18 ديسمبر، 2024 7:57 م

دلالات العنف في قصة (معرض الجثث) للقاص حسن بلاسم

دلالات العنف في قصة (معرض الجثث) للقاص حسن بلاسم

نزداد اغترابا كلما توغلنا في عمق تجاربنا الوحشية هكذا يصعقنا القاص حسن بلاسم وهو يحاول تعرية وجودنا الإنساني المزيف بالادعاءات  السياسية والدينية والثقافية ادعاءات مفادها :إن السعي لتحقيق العدالة الإنسانية يتطلب منا أن نلتزم بالتعاليم الدينية والقوانين السياسية ،والتمدن والتحضر وإتقان شروط اللعبة  حتى لو كان على حساب ضحايانا . يعيدنا بلاسم عبر قصصه إلى السؤال الفلسفي القديم الجديد  (اعرف نفسك ) ،بدون  أن تعي حقيقة وجودك لا يحق لك أن تمارس دورك بالحياة هكذا يصور لنا بطل قصة معرض الجثث (أن العالم مشيد من أكثر من طابق ، وليس من المنطق أن يصل الجميع إلى كل الطوابق ) ،يضعنا الكاتب أمام  ذواتنا حائرين ومذعورين مما تنتجه عقولنا من اشتراطات وجودية  تزيدنا توحش و ترهيب، وقتل تجاه النحن البشري  المسكون بالدم والوحشية التي تفنن الإنسان بابتكارها مستعينا  بالديني  ، و السياسي   ،والجمالي الفني  .
تشكل مجموعة القاص حسن بلاسم ( معرض الجثث) تجربة فريدة من نوعها وذلك الاختلاف وغرابة موضوعاتها وطريقة بنائها حيث يعتمد القاص رؤية نقدية ناقمة على وجودنا الإنساني الهش  المثقل، بالموت ،والقتل ،والوحشية ولكي ندين هذا الوجود علينا كشف وتعرية هذا الوجود من داخل بنيته الفكرية والفنية والأخلاقية التي تحكمه، من الداخل والخارج، ولا يتم ذلك إلا  بالحفر عميقا في اللاوعي البشري الذي وفق فرويد يختزل كل مكبوتاتنا العدوانية والسادية ، كما يعتمد  الكاتب في  بناء قصصه  على ثيمة مركزية تعتمد على  الصدمة و التداعي الحر للشخصية حيث يرسم جميع شخصياته  وفق نفس الإلية التي تبدأ بالصدمة من هول الواقع المعاش والوحشية وتنتهي بالتداعي والانغماس في شروط لعبة الواقع وهي ممارسة القتل و التماهي معه  كغريزة أساسية للبقاء قويا  .
في قصة معرض الجثث التي اختارها كعنوان رئيس لمجموعته القصصية يضعنا الكاتب أمام لحظة حرجة يفتتح  فيها القص من لحظة ترقب وصدمة ( قال لي قبل أن يخرج السكين ) وذلك للإيحاء بفعل القتل الذي يدفع القارئ للترقب لما هو آت .لتبدأ بعدها الشخصية باستيعاب الصدمة  والترقب الحذر لما هو قادم  للوصول إلى لحظة التداعي، والانهيار، والاستسلام ثم التماهي والانسجام مع فعل القتل  بدم بارد ، يحاول القاص عبر السرد تكسير الحدود مابين الواقع والمتخيل من خلال اللغة وذلك بجعل لغة السرد أكثر تمثل وتداخل مع هو حقيقي( هنا ،ألان ) مما جعل من قصص بلاسم تعتمد نفس ايقاع وحركة الواقع الذي بدوره ينفتح على عدة احتمالات صادمة لنا (تذكر يا عزيزي أننا لسنا إرهابيين هدفهم إيقاع أكبر عدد من الضحايا لتخويف الآخرين ولا حتى سفاحين مجانين ،نعمل من اجل المال ،لا علقة لنا بالجماعات الإسلامية المتطرفة ولا بمخابرات دولة مشبوهة ) فاقتراب لغة السرد لدرجة الاتساق والتماهي مع الواقع بكل تفاصيله المخيفة والبشعة الهدف منه جعل النص السردي أكثر مصداقية وتأثير وتعبير عن واقع مزري تذوقه كل العراقيين في الداخل والخارج ومنهم بلاسم  حتى لو كان هذا الواقع بشع جدا المهم هو تفجير المسكوت عنه من قتل وترهيب وعرض إشكالاته الفكرية والنفسية لذلك كانت لغة السرد أكثر مباشرة وواقعية اي لغة ناسخة خالية من  ألاعيب التقنية والتزويق والإكسسوارات الفنية  وهو ما يميز أساليب السرد الحديث اليوم، اختراق الواقع عبر رصد دقيق وسريع للإحداث، مع تكثيف لصورة الأحداث كي تكون أكثر تأثير وتعبير عن الواقع .
