دواؤك وفق خارطتك الجينية!!
عنوان أخّاذ يبعث علی الأمل في نفوسٍ أضناها الركض وراء علاجاتٍ شتی دون جدوی. فهل نعيش حقاً في عصر يفصّل فيه الأطباء والصيادلة لنا الدواء على مقاس جيناتنا؟
لقد عبّر أبقراط أبو الطب قبل الميلاد عن هذه الفكرة بقوله: (إن معرفة ماهية الشخص الذي يعاني من مرض ما، هو أكثر أهمية من معرفة نوع المرض الذي يعاني منه هذا الشخص)
لقد بدأ الاهتمام بدراسة الاختلافات الفردية في الاستجابة السريرية للأدوية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث لاحظ الأطباء وفاة بعض المرضى عقب العمليات الجراحية علی أثر استخدام مرخي العضلات سكسنيل كولين (Succinyl choline) أثناء التخدير. وتبين فيما بعد أن السبب يعود لنقص وراثي فى إنزيم (cholinesterase) يصيب واحد من أصل كل 2500 شخص مما يؤدي إلى عدم القدرة على استقلاب الدواء وبالتالي زيادة تركيزه في الجسم، مما يقود إلی شلل في عضلات الصدر و توقف التنفس.
ومنذ ذلك الوقت تتالت الأبحاث والدراسات الدوائية، التي قادت إلى تطوير تخصص جديد هو الصيدلة الجينية والطب الشخصي.
الصيدلة الجينية pharmacogenomics…الحكاية من البداية!
تختلف الاستجابة لدواء معين من مريض لآخر، فنفس الدواء بنفس الجرعة يمكن أن يسبب تحسن حالة مريض، وفي المقابل قد لا يحقق نفس القدر من الفائدة لمريض آخر مصاب بنفس المرض واستعمل نفس الدواء وبنفس الجرعة، بل وقد يصاب هذا المريض بأعراض جانبية جراء استخدامه!
فما هو السر إذن؟
كلمة السر تقبع في الاستجابة الجينية للدواء.
تتحكم عوامل عدة في اختلاف الاستجابة للدواء من شخص لآخر، منها العمر ونوع الغذاء ونمط الحياة، لكن هناك عوامل أخری لا تقل أهمية تتعلق بالتركيبة الجينية الشخصية والتي يفسرها ما يسمى النيوكليوتيد المفرد متعدد الأشكال SNP )(single nucleotide polymorphism، وهو الأداة الرئيسية التي يقوم عليها تمييز الفروقات الجينية في استجابة الأفراد للدواء.
واستناداً للأبحاث في مجال الصيدلة الجينية، بدأت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية FDA بوضع معلومات دوائية جينية علی مايزيد عن مائتي مستحضر دوائي، مما يساعد الأطباء بشأن تحديد الجرعة وتقدير الآثار الجانبية المحتملة واختلاف الاستجابة الدوائية للأشخاص الذين لديهم متغيرات جينية.
ومن طرائف تطبيقات الصيدلة الجينية، أن ال FDA قد وافقت علی استخدام دواء BiDil وهو مزيج من النترات والهيدرالازين لعلاج المرضى الذين يعانون من قصور القلب الاحتقاني، هذا الدواء أثار جدلاً كبيراً كأول دواء يتم تسويقه لمجموعة عرقية واحدة فقط هم الأميركيون الأفارقة.
المستقبل إلی أين ؟
إن تطبيقات الصيدلة الجينية وعبر دراسة تأثير الفروقات الجينية بين الأفراد، من شأنها تحقيق فاعلية أكبر للدواء عبر اختيار الدواء الملائم والأكثر أماناً وبالجرعة المناسبة، وتقليل عدد الأدوية التي يأخذها المريض للحصول علی الفاعلية المطلوبة، مما يؤدي إلى تخفيف الآثار الجانبية فضلاً عن انخفاض فترة وتكلفة العلاج.
تتمثل أهمية الصيدلة الجينية بشكل خاص في مجال علاج السرطان باستخدام اختبارات جينية لتحديد درجة الاستجابة السريرية وخطر السمية قبل تقرير خطة العلاج الكيماوي، مثل اختبار K-ras مع cituximab واختبار EGFR مع Gefitinib و HER2 مع Trastuzumab. كما تُوصي منظمة الغذاء والدواء الأمريكية FDA الأطباء بعمل اختبار جيني لمرضى سرطان القولون قبل إعطائهم عقار (Mercaptopurine)، حيث أن بعض الأشخاص يعاني من خلل في عملية استقلاب هذا الدواء داخل الجسم مما يؤدى إلى آثار جانبية حادة .
وفي مجال الأدوية الشائعة كالوارفارين المستخدم لتمييع للدم، أضافت FDA إلی النشرة الدوائية للدواء أن التركيب الجيني للشخص يؤثر في استجابته للدواء. كما يوجد اختبار جيني لدواء كلوبيدوغريل (Clopidogrel) المستخدم كمضاد لالتصاق الصفيحات الدموية ومانع للتخثر. كما تعكف الدراسات في مجال الصيدلة الجينية في سبيل اختيار الدواء المناسب لمرضى الاكتئاب لتسريع الاستجابة الدوائية وتخفيف معاناة المرضى ومنع المضاعفات والآثار الجانبية.
كما أصبح بالإمكان اليوم تطوير علاجات بشكل سريع نسبياً لعلاج مريض واحد مصاب بمرض نادر لاعلاج له ضمن مايعرف بالطب الشخصي، كما حدث مع الطفلة ميلا التي تعاني من مرض “باتن” وهو مرض عصبي نادر، تحسنت حالتها بعد أن تم تطوير دواء خاص لها خلال عام واحد بناء على نتائجها الجينية.
وفي المستقبل المنظور سيعمد الأطباء والصيادلة إلى الاطلاع على نتائج خارطتك الجينية قبل اعطاءك أي وصفة طبية كي يختاروا لك العلاج الأفضل والأكثر أماناً، إنه علم الجينات الذي لا حدود لآفاقه.
– د.منی كيال استشاري المختبرات
– د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث