” إن تحطيم الإنسانية يكون شاملا في نظام الذعر الشمولي”1[1]
وجّهت حنة أرندت 1926-1975 بحوثها نحو دراسة الوقائع السياسية بعد قيامها بوصف فنومينولوجي للوجود الإنساني في كتابها الشهير وضع الإنسان الحديث الذي كانت قد ألفته سنة 1958 وأبقت فيه على مسلمات الفلسفة الوجودية التي درستها عند ياسبرس وهيدجر وطالعتها عند سارتر ودي بوفوار وكامو.
لقد تصورت الوجود من حيث هو وجود فاعل على ثلاث مستويات وهي: الشغل travail الذي يواجه به المرء ضرورات الحياة ويسمح له بالاستمرار في الوجود ، والصنعoeuvre الذي ينتج بواسطته المرء مجموعة من المواضيع الدائمة التي تشكل العالم المصنوع الذي يحيا ضمنه الناس، والفعلaction الذي يختلف عن العمل ولا يكتف بتحقيق هدف معين وإنما يساعد المرء على أن يعيش تجربة استثنائية من إمكانيات الحياة السياسية بين المتساوين أي يتواجد معهم في فضاء عمومي وفق مبدأي المساواة والتميز.
لقد راهنت أرندت على الثورات الاجتماعية لهدم الأنظمة الشمولية المغلقة وفتحت فضاءات عامة للناس وجددت التفكير الأخلاقي حينما ربطت بين إرادة العيش المشترك و الحرية والكرامة بالنسبة للأشخاص.
لقد شجبت أرندت النزعة الفاشية التي ارتبطت بأنظمة الحكم الفردية والتسلطية في كل من ايطاليا وألمانيا وشجعت نضال الجمهوريين والديمقراطيين الذي يدرج ضمن التجارب المناهضة للنزعة الفاشية والنازية.
بيد أن الطريقة الجديدة التي أصبح يدير بها النظام الفاشي الحياة العمومية قد أدت بالفكر إلى تجديد العلوم السياسي ودفعها إلى توقيع مفهوم جديد عن السيطرة تشخص به انسداد آفاق السياسة وأطلقت عليه اسم الشموليةtotalitarisme وحللته من جهة أصوله وظروف تشكله والطرق التي يستعملها في التحكم في الناس واستعمال السلطة والقيام بالمراقبة المستمرة الدائمة للناس من طرف الذراع الأمني للحزب الحاكم. لقد انتبهت إلى أن النظرية السياسية تكاد تكون متشابهة بين الأنظمة في ألمانيا وايطاليا وروسيا وأن القيام بتوظيف أفكار مونتسكيو ودي توكفيل حول الطغيان لا تكفي لفهم ظاهرة الشمولية أمام تناميها وتعقدها ولذلك فهي تحتاج بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى إحداث انقلاب في المنظور السياسي التقليدي وبلورة تغيير جذري في عناصر التحليل ومقولات الوصف للأحداث بغية التخلص من الهيمنة المطلقة مثل الامبريالية ومعاداة السامية والدولة الشمولية واستبدال السيطرة الدكتاتورية بعنف النظام الشمولي وتطرقت إلى الذعر والشجب والعزل والفراغ والعدم والتصحر والانسداد والانغلاق وبينت أن الشمولية تحطم الحياة الخصوصية وتفرد الشخصيات المتميزة وتعمل على تشكيل جسم سياسي متجانس ومنصاع.
كما تتعمد الشمولية اختلاق جملة من القوانين الشمولية التي لم تكن معروفة في حكم الطغيان وفي دولة الاستبداد والحكم الفردي والحكم التسلطي وتختلف جذريا عن قوانين الأنظمة الجمهورية والدستورية وتتصف القوانين الشمولية بكونها خارقة للعادة وتسمح بالإجراءات الاستثنائية وحالة الطوارئ الدائمة.
تبدو قوانين الأنظمة الشمولية قوانين خاصة من حيث زعمها امتلاك الشرعية légitimité وتخطيها سقف القوانين الوضعية تقوم بالتبرير الإيديولوجي للذعر وتتعامل مع النوع البشري بوصفه موضوع الاختبار دون مراعاة الطابع الفردي والخاص ودون الامتثال لتوجيهات القوانين العادية في الوضعيات الجزئية التي يوجد فيها الناس، والإبقاء على هذه القوانين الشمولية في حالة حركة دائمة وتغيير ارتجالي. إن الذعر Terreur الذي يشعر به الفرد والمجموعة هو ظاهرة سياسية نادرة ولكن تم تعميمه ليصبح في الأنظمة الشمولية ظاهرة عادية ويفيد الفظاعة والرعب والاعتداء والعدوان والعنف والوحشية والإرهاب.
لقد انعكس عن اعتماد النظام القوانين الشمولية انتهاك قوانين الطبيعة وتدنيس القوانين الأخلاقية واختراق القوانين التاريخية والتضحية بمصلحة الأغلبية من أجل تحقيق مصلحة الأقلية والتفويت في الخير العام ولم يقع الاعتداء على الحريات المدنية فحسب بل تم حرمان الناس من العفوية التلقائية بوصفها منبع عميق للحرية وصارت الحياة البشرية في المجتمع الشمولي أشبه بتواجد الحيوانات في حديقة مسيّجة . كما يعمد النظام الشمولي إلى إرهاب المواطنين والضغط الإيديولوجي على المجتمع وخنق الحريات وغلق الحياة السياسية بإلغاء التعددية والتوحيد القسري عن طريق الدعاية إلى رؤية واحدة لنمط من الحياة وإقصاء المختلف والقضاء على المعارض وتسطيح التنوع وجعل الكثرة مجرد أعداد متناسخة كميا.
زد على ذلك يتسبب في خراب الحياة الفردية ويلقي بالأقليات في العزل ضمن حشود وتجمعات مقصية ويمارس الازدراء والتمييز على المعارضين ويفصل الناس عن بعضهم البعض ويفتعل المشاكل المؤدية إلى الانقسامات الاجتماعية ويطبق سياسة فرق تسد ويترك الناس في حاجة دائمة لتدخل الدولة من أجل فض النزاعات بالطرق الأمنية والعنف المشروع الذي كانت قد احتكرته لنفسه من المجموعات والأفراد. لقد صرحت في هذا السياق بأن “الحركات الشمولية هي تنظيمات قسرية للأفراد المتذرين والمعزولين”. لكن النظام الشمولي لا يمكن التخلص منه بالتنديد والشجب وإنما يجدر مقاومة الايديولوجيا الشمولية والعمل على تفكيكها عن طريق تقديس قيم الحرية والتعددية والانخراط في النضال السياسي من أجل نيل الحقوق الأساسية، فماهي الطرق الديمقراطية الجذرية بغية الحصول على مجتمع خال من الشمولية؟ وكيف تنبثق السلطة المشروعة من الفعل المشترك الذي ينخرط فيه الأفراد بإرادتهم وبشكل جماعي؟
1-Arendt Hannah, les origines du totalitarisme, 1951, réédition Gallimard, collection Quarto ,2002, chap 10,
كاتب فلسفي