استثمر الكاتب مشاهد فنية ونفسية مفجعة  لاستفزاز المتلقي غريزيا وفكريا عن طريق مشاهد الموت المنهج والمهول لشخصيات قصصه مستعينا بتقنيات  كآمرته ثلاثية الإبعاد ، تنقل الحدث من زوايا مختلفة فهي تصور لحظة القتل بثلاث إبعاد  مختلفة الزوايا :عبر المخيلة قبل لحظة القتل ،و الصدمة المتحققه من  شراسة المشهد  إثناء القتل ، وما بعد  لحظة القتل التي يتحول معها جسد الضحية اما نصب فني وجمالي ذو دلالة نقدية واحتجاجية أو شكل لوحة فنية تعكس تراجيديا الوجود الانساني ، وهو ما يعكس  قدرة الكاتب على تفجير المعنى لجعله ينفتح على إبعاد دلالية مختلفة محفزة للنص وصادمة للمتلقي ،ففي مشهد يدور فيه حوار مابين الراوي والضحية التي يحاول القاتل استدراجه لممارسة فعل القتل عن طريق اختيار الزبون المناسب وكيفية الإبداع والتفنن في القتل مقابل مبالغ نقدية ومميزات إدارية  ، يروي لنا هذا المشهد المهول والمفجع لكن بطريقة جمالية وفنية تعكس دقة عدسة  كآمرته، يسردها بلسان  المنسق لإحداث القتل (في الواقع إنا أحب الإيجاز والبساطة والصورة الصادمة ، خذ مثلا العميل ((الأصم  )) إنه هادئ وله عين ذكية صافية ،وأكثر أعماله الفنية القريبة من قلبي هي تلك المرأة المرضعة . في صباح شتائي ممطر ،كان جمع من المارة وسواق السيارات ينظرون الى تلك المرأة العارية البدينة وهي ترضع من ثديها الأيسر طفلها العاري ،أيضا وضع المرأة أسفل نخلة ميتة في الجزرة الوسطية لشارع مزدحم. لم يكن هناك أي أثر لجرح أو رصاصة ، لا في جسد المرأة ،ولا في جسد الطفل ،كانت تبدو كأنها حية هي وطفلها تماما مثل جدول ماء صافي ) فلو تتبعنا بناء هذه المشهد نجد هناك  رصد ثلاثي الإبعاد دقيق وواضح حيث نجد ان الراوي قد وظف مشهد القتل لتحفيز مخيلة الشخصية المراد منها ممارسة فن القتل وجعله أكثر تسويغ ، وثانيا إحداث فعل  الصدمة للمتلقي  عبر مأزق  بشاعة القتل وقسوته وثالثا هو القدرة على تحويل مشهد الموت والقتل الى صورة فنية وجمالية ورمزية  تكشف حجم الضياع والجحيم الذي يعيشه الموطن اليوم فالمرأة بثدييها الكبيرين ترمز للأرض الخصبة والغنية وهي ارض العراق بما تمتلكه من ثروات ،والطفل الهزيل والعاري هو المواطن العراقي الذي رغم ثدي أمه الكبير لكنه  يعاني من الضعف والجوع والعري .
أن الإصرار على اعتماد ثيمة الموت الفني والجمالي رغم بشاعته لدى بلاسم هو إصرار نابع من بعد نفسي و فلسفي رمزي دلالي أكثر منه  واقعي حقيقي  أي ليس الغرض منه الترويج والتسويغ  لفكرة القتل والإقصاء  او الإدهاش أو إسقاط التهم على الآخرين الذي في الكثير منه صراخ سياسي فارغ من مضمونه الحقيقي  ، بل هو محاولة لكسر الصمت المطبق  عن واقع تحول بفعل الجشع البشري والاستغلال إلى واقع قامع للأخر الإنساني الشريك في الوجود واقع يدار بأيادي خفية وقذرة  تمتهن الموت بطريقة الغاب والتوحش فتحول فعل القتل إلى غريزة جامحة لا يمكن إيقافها إلا بكشف أساليب عملها القذرة  وآلية اشتغالها   المفرطة في عدائيتها وجوعها للقتل والدