الرحلة إلى الله..!
لا تبعد الأعظمية السنية عن الكاظمية الشيعية سوى أمتار مائية, وهما مركزين دينين يمثلان نموذجاً حياً للتجاور..للشيعة مناسبات كثيرة يتم أحياؤها في مدينتهم المقدسة (الكاظمية) وليس لهم إن يصلوا إلا عبر الأعظمية (مركز السنة في بغداد)..أي كلمة تلعن التأريخ تعد أستفزازاً للسنة –كما حصل في 6/10 حسب القيادات السنية- والمفارقة المفزعة؛ إن اللاعن والزائر يمارسان طقساً يتقربان به إلى الله, فإن مات فهو شهيد يذهب إلى الجنة, والقاتل الذي فخخ جسده يعد مدافعاً عن الصحابة ومحارباً لطقوس يعتقدها (خارجة عن الإسلام), فهو يموت شهيداً ويذهب إلى الجنة!..بهذه البساطة تُلغى الحياة عند المسلمين.
إن الأغلبية العراقية محبة للحياة, غير أنها صامتة؛ غير مؤثرة؛ منتظرة حتفها في زحمة الصراع الطائفي, لا تساهم في حركة التأريخ وقد أتخذت التخاذل حياة لها على أمل أستمرارها بالحياة, لكنها الضحية الأولى! ولو تكلمت لصار الفكر الوافد منبوذاً, صمت الأكثرية, شجع تضخم الأقلية الضاجة والتي تعكس صورة بعيدة عن حقيقة الإرادة المحبة للحياة, وهي إرادة الفناء والدمار. تُدرك قصر الحياة فتمنت أن تعيش دون سفك دماء, لكن الأمنية وحدها لا تكفي..سادت أفكار الإنحراف وهي تسوق البشر إلى مهالك ومحارق الموت مصوّرة إنها تعمل بوحي من الله وما رحلوا إلا لله..!
العراق في الهاوية..!
كثيراً ما يقال إننا نتجه لحافة الهاوية, أو إن الخطر محدق بنا..هذه الكلمات كاذبة. مطالعة سطحية لوسائل الإعلام نصاب بعدها بعجز فكري..مئات الجثث في كل يوم, والمنجز الأمني القادم, لا يختلف إلا في نقصان عدد الضحايا رقماً أو رقمين..!
عبد الزهرة حرمت عليه مناطق عثمان والأخير يستحيل إن يتقبل فكرة زيارة بيت في كربلاء. مناطق بإكملها تستباح لإسباب مذهبية, والمعنيون لا رأي لهم سوى “أنها محاولات يائسة أو بائسة”..! نحن في قعر الهاوية ونعيش زمن الكوارث, وجودنا في صميم الكارثة يجعلنا غير ملتفتين لها؛ ولو تفرجنا على منظر الدماء بعين مجردة فاحصة, لوجدنا إننا شعب ينقرض بسبب وحدة واهية..!
الدساتير لا تصنع الشعوب..!
الأوطان لها تعريف مقتضب وشامل: “أرض تعيش عليها مجموعة من الناس, ترتبط بمصالح وأهداف مشتركة”..معيار واقعي بعين عصرية واعية ومتطلعة للحياة, وعلى هذا الوطن تقوم دولة لها مؤسسات نابعة من عقد أو مرجعية حاكمة “الدستور”. لن تنجح دولة إذا لم تقم على هذا الأساس الصلب.
عند عرض العراق على المعيار التعريفي للوطن والوطنية ستكون النتيجة مباينة لأصل المعيار, فلا مصالح تشترك بها المكونات ولا أهداف, سيما في المرحلة الحالية التي تعد مرحلة صراعات نشطة, وكمثال نأخذ النظرة العراقية للأمور التالية:
1- العراق وإيران: النظرة الشيعية ترى في إيران دولة صديقة أو شقيقة ومرحب بها في العراق, السنة يرون إن إيران ما هي إلا شر عظيم يجب قطع جميع الأواصر معه..!
2- العراق والسعودية: السنة يجدونها مرجعية عروبية ودينية, والشيعة يعتبرونها مركز التكفير العالمي والتحريض على قتلهم..!
3- العراق وسوريا: الشيعة يقاتلون إلى جانب النظام السوري ضد المعارضة المسلحة, والسنة يقاتلون إلى جانب المعارضة المسلحة ضد النظام؛ أي بالمحصلة شيعة العراق وسنته يتقاتلون في سوريا فيما بينهم..!
4- الحراك المسلح في المناطق السنية, الذي حدث مؤخراً؛ فالشيعة يعدوه إرهاباً صريحاً, بحكم ممارساته من ذبح وتفجرات تطال الأبرياء؛ بينما يعدّه السنة ثورة شرعية تقودها عشائر منتفضة لنيل حقوقها!..
إذن: فالعراق أصبح -في المرحلة الراهنة- مجموعة غير متجانسة, لا تكوّن شعب بالمعنى الواقعي للمصطلح, يعيش على أراضٍ تبدو مشتركة؛ وفي حقيقتها معزولة, فالسنة لهم مناطق تمثل نفوذهم والشيعة كذلك, مع الأخذ بالأعتبار بعض المناطق المشتركة والمتداخلة وهذه تتعرض لصراع نفوذ وتطهير مذهبي.
الأصل في الدستور هو تنظيم الحياة فيما يضمن سعادة الناس وتحقيق مصالحهم, وهو العقد الذي ينظّم العلاقات الإجتماعية بين المجتمع نفسه وبينه وبين السلطة من جهة أخرى..غاية سامية ترتفع بالإنسان من مراتب الحياة البدائية القائمة على الغزو والسلب والنهب إلى الحياة الهانئة المتفانية في خدمة الفرد والمجتمع. عند غياب الهدف وفشل الوسيلة في الوصول إلى الغاية, تسقط دواعي وموجبات التمسك بتلك الوسيلة. قد لا يكون الدستور هو سبب الأدران المصاب بها الجسد العراقي؛ لكنه تحوّل إلى قميص عثمان.. جديرٌ ذكره إن أغلب بنوده لم ترى النور لغاية اللحظة, لا سيما تلك المتعلقة بشكل الدولة العراقية الجديدة ومرتكزها الفيدرالي. ولعل التجاذب السياسي حال دون تطبيق ذلك البند المهم, بيد إن صياغة مرجعية جديدة وبخارطة تتناغم مع أرهاصات ومعطيات الواقع اليومي الدموي.
إن القوى السياسية والمرجعيات الدينية والفعاليات الثقافية والإجتماعية في العراق؛ لا يخفى عليها حجم الكوارث وما يمكن أن تصله الأمور, لذا فالجميع مدعو لوقفة جادة ومجردة من الإتفاقيات المصلحية والحزبية للنهوض بالواقع عبر تأسيس واقع جديد, تُستقى آلياته من الدستور.