18 ديسمبر، 2024 5:44 م

دور الاوبئة و الأزمات والحروب في التغيير

دور الاوبئة و الأزمات والحروب في التغيير

بقدر ما تخلف الاوبئة والحروب والازمات من مآسي وخسائر مادية وبشرية، فهي أيضاً تكشف عن مواطن الخلل في بنى الانظمه السياسيه والاقتصادية، وقد تسهم في تحولات جذرية على مستوى البلدان أو العالم، ويحدد طبيعة وحجم التحولات ميزان القوى الاجتماعية الفاعلة ومدى قدرة الانظمة على الإستمرار ضمن آلياتها القديمه و قدرتها على مقاومة ريح التغيير.

وباء الطاعون: ( نظام القنانه وثورة الفلاحين)

في القرن الرابع عشر حصد الطاعون نصف سكان أوروبا، وكان معظم الضحايا من الفلاحين، القوى المنتجه الأكبر آنذاك، وقد أحدث نقص الايدي العاملة الزراعية تحولات متباينة في أوروبا، ففي روسيا مثلاً حيث يتمتع ملاك الاراضي بسلطة ونفوذ كبيرين، إنبثق نظام القنانه الذي تحول بظله الفلاحون الى شبه عبيد، أما في بريطانيا فقد أدرك الفلاحون أهمية قوة عملهم لينتفضوا في ثورة عارمة عام 1381 م، اتخذت ثورتهم طابعاًعنيفاً وساندها سكان المدن، مما اضطر النظام الملكي الى تقديم تنازلات بسن قوانين اجبرت الإقطاعيين على القبول بتخفيض ايجارات الاراضي وزيادة حصة المزارعين من الغلال و إلغاء الزيادة في ضريبة الرأس التي كانت تجبى لتمويل الحروب.

وباء الانفلونزا الاسبانية: ( بناء اول نظام صحي مركزي وشامل)

لم تصل الحرب العالمية الاولى نهايتها حين تفشى وباء الانفلونزا الاسبانية عام 1918 م، والذي تسبب في وفاة عشرات الملايين بل تجاوز عدد ضحاياه قتلى الحرب نفسها. كشف الوباء عن عجز الانظمة الصحية في توفير الخدمات الطبيه والتقليل من حالات الوفاة، إذ لم تكن هناك آنذاك انظمة صحية مركزية متماسكة، بل هي عبارة عن مؤسسات صحية مفككه لاتنسيق أو ترابط فيما بينها، كما أنها قطاعات استثمار خاص تخضع لقوانين السوق ومنطق الربح، وبالتالي فهي غير مؤهلة للتعامل مع الاوبئة التي لا تميز بين الميسور و الفقير. و تحصد الارواح على نطاق واسع ، الأمر الذي يتطلب خططاً مركزية كبيرة و تنظيماً عالي المستوى ومسؤولية اخلاقية بعيده عن منطق السوق و والربح والخسارة. كتبت لورا سبايني في مجلة سمثسيون انه في أعقاب الوباء والحرب الاهلية في الاتحاد السوفيتي دعت الضرورة الى تأسيس أول نظام صحي مركزي تموله الدوله، تقدم فيه الخدمات الصحية والأدوية لجميع المواطنين دون مقابل، على اعتبار ان الرعاية الصحيه حق من حقوق الانسان لا يمكن تسليعها. ومن دروس الأنفلونزا الاسبانية ان الدول الغربية هي الاخرى شرعت تدريجياً في اشراك الدولة بادارة وتمويل المؤسسات الصحية، و لكن لم يتم فيها انجاز نظام الرعاية الصحية المركزي الشامل الممول من قبل الدوله إلا بعد الحرب العالمية الثانيه.

أزمة الكساد الكبرى 1929 م: ( الفاشية أم دولة الرفاه)

الازمات الاقتصادية الكبرى تكشف عن اختلال وتعثر النظام الاقتصادي، مما يدعو الى احداث تحولات راديكالية لمعالجة اسباب تعثره وتقويم مساره، وكما ورد في المقدمة قد تأخذ تلك التحولات وجهات مختلفة. ازمة الكساد العظيم التي امتدت طيلة عقد الثلاثينات كادت أن تطيح بالنظام الرأسمالي فكان لابد من إحداث تغييرات جذرية لاصلاح آليات عمله. في ايطاليا والمانيا اتخذ التغيير طابعاً يمينيا متطرفاً قاد البلدين الى الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية، فقد استغل القائدان هتلر و موسوليني معاناة وغضب شعبيهما باستثارة مشاعر الاستعلاء القومي وحرف الانظار عن مصدر المعاناة الاقتصادية الحقيقي بالقاء اللوم على اليهود والغجر والعجزة و الاشتراكيين والشيوعيين و باقي الشعوب من (الاعراق المتدنية). على عكس ذلك كانت معالجة الازمة في الولايات المتحدة بما يدعى (الاتفاق الجديد The New Deal) ، اذ أصبحت الدولة بقيادة روزفلت أكبر مستثمر لبناء السدود والجسور واقامة المشاريع الصناعية والزراعية الكبرى وتطوير البنية التحتية وذلك لتحريك الاقتصاد وتوفير الوظائف، اضافة الى برامج الرعاية الاجتماعية كالتأمين الاجتماعي لكبار السن وغير القادرين على العمل، وقوانين دعم العاطلين وبرامج اقراض للاستثمارات الصغيرة ودعم الصحة والتعليم وبناء الجامعات ومراكز البحوث.

