18 ديسمبر، 2024 12:00 م

دمار الموصل: نكبة صنعها العراقيون بأنفسهم

دمار الموصل: نكبة صنعها العراقيون بأنفسهم

الفكر العلماني المعاصر يعتبر السبيل الوحيد لإنقاذ العراق من خطر الطائفية والإرهاب وهجرة مكوناته.

السلاح وحده لن يعيد إلى الموصل حياتها

أختي من البصرة أرسلت لي صورا للنازحين من معركة الموصل تريد مني أن أقول شيئا. ماذا أقول؟ دعيني أسألكِ سؤالا هل هذه النكبة بأهلنا في الموصل بسبب احتلال خارجي؟ هل هناك غرباء هجموا على بلادنا؟ هذا الخراب هو نحن.

لا يوجد جيش أجنبي قام بغزونا. انظري جيدا مَن هو العدو؟ إنه أنت وأنا وابن عمي وابنة عمتك. هل ترين بوذيين أو يهودا أو نصارى؟ إنهم المسلمون العراقيون أنفسهم.

حدث شد وجذب ومظالم واستفزاز بين طائفتين لسنوات، ما أدى إلى فقدان الطائفة الأضعف لعقلها. داعش حالة جنون وفخ وقعنا فيه. خرجت علينا هذه الخفافيش من ظلامها لتعدنا بروما والعودة إلى عهد هارون الرشيد، مجرد حمى وطاعون أصابنا.

هل تعرفين أنني لأول مرة أكتشف أن الشعوب مثل الإنسان العادي يمكن لها أن تفقد عقلها. ثم إنني أدعوك لفتح كتاب في علم الفلك قبل ألف سنة. أنظري كيف أن الأرض مسطحة وهي مركز الكون.

إذا كانت هذه العلوم كلها بدائية في ذلك الزمان فكيف هو القانون والفكر والسياسة والحقوق؟ تخيلي هؤلاء الدواعش يعتقدون أن قمة النور والعقل هي الزمن الذي كنّا نعتقد فيه بمركزية الأرض، ولا علم لنا بوجود قارة أميركا وأستراليا، ولا علاج عندنا للأمراض التي فتكت بالأطفال.

الدواعش يعتقدون أن ذلك الزمن هو زمن العقل وينقلون لنا كلمات الأسلاف. يعتقدون أن لها معنى. وهذه المدينة الجميلة التي تنام على ضفتي دجلة هي قبل المسيحية كانت مدينة آشور. الموصل لها معنى أكبر مما يروجون له باسم الدين والعقائد فهي الوجود والحياة والتاريخ.

أختي الحبيبة إن نسختهم من الدين أصبحت خطرا على عقل الإنسان العراقي، هي الجيش الغازي الذي دمر المدينة. لا أرى غرباء ولا أعداء فتكوا بالمدينة وأطفالها سواه.

كل طفل يموت في غرب الموصل هو مشروع طبيب ومهندس وفنان. أطفال الموصل اليوم مشردون بسبب مجموعة من المخبولين الذين يعيشون في غيبوبة دينية

أرى نفسي وأراكِ وأرى شعبي وقد أصابه الجنون والهلوسة حتى صار يتهم الجيران ويشك في العالم كله لأنه يرفض الاعتراف بالمرض العقلي لمثل هؤلاء المتأسلمين. إنه طاعون القرن الحادي والعشرين، مأساة نعم مأساة. سامحيني لأنني لا أرى سوى العراقيين أعداء لأنفسهم، منتقمين من أطفالهم. هذا الاستفزاز الطائفي أصبح لا يُطاق ويهدد بانقراضنا.

هل تعرفين أن من أكثر المشاهد حزنا في حياتي والتي أبكتني شيء قرأته منذ زمن بعيد، وشيء رأيته في الفلوجة. قرأت في تاريخ الجنون لميشيل فوكو أن المجانين في القرون الوسطى كانت تجمعهم الكنيسة في معسكرات عزل لأن الجنون لم يكن له تفسير علمي. كانوا يعتقدون بأنهم مصابون بمس شيطاني وتسكنهم الأشباح، فكانت أوروبا تضعهم بالنهاية في سفن نحو مياه البحار البعيدة ثم تتركهم فيها.

المجانين لا يحسنون الملاحة ولا قراءة النجوم لمعرفة الاتجاهات، وهكذا تأخذهم الأمواج والرياح في اليباب. تخيلي هذا الضياع الإنساني المطلق؛ سفينة مجانين في البحر. والمشهد الآخر هو فتيات الفلوجة الصغيرات بعد تحرير المدينة من الدواعش. ومعظمهن قد فقدن أبا أو أخا بسبب طاعون داعش. مع هذا في المخيمات بنَيْن خيمة كبيرة وجلسن في الصحراء يتحدثن في الدين. ماذا يفعلن؟ لا توجد نواد للسباحة وكرة الطائرة. ولا مدارس لتعليم البيانو والغيتار. لا توجد مسابقات للرسم والأزياء. هذا كل ما هو متوفر ومسموح به.

سبيل الإنقاذ

ترديد النصوص بلا وعي في الصحراء، ورطة تشبه ورطة المجانين في سفينة تائهة بالمياه البعيدة في القرون الوسطى. ومثلما حرر علم النفس المجانين من الإضطهاد فإن الفكر العلماني هو الإنقاذ الوحيد لبنات الفلوجة الصغيرات.

هل تذكرين حين ظهر أيمن الظواهري يدافع عن القاعدة ضد داعش، فالدولة الإسلامية كانت قد اتهمتهم بالتعاون مع الشيعة. والظواهري خرج ليقول هذا غير صحيح وإنهم يحاربون الروافض.

كيف نعيش بسلام وهناك أفكار دينية من هذا النوع؟ يحاربون البدع وهذا سبب عدائهم للشيعة. كأن دينهم صممه آينشتاين. والشيعة إسلامهم فيه أخطاء بالرياضيات. أكبر خطأ أن يدخل المثقف بتفاصيل هؤلاء ودجلهم ويجب طرد الإخوان المسلمين خصوصا من الثقافة. لا يوجد شيء قرب بين البشر وزرع المحبة مثل الفكر العلماني المعاصر. الدين الذي يروجون له معناه طوائف، والطوائف معناها كراهية.
من يكفكف آلام العراقيين

خمسين عاما في سوريا يلقنون في المساجد وبالكتب الصفراء أن الغرب كافر ومتفسخ أخلاقيا ويجب التمسك بالدِّين الإسلامي وبعد أن رفعوا السلاح في وجه الأسد صاروا يتوسلون إلى السفارات الغربية، يريدون اللجوء إلى بلاد “التفسخ الأخلاقي”.

هل سمعت الخليفة البغدادي حين قال إن للدواعش “أقداما ثقيلة”، كل طفل يموت في غرب الموصل هو مشروع طبيب ومهندس وفنان. طردوا المسيحيين من مدينتهم التاريخية؛ أحفاد آشور الذين أوقدوا الشموع في المعابد الوثنية والكنائس قبل الإسلام بالآلاف من السنين. أطفال الموصل اليوم مشردون بسبب مجموعة من المخبولين الذين يعيشون غيبوبة دينية.

لا يسمحون للمثقف بأن يشرح لهم لأنهم يعتقدون أن الدليل والحق يأتيان من النصوص الدينية، الأمر نفسه ينطبق على الإخوان المسلمين لكن عندهم نفاق في تأويل النصوص حسب الظروف السياسية. الدواعش طريقتهم قول الكلمة ثم الفعل.

قال الفيلسوف نيتشه (توفي في بداية القرن العشرين) إنه لم يعد ممكنا للإنسان والكنيسة أن يوجدا معا كما في العصور القديمة. فإما أن يوجد الإنسان وإما أن توجد الكنيسة. لأنه إذا كان الإنسان موجودا فعليه أن يستخدم عقله. وإذا كان غير موجود فعليه العودة إلى النصوص المقدسة ويلغي عقله.

وبما أن الإنسان سيوجد بمفرده ويحقق مقولة ديكارت الرهيبة “أنا أفكر إذن أنا موجود”والتي معناها أن الإنسان سيشعر بوجوده من خلال التفكير فإنه سينجب في المستقبل إنسانا أعلى منه. سيتحقق حلم الإنسان بالعلوم ويتحول إلى “سوبرمان”.

وهذا ما لمسناه في الغرب اليوم يا أختي العزيزة صدقيني. فنحن لا نتحدث عن اختلاف في الرأي بل عن إنسان جديد تماما صقلته الحداثة والتربية العلمية. بيننا وبين الغرب قطيعة؛ لا نفهمه ولا يفهمنا. قد يكون مصيرنا الانقراض إذا لا نلحق بعربة الحضارة؛ أقصد ماكنة التحول إلى إنسان عاقل جديد، وهذه مهمة الدولة وليس الأفراد. صدقيني لو الحياة على ما يُرام في العراق لقلنا لا داعي لاستفزاز عقائد الناس لكن الشعب قد هلك بسبب الفهم الغيبي والمقدسات. لقد قاموا باسم الإسلام بسبي الأيزيديات وهن مواطنات عراقيات، باعوهن واشتروهن. باعوهن للغرباء.

هل كان الإنسان سعيدا حقا في صدر الإسلام؟ كانت الأوبئة تفتك بالبشر والمرأة تباع وتشترى، أصلا سبب اختيار الإنكليز للسود كعبيد دون غيرهم في القرن السابع عشر والمتجارة بهم في القارة الجديدة أميركا هو لأن شركات الرقيق الإسلامية كانت موجودة في أفريقيا منذ قرون، ولم يكن الإنكليز راغبين في فتح سوق جديدة.

لقد ورثوا تلك التجارة عن المسلمين. كانت العصور القديمة تتقبل فكرة الجواري والعبيد وملك اليمين والمخصيين. لم تكن الأخلاق قد تطورت بعد وكان الإنسان يتقبل هذا النوع من الظلم، لم تكن هناك حقوق إنسان وأمم متحدة.

أنا لا أتفهم حتى حنين الشيعة إلى زمن علي بن أبي طالب. كان متوسط عمر الإنسان في عصره 25 سنة. ومن كل عشرة أطفال يموت خمسة بالأمراض. وقضى فترة حكمه حروبا أهلية ودماء. في معركة الجمل وحدها سقط ثلاثون ألف قتيل من البسطاء المساكين. وأنت تبكين على الموصل التي لم يسقط فيها خمسة آلاف إنسان بعد.

ما ذنبي أنا في القرن الحادي والعشرين لأفكر بمشاكل قريش وخلافات ابن عم النبي مع زوجته أو صحابته؟ هل أنا وحدي لا أجد أي معنى في هذه الحكايات؟ أخبريني ما معنى المراسلات بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والتشاتم بينهما؟ ليس لها أي معنى ولا أجد متعة في قراءتها.
أطفال الموصل اليوم مشردون

خراب ودموع

الجانب الأيمن من الموصل هو المدينة القديمة. أحياء مكتظة بالسكان والكارثة الإنسانية حتمية.

لا يمكن تحرير المدينة دون خراب ودموع. ماذا نفعل؟ يقدر عدد المدنيين هناك بـ 750 ألف إنسان والجنرال المتقاعد بترايوس يقول ستكون حرب شوارع صعبة لأن المدينة القديمة فيها طرق ضيقة لا تدخلها السيارات والدواعش قضّوا عامين ونصف العام في بناء الأنفاق والخنادق فيها.

ونشرت صحيفة الغارديان تقريرا لمارتن شلوف بعنوان “المدنيون يفرون مع تقدم القوات العراقية إلى أكثر المناطق دموية في غربي الموصل”. ونقل التقرير عن قائد عسكري عراقي قوله إن “هذه المواجهات تعتبر من أصعب المعارك، وسيكون من الصعب الفوز من دون التسبب في أضرار بالغة وسقوط العديد من الضحايا”.

الموصل جزء مهم من العراق. هي المدينة العراقية الوحيدة التي معظم أغانيها حول الطعام؛ أغنية عن الكبة، وأغنية عن الدولمة، وأغنية تتغزل بالفواكه. شعب مرح وجميل.

يتفنن الموصليون بالطعام ويهتمون بالحياة الجنسية ونساؤهم ينجبن. حتى في عهد داعش البغيض ترى المرأة أنجبت طفلين. الموصليون طيبون ويعرفون جوهر المتعة والعيش فجاءهم البغدادي بحكاية الحور العين والموت.

عشر عائلات من أقاربي كانت تعيش في الجانب الأيسر من المدينة، كل أفرادها خرجوا سالمين. عائلات كثيرة من سنة البصرة عندما رأت الموصل وجوها الربيعي بقت فيها واشترت بيوتا. حتى أفرادها تزاوجوا.

غير صحيح أن أهل الموصل لا يصاهرون. الخوف الآن على الناس في المدينة القديمة وينبغي إعلان التعامل مع المدينة المنكوبة على صعيد عالمي وعربي لمساعدة النازحين.

هناك أصدقاء يرسلون لي وثائق عن مواكب المساعدات الحسينية لأهل الموصل، مواقف مشرفة من الشعب العراقي. لكن هذا لا يفيد، أدخلتم الدين في السياسة أم لا؟ جلبتم رجال دين من الشيعة وأحزابا شيعية لحكم العراق. لا تلومونا على داعش وغير داعش.

سنوات وأنا أفكر، كيف يمكن اعتبار الإسلام الشيعي السياسي ديمقراطية؟ ما علاقة الديمقراطية بالإسلام السياسي؟ الدين في السياسة معناه أن تقبلوا بداعش وغير داعش.

إذا حكمتني بإسلامك الشيعي فهذا معناه أمامي ثلاثة خيارات هي التشيع أو الإرهاب أو الهجرة.

نقلا عن العرب