيطرة على العاصمة كوناكري وكذلك “حل” مؤسسات الدولة في انقلاب قد ينذر بانتهاء دور أحد مخضرمي السياسة الإفريقية الذي بات معزولا بشكل كبير. بدأ كوندي (83 عاما) ولايته الثالثة في كانون الأول/ديسمبر 2020 رغم طعون من منافسه الرئيسي سيلو دالين ديالو وثلاثة مرشحين آخرين نددوا بـ “حشو الصناديق” وتجاوزات كثيرة مختلفة.

الأمم المتحدة نددت بأي استيلاء على السلطة بالقوة وهددت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) باتخاذ إجراءات عقابية. وقال الاتحاد الأفريقي إنه سيعقد اجتماعا على وجه السرعة وسيتخذ “الإجراءات المناسبة” بينما دعت وزارة الخارجية في نيجيريا، القوة الرئيسية في المنطقة، إلى العودة إلى النظام الدستوري.

من جانبه، لم يتفاجأ أستاذ العلوم السياسية الغيني إبراهيما كين، الباحث في مؤسسة المجتمع المفتوح، بالانقلاب على الرئيس، وخاصة بعد الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد منذ عامين. وقال في مقابلة مع DW: “نعلم جميعا أن غينيا كانت في قلب العاصفة منذ أكثر من عامين، إذا جاز التعبير. مع أزمات لا نهاية لها فيما يتعلق بالانتخابات التي نظمتها البلاد (في أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، وفيما يتعلق بالاستفتاء على دستور جديد، الذي عمل الرئيس بنفسه (من أجل السماح له بالترشح لولاية ثالثة في المنصب لم يكن مسموحًا بها حتى ذلك الحين)، كانت غينيا في أزمة دائمة! كان من الواضح أن شخصا ما سيحاول يوما ما تصحيح الأمور”.

منذ أشهر، تشهد هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا وتعد بين الأفقر في العالم رغم مواردها المنجمية والمائية الكبرى، أزمة سياسية واقتصادية عميقة تفاقمت من جراء وباء كوفيد-19. وتسبب ترشح كوندي لولاية ثالثة عام 2020 بتوتر استمر أشهراً وخلّف عشرات القتلى. واعتُقل عشرات المعارضين قبل الانتخابات وبعدها. يذهب الخبير السياسي كين إلى حد القول إنه لا يوجد أحد في السلطة بشكل شرعي في غينيا. ويضيف: “شرعية الدستور التي سمحت لألفا كوندي بولاية ثالثة هي موضع تساؤل. لقد فرض إجراء تلك الانتخابات. والجيش الغيني كان منذ فترة طويلة جيشا يعكس حالة الفوضى في البلاد”.

وكانت وزارة الدفاع الغينية قد قالت في بيان إنّ الحرس الرئاسي “صد المتمردين” حين حاولوا اقتحام القصر الرئاسي. لكن السلطات التي كانت قائمة، لزمت منذ ذلك الحين الصمت. من جانبهم، حضّ الانقلابيون “جميع الوحدات (العسكرية) في الداخل على التزام الهدوء وتجنب التحركات نحو كوناكري”. وقال ضباط في بيان بثه التلفزيون الوطني إنه سيتم عقد اجتماع لوزراء حكومة كوندي ومسؤولين آخرين كبار اليوم الاثنين في العاصمة كوناكري. وأضافت مجموعة الضباط أنّ “أيّ رفض للحضور، سيُعتبر تمردا” على المجلس الذي شكله الانقلابيون لحكم البلاد.

قائد القوات الخاصة اللفتانت كولونيل مامادي دومبويا

وقال قائد القوات الخاصة اللفتانت كولونيل مامادي دومبويا وهو إلى جانب الانقلابيين الذين كانوا يرتدون بزات عسكرية ويحملون السلاح، في فيديو وجه إلى مراسل فرانس برس “لقد قررنا بعد القبض على الرئيس الذي بات حاليا في أيدينا، حل الدستور الساري وحل المؤسسات وقررنا أيضا حل الحكومة وإغلاق الحدود البرية والجوية”.

في حين، يعتقد المحلل السياسي الغيني كابين فوفانا أن هناك مخاطر كبيرة بأن تنشب صراعات على السلطة داخل الجيش نتيجة للانقلاب. وأضاف في مقابلة مع DW: “الخطر كبير. لقد رأينا ذلك في الصباح: كان على الوحدة الانقلابية أن تقاتل ضد الحرس الرئاسي، وهو الحرس التقليدي الذي يحمي رئيس الجمهورية. كان هناك تبادل لإطلاق النار، لذا لا يوجد إجماع على هذا الانقلاب. والسؤال الآن هو كيف سيستمر الوضع في المساء وفي الأيام المقبلة. سيكون بمثابة مواجهة، لأنه مع مثل هذا الاستيلاء على السلطة عادة ما يفوز الشخص الأقوى”.

وعلى مدى عشر سنوات من حكم كوندي، شهدت غينيا نموا اقتصاديا مستداما بفضل ثروتها من البوكسيت وخام الحديد والذهب والألماس، لكن قلة من مواطنيها حصدوا ثمار هذا النمو. ويقول منتقدون إن الحكومة لجأت لقوانين جنائية لكبح أي معارضة، بينما تأججت الخصومات السياسية بسبب انقسامات عرقية وفساد مستشر.

وقال أحد سكان كوناكري لرويترز “بينما كان الرئيس يزعم في كل مكان أنه يريد أن يحكم بطريقة مختلفة من خلال اجتثاث الفساد، زاد اختلاس الأموال العامة… كل ذلك جعل الأمر أسهل على الجيش”. وزادت الحكومة الضرائب زيادة كبيرة في الأسابيع القليلة الماضية لملء خزائن الدولة، ورفعت سعر الوقود 20 بالمئة ما تسبب في حالة سخط واسعة النطاق.

وبعد الإعلان عن عزل الرئيس نزل مئات من سكان كوناكري لا سيما في الضواحي المعروفة بأنها مؤيدة للمعارضة، إلى الشوارع للترحيب بالعسكريين من القوات الخاصة، كما أفاد مراسلو وكالة فرانس برس. وقال أحدهم رافضا كشف اسمه “نحن فخورون بقواتنا الخاصة، عار على الشرطة وعار على ميليشيا الرئيس السابق ألفا كوندي، الموت لجلادي وقتلة شبابنا”.

وقال ماديو سو وهو سائق “لم أكن لأتخيل أن ألفا كوندي سيترك السلطة في حياتي، لقد أساء إلي كثيرا”، مضيفا “لقد قتل خلال التظاهرات شقيقتي ماريانا، وابن أخي بيسيريو وابن عمي الفاديو، ولم يحظ أي منهم بتعاطف السلطة”. وكان يشير إلى القمع الدموي لتظاهرات المعارضة والتعبئة ضد اعتماد دستور جديد في استفتاء عام 2020 والذي استخدمه كوندي للترشح والفوز بولاية ثالثة.

مقتل إدريس ديبي يفتح مرحلة من عدم الاستقرار في تشاد

“شهوة حب السلطة”

ويصف أستاذ العلوم السياسية إبراهيما كين، إصرار كوندي على الاستمرا في الحكم بأنه “شهوة حب السلطة” التي عانى منها كوندي. ويضيف “أعتقد أن هذا هو مرض شهوة حب السلطة. عندما تصل السلطة إلى شخص في بلادنا، يصبح لديه الانطباع بأنه أصبح ملكا، وأنه شخص يمكنه فعل كل شيء، ويمكنه أن يقرر كل شيء، وأنه أصبح مركز اهتمام الكون. وأعتقد أن ألفا كوندي سقط في هذه اللعبة. أحاط نفسه بأشخاص جعلوه يعتقد أنه يمثل الألف والياء في الحياة السياسية بغينيا. وأنه بدونه، لن ينجح شيء. ولكن دعونا ننظر إلى الرجل: إنه يبلغ من العمر 83 عاما! عندها نعرف إنه لم يعد يمتلك قوته الكاملة للسيطرة على بلد معقد مثل غينيا”.

من جانبه أكد زعيم الانقلابيين “سنعيد صوغ دستور جديد معا، هذه المرة، كل غينيا”، معربا عن أسفه “لسقوط كثير من القتلى بدون جدوى، كثير من الجرحى وكثير من الدموع”. لكن الجبهة الوطنية للدفاع عن الدستور، وهي تحالف حركات سياسية وأخرى من المجتمع المدني، نظمت الاحتجاج ضد ولاية ثالثة لكوندي، قالت إنها أخذت علما “باعتقال الديكتاتور” وبتصريحات العسكريين حول الدستور.

وكانت مالي التي ترزح تحت وطأة تمرد جهادي دام، قد غرقت في أزمة سياسية العام الماضي أدت إلى انقلاب عسكري في آب/أغسطس 2020 ضد الرئيس المنتخب ابراهيم بوبكر كيتا. وفي أيار/ مايو الماضي، أثار تعديل وزاري غضب الجيش فأطاح بالرئيس المدني الانتقالي وعين مكانه الكولونيل أسيمي غويتا.

لكن قادة مالي يكررون باستمرار تعهدهم الالتزام بجدول زمني مدته 18 شهرا لنقل السلطة للمدنيين، وهو مطلب أساسي لجيران مالي القلقين إزاء الاضطرابات. ويتضمن الجدول الرسمي الدعوة لاستفتاء على تعديلات دستورية في 31 تشرين الأول/أكتوبر القادم، تليه انتخابات إقليمية ومحلية في 26 كانون الأول/ديسمبر تؤدي إلى دورة أولى من الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 27 شباط/ فبراير.

لكن تحقيق هذه الروزنامة، الطموحة في أي بلد، يبدو أكثر صعوبة في بلد مثقل بالمشكلات السياسية واللوجستية. ويكرر القادة العسكريون الذين يحكمون مالي تعهدهم تسليم السلطة للمدنيين بعد الانتخابات، لكن مع أقل من ستة أشهر على ذلك الموعد تتزايد الشكوك بشأن احترام هذا الجدول الزمني.