22 ديسمبر، 2024 8:47 م

ان الدماء التي سالت لتروي اقدس بقعة في ارض العراق، والأشلاء التي تناثرت من اجل ان تحتضن محبيها، ماهي الا قبول دعوته كريمة, وكرامة من عند الله، وأمنية أراد الله ان يحققها له.

ان ذلك الجسد الطاهر, والروح النقية، التي ابت الذل والخنوع امام شرذمة السلطة الفاشية، كانت عزيمةً في نفوس الأحرار، ودافعاً لنيل المرتبة الأسمى (الشهادة)، للذين رفضوا الذل والهوان في سبيل الحرية.

هناك من تبادرت لذهنه صورته، وفيكم من غابت عنه أوصافه، اما لصغر سنه في حياة الفقيد، او حينما شب وجد أباه مطبقاً على لسانه، خشيةً من بطش السلطة وجبروتها آنذاك, او من شوهُت امامه الصورة الحقيقية لشهيدنا، ما بين اعلام البعث الفاشي, وما بين افتراء الحاقدين والخائفين من وجوده.

انه نجل المرجعية وسليلها وحامل رايتها, انه ابن العراق, الذي ولِدَ على ارضه, وشرِبَ من عذب مائهِ, واكل من رغيف البساطةِ والتواضع, وعاش وترعرع في احضان امير المؤمنين “عليه السلام”, وتربى في ازقة الحوزة العلمية, شب وشاب من اجل الحرية, وتعايش آلام هذا الشعب المظلوم, استشعر الفقراء والمحرومين بين ثنيا روحه الطاهرة.

لم يميز بين أحدٍ وآخر, بين طيف وطيف, بين قومية واُخرى, بين الشمال والجنوب، انه السيد (محمد باقر الحكيم) يعرفه كل من عاش بجواره، وكل من ذاق مرارة الغربة معه, يعرفونه رفقاء دربه جيداً كما يعرفون أنفسهم.

دفع ثمناً باهضاً، لم يدفعه أحداً من العراقيين جميعاً، ضحى بإخوته وابنائهم وذراريهم، أهله وعشيرته، فأضحت السجون مساكنهم، والمشانق مستقر رقابهم، كانت سنين الغربة حصيلته، عاش آلامها وأوجاعها، كانت قوافل الشهداء من ال الحكيم تسير نحو جنات الخلد في اليوم والليلة، حتى أضحت ديارهم خالية من اَهلها.

كل ذلك كان من اجل حرية شعبه وسعادته، وعزة الوطن ورفعته، لكن شهادته فاجأت محبيه ونزلت عليهم كالصاعقة، تحولت الى عتمة دامسة، ألمت بالعراقيين عموماً وبمن يعرفونه خصوصاً.

اول ما وطأت أقدامه ارض العراق، طالب بالاستقلال وحرية الاختيار، ودستور يكتبه العراقيين بأيديهم، بعيداً عن تدخلات الاحتلال وإملاءاتهم، كي لا يعيشوا ظلمه، لكنهم نجحوا بتفتيت النسيج العراقي، وجعلوهم يعانون من تعدد الولاءات، واختلاف التوجهات وبالتناحر والتشتت السياسي.

المحتل الذي يدعي الحضارة والمدنية بقناع المستعمر، أراد تقسيم العراق بين مسلم ومسيحي وايزيدي وصابئي, بين عربي وكردي, بين شيعي وسني، حتى وصل به الحال الى تقسيم الطائفة الواحدة، لأنه يعلم جيداً ان اضعاف البلدان بتقسيمها.

لكنه لن ينتصر بوجود الشرفاء حتى وان غيبوا، حتى وان شُوِهت صورهم الحقيقية، ولا يمكنه ان ينال ذلك، بسواعد الأحرار, ودماء الأبطال اللذين اختلطت دمائهم مع دماء اخوتهم من القوميات والطوائف الاخرى، وامتزجت بتراب العراق الحبيب، في خنادق العز والشرف.

كل الأيتام شهود على ذلك, وسيحدثنَّ الأرامل أبنائهنَّ عن بطولات آبائهم، وعن الملاحم التي سطروها مع قادتهم ابطال الانتصارات، وسيسعدون ويبتهجون فرحاً، بما قدموه آبائهم واخوتهم من تضحيات لأجل حرية هذا الوطن.

مهما طالت العتمة، وشوهت الحقائق, واستبدل الحق بالباطل، لابد لشمس الصباح ان تشرق، بضوئها الساطع لتكشف ظلمة الليل الدامس، وتبين حقيقة شهيد المِحْراب الخالد، وتضحياته الجسام، تلك التضحيات التي لم يقدمها غيره إطلاقاً، كان نصيبه كبيراً منها، فذاق مرارة السجن, واستشعر خشونة حبل المشنقة، وانطفئت حرارة قلبه بحرارة الرصاصات, وأبى المهجر الا ان يذيقه طعم الغربة وآلامها، وهمومها وأحزانها، حتى ختم مسيرته الجهادية بالشهادة التي قل نظيرها، فكان اول قربان على مذبح الحرية بعد سقوط نظام البعث الفاشي، فتناثرت دمائه كما تناثرت اشلاء جسده بين السماء والأرض في اليوم الاول من شهر رجب، ظهيرة الجمعة عند صحن جده المظلوم (علي ابن ابي طالب عليه السلام) لتكن مسك الختام لحياته.