الحرب العالمية الثانية:( دول الرفاه الأوربية)

خلفت الحرب العالمية الثانية عشرات الملايين من القتلى ومثلهم من الجرحى والمعوقين، وحولت مدناً و قرى الى اطلال، ودمرت البنى التحتية في معظم البلدان الاوربيه. وكالعادة في أعقاب اي حرب أو أزمة تركن إيديولوجيا الاقتصاد الحر جانباً و تشل اليد الخفية السحرية للسوق، و تلجأ الدول الرأسمالية الى النهج الكينزي، اذ تتدخل الدولة في مشاريع انفاق هائلة في الزراعة والصناعة والنقل وبرامج الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم، وهكذا دعت الضرورة عقب الحرب لانشاء ما يسمى بدول الرفاه. كما شهدت فترة ما بعد الحرب تعزيز مكانة المرأة الاجتماعية واتساع دورها في الاقتصاد والمشاركة السياسية، فقد شغلت النساء وبجدارة مكان الرجال الذين غادروا أعمالهم للالتحاق بالجبهة في كل مرافق الاقتصاد.

ازمة الرهن العقاري:( انعدام الشفافية وصعود اليمين في العالم )

بعد ازمة دوتكوم عام 2000 م، ثم ازمة الرهن العقاري ( 2007 -2009 م )، كان من الحكمة- حتى ضمن المنطق الرأسمالي- رسم خطة ستراتيجية لاعادة هيكلة البنية الاقتصادية وفق المنهج الكينزي بصيغ محدثه، والاستفاده من التكنولوجيا الحديثة بالاستثمار في مشاريع كبرى وخاصة في مجال الطاقة البديلة، و الانفاق السخي على دعم الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والخدمات والصحة والمعرفة والرعاية الاجتماعية، وتفكيك الشركات والمصارف العملاقه تدريجياً لتجديد مناخات التنافس، بدل الاستسلام لحقيقة ان الاقتصاد رهينة بيد تلك الشركات بحيث يؤدي انهيارها الى انهيار الاقتصاد بكامله. ما حصل العكس تماماً، فقد انفقت الحكومات الرأسمالية أموالاً بارقام فلكية لدعم البنوك و الشركات العابرة للقارات في برامج نفتقد للشفافية، فقد قيل للشعب الامريكي مثلاً ان الحكومة ستدعم المصارف بما يقارب ٧ مليار دولار، وحين كشفت الوثائق ان البنك الفدرالي في الحقيقة قدم من التسهيلات والقروض ما تجاور ال ١٤ تريليون، ادعى المسؤولون ان الشركات والمصارف قد سددت معظم القروض، وإن صح ذلك فالخدعة هنا ان تلك القروض منحت بنسبة فائدة أقرب الى الصفر، مما يعني ان دافعي الضرائب سيسددون مليارات الدولارات من قيمة الفوائد الحقيقية للديون الخارجيه نيابة عن المصارف والشركاتَ. في المقابل فقدت خمسة ملايين عائلة عقاراتها دون مساعدة. من نتائج تلك السياسات الاقتصادية التي استمرت الحكومات النيوليبرالية على اتباعها اتساع الفوارق الطبقية اتساعاً خطيراً وانحسار ثقه الشعوب بحكوماتها، وكما حدث في الثلاثينات في ايطاليا والمانيا يعيد التأريخ نفسه، إذ يستغل اليمين المتطرف الغضب الشعبي في استثارة الكراهية ضد الاجانب أو المسلمين والمهاجرين بدعوى انهم سبب الأزمات ومعاناة ابناء البلد، و هنا يكمن سر صعود اليمين المتطرف في معظم بلدان العالم.

اذا كانت الاوبئة والحروب والازمات تعقبها منعطفات هامة عبر التأريخ، فما الذي يمكن ان يفعله فيروس كورونا غير المرئي في تشكيل مستقبلنا، واذا كان أقصى طموح لقادة العالم هو العودة للوضع الطبيعي كما لمح كيسنجر، أليس ما يدعونه الوضع الطبيعي هو السبب فيما نحن فيه الآن؟، هل سيمضي العالم قدماً مع النيوليبرالية بانتظار كَوارث أكبر، و يتجاهل ما يقوله العلم والعلماء من اننا قد لا نمتلك الوقت الكافي لانقاذ الطبيعة وحضارة الانسان المهددة بالتغير المناخي ( الوباء الأكبر) مالم يتوقف تلويث البيئة و جز الغابات وتدمير الطبيعة واستنزاف الموارد الطبيعية لجني الارباح؟ هل سنتعظ ونبدأ في بناء مستقبل أفضل أم نحن أمام عالم أكثر عتمة؟، الحلقة الثانية من المقال ستكرس لمناقشة تلك الأسئلة وغيرها. …… بتتبع