الحرب على نصارى العراق هي ذاتها الحرب على أنصار الحسين وعشاقه، وهؤلاء وأولئك تهددهم بحرب ضروس، (داعش) القادمة من أرض الغبار والقحط الثقافي والمرض التكفيري الذي يضيق بكل ما في الحياة من تجدد وثقافة وتسامح وأخلاق، وتلك الأخلاق المرتبطة بالأنبياء والأوصياء والقديسين بعيدة تماماً عن (داعش)، وبعيدة أيضاً عن غيرها من التنظيمات التي يأكل مقاتلوها قلوب البشر كما أكلت كبد الشهيد الحمزة بن عبد المطلب عم النبي، جدتهم هند بنت عتبة زوج أبي سفيان (الذي حارب رسول الله في مكة، وهجره منها، ثم حاربه في معركة أحد التي استشهد فيها من المسلمين سبعون، والذي من دخل داره فهو آمن)، وهند هي والدة معاوية خال المؤمنين (الذي حارب علي بن أبي طالب، وقتل حجر بن عدي وميثم التمار، وسم الإمام الحسن)، وهند هي جدة يزيد ( الذي قتل الإمام الحسين، واستباح المدينة المنورة، وضرب الكعبة بالمنجنيق). وهؤلاء من أولئك، يتبعون الأثر ذاته، والجرائم ذاتها، والضغينة ذاتها، يحاربون أهل البيت، ويحاربون من يحبهم، ومن يرفع راياتهم، ومن يلبس السواد حزناً عليهم، ومن يوزع الطعام على حب ألله وحبهم، ومن يشارك في مواكب العزاء التي تلهج بسيرتهم، ومن يفعل ذلك، كله أو بعضه – كما تقول داعش- فسوف يرى الرد بأعينه، في بيته، وفي سيارته، وفي الطرقات، وفي أماكن العمل، في الزمن وفي المكان المناسبين، ومن أراد حفظ دمه، وماله، وعرضه فعليه اجتناب المظاهر الشركية. حرب (داعش) والغبراء تلك، هو المشروع التكفيري الجديد الذي ولد في بيئة ناصبية، ومهد له سياسيون عراقيون وشيوخ عشائر ورجال دين غاضبون من أداء الحكومة العراقية التي قصرت في خدمة المحافظات جميعها، ووزعت الفقر والظلم بعدالة على أبناء المحافظات جميعهم، فوجهوا طعنات خناجرهم إلى خاصرة طائفة عانت الفقر والظلم طيلة قرون وما تزال تعانيه حتى هذه اللحظة. قبل عدة سنوات، كنا نحلم بدولة مباركة نعيش فيها جميعاً أخوة أحراراً، لا يستعبدنا حاكم، ولا يتسلط علينا ظالم، كنا نثرثر بالسلام والحرية والديمقراطية، كنا ننشد للحوار وحسن الجوار، فهبت على وطننا رياح الفضائيات المسعورة، وكشرت بوجوهنا أنياب الموتورين من الحرس القديم والحرس الخاص والأمن العام، فقضموا لحومنا وفجروا مدارسنا وأسواقنا وأسالوا الدماء كالأنهار في شوارعنا، ثم هجرونا في الأرجاء. كنا نداوي جراح الحروب الموسمية التي لم يكن قرارها بأيدينا قط، بل كانت قرارات الحروب جميعها بأيديهم هم ( كحرب الشمال ضد الأكراد، وحرب الشرق ضد إيران، وحرب الجنوب ضد الكويت وحماتها الثلاثة والثلاثين)، ولم تنتهي حرب 2003، حتى اندلعت حروب أخرى أشعلها أخوة لنا من أهلنا وأبناء عمومتنا، نكاية بنا، وليس كرهاً بالأمريكان. كانوا يسموننا شيعة، أو جعفرية، أو اثني عشرية، وكلها أسماء لطيفة وتعبر عن الطائفة باحترام، حتى جاء من يسمينا ب(المرتدين)، و(الروافض)، و(الأنجاس)، و(كلاب المجوس)، و(أحفاد ابن سبأ اليهودي)، (يعني نعبد النار تارة، ونعبد رب موسى تارة أخرى). اتهمونا بالعمالة للمغول والتتار وإسقاط الخلافة العباسية. اتهمونا بالعمالة لإسرائيل مرة، ولإيران مرة، وهما على طرفي نقيض. اتهمونا بالعمالة للمحتلين الأمريكان وقد امتلأت مقابر النجف بالأجساد الغضة من المقاومين الشرفاء. كانوا أول من تطاول على الرسول حينما قالوا له ((اعدل))، فقال فيهم مقالته التي وصفهم فيها بالمارقين. وكانوا أول من ناصب علياً العداء، فحاربوه هو الآخر بسيوف أهل البصرة، ثم بسيوف الخوارج، وأخيراً بسيوف أهل الشام. ولم يهنأ علي يوماً بخلافته، ولم يمض يوم من أيامها القصيرة دون اعتداء أو عدوان، فلقد حشد معاوية ضد علي كل ما يستطيع من أسلحة واعتداءات وخيانات واغتيالات وشراء ذمم وشتائم وأحاديث ملفقة وروايات عن الرسول مدفوعة الثمن، حتى راحوا يطلقون على أيام علي ب(الفتنة الكبرى)، بينما كانوا يطلقون على أيام من سبقه من الخلفاء ب(زمن الفتوحات)، وعلى أيام من لحقه بالعصور الذهبية، حتى قتل الإمام علي في محراب صلاته صائماً وهو يعلن فوزه بالجنة، ويلعن هذه الأمة الغادرة التي قال فيها: (( إني والله مللتكم ومللتموني))، وهذا الأمر يعود لعدم تحملهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام لأنه حق، وعدم تحمل علي لهم، لأنه بواد وهم بواد آخر. ثم طعنوا الحسن وتكالبوا عليه حتى مقتله مسموماً، ثم أسرجوا، وألجموا، وتهيأوا، وتنقبوا، وخرجوا لقتال الحسين وأنصار الحسين، فقتلوا الحسين بسيوف العطش، وسبوا نساءه وحرمه، وحملوا رأسه على الرماح، وضربوا شفاهه بأعواد الخيزران. صحيح أن ذلك قد حدث قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لكننا مازلنا حتى اليوم ندفع ثمن محبتنا للمقتول وكرهنا للقاتل. صحيح أن الحسين سيد الشهداء، وابن فاطمة الزهراء، إلا أن البكاء عليه أصبح شركاً، وصحيح أن يزيد ابن الطلقاء، إلا أن لعنه أصبح خروجاً عن الدين. لقد أوصل الخوارج قديمهم وحديثهم الرسالة واضحة: أنهم لا يريدوننا أن نبكي على علي بن أبي طالب، وأن لا نبكي على الحسين، وأن لا نبكي على أولاد الحسين، وأن لا نبكي على أصحاب الحسين، لأنهم ببساطة أبناء أولئك القتلة الذين تملأ أسماؤهم كتب التاريخ الإسلامي الأسود. ولكن هؤلاء ليسوا سنة العراق وليس صحيحاً أن نسميهم بهذا الاسم، ومن يريد معرفة رأي أهل السنة بخوارج العصر فليستمع إلى صرخات الأم السنية الثكلى التي فقدت أبناءها الصغار بسبب تفجير الداعش لمنازلهم ((ألله لا ينطي داعش)). إن دماء هذين الطفلين دماء عراقية زكية، ودماء أطفال الشيعة عراقية زكية، ودماء أطفال المسيحيين والشبك والصابئة والآيزيديين عراقية زكية.