اطلعتُ على آراء عدد من شُرّاح القانون الذين ذهبوا في مؤلفاتهم إلى أن من أبرز وظائف القانون حماية المجتمع، وألا يتحول إلى مصدر لإثارة النزاعات بين أفراده، حتى وإن اقتضى الأمر التضحية ببعض اعتبارات العدالة.
ويرى هؤلاء أن القانون، بما هو مجموعة من القواعد العامة المجرّدة، إنما يهدف إلى تنظيم سلوك المجتمع، ويحيط هذا السلوك بالحماية، مانحاً إياه الأولوية في الرعاية.
وبما أن مصدر القانون هو دائماً سلطة الدولة، سواء تجسّد في صورة تشريع أو عُرف أو قضاء(1)، فإن من أهم وظائف القانون تنظيم المجتمع على نحو يحقق الخير العام، وذلك من خلال وضع قواعد ثابتة تكفل سير علاقات الأفراد في مختلف مجالات الحياة على وتيرة واحدة، ووفق خطة محددة تمليها تلك القواعد. وبذلك تتجلى فكرة القانون في جوهرها بوصفها تنظيماً عادلاً للمجتمع، يكفل حريات الأفراد ويضمن تحقيق المصلحة العامة(2).
فالقانون، بوصفه منظِّماً للروابط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يعمل على حفظ النظام في المجتمع وضمان استقراره، ومن ثمّ الحفاظ على تماسكه ورقيّه. ومن هنا، يغدو القانون ضرورةً لبقاء المجتمع، إذ لولاه لعمّت الفوضى وتفشّى الاضطراب(3).
وإن حاجة الأفراد إلى نظام ينظم نشاطهم وما ينشأ عنه من علاقات، تقتضي وجود قواعد موضوعة يسترشدون بها في تحديد سلوكهم، ويلتزمون باحترامها أو يُلزمون بذلك. وهذه القواعد تهدف إلى تحقيق التوازن بين الحريات المتعارضة والمصالح المتباينة، بما يكفل إرساء النظام والاستقرار وتحقيق العدالة في المعاملات(4).
إذ إن القانون يهدف في الواقع إلى غرضين رئيسين: الأول إقرار صون الحريات ومصالح الأفراد، والثاني حفظ كيان المجتمع من خلال تأمين النظام والاستقرار فيه وضمان تحقيق المصلحة العامة(5).
لذا فإن الحاجة إلى النظام والاستقرار والأمن قد تُباعد أحياناً بين القانون والعدالة، إذ يسعى القانون إلى منع النزاعات أو الحد منها، وهو ما قد يقتضي التضحية ببعض متطلبات العدالة. ويُعزى ذلك إلى أن الحفاظ على استقرار المجتمع يُعد، في بعض الأحيان، أَولى بالاعتبار وأجدر بالحماية(6).
وفي هذا السياق، يرى الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري أن “القانون في تنظيمه للروابط الاجتماعية إنما يتوخى غاية نفعية، هي إقامة النظام واستقراره في المجتمع، ولو اقتضى ذلك أن يحيد أحياناً عن مقتضى قواعد الأخلاق والدين”. ويضرب مثلاً على ذلك بإقرار القانون ملكية من يضع يده على عقار بنية التملك مدة خمس عشرة سنة، حتى وإن كان غاصباً، وكذلك بحكمه بسقوط الحقوق بالتقادم. ويذهب السنهوري إلى أن هذه الأحكام أقرب إلى تحقيق النظام في المجتمع، ولو جاوزت في ذلك بعض قواعد الأخلاق(7).
وهذا يقودنا إلى نتيجة جوهرية مؤداها أن صيانة وحدة المجتمع وتجنّب إثارة النزاعات بين مكوّناته تمثل أولوية تسمو على غيرها من الاعتبارات.
وعليه، فإن على المشرّع أن يضع نصب عينيه أن أي قانون يُسنّ يجب أن يكون أداة لترسيخ الاستقرار المجتمعي وتعزيز السلم الاجتماعي، وألا يتحول إلى مصدر للانقسام أو الصراع.
ذلك أن العدالة، على أهميتها، ليست الغاية الوحيدة للقانون، بل تُعد وسيلة ضمن منظومة أوسع غايتها تحقيق النظام وضمان استمرارية المجتمع.
- باحث دكتوراه في القانون العام
***********************
الهوامش
1- د. سمير تناغو، النظرية العامة للقانون، منشأة المعارف بالإسكندرية، مصر، 1974، ص37.
2- د. إدريس العلوي العبدلاوي، أصول القانون، الجزء الأول، نظرية القانون، الطبعة الأولى، دار القلم، لبنان، 1971، ص40.
3- د. نبيل ابراهيم سعد، د. محمد حسين منصور، مبادئ القانون، در النهضة العربية، لبنان، 1995، ص13- 14.
4- د. حسن كيره، المدخل إلى القانون، منشأة دار المعارف بالإسكندرية، مصر، 1969، ص16-17.
5- د. غالب علي الدواودي، المدخل إلى علم القانون، الطبعة السابعة، دار وائل للطباعة والنشر، الأردن، 2004، ص12.
6- د. محمد حسن قاسم، المدخل لدراسة القانون، الجزء الأول: القاعدة القانونية، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2006، ص15- 16.
7- د. عبد الرزاق أحمد السنهوري، أحمد حشمت أبو ستيت، أصول القانون، مطبعة التأليف والترجمة والنشر، مصر ، 1950، ص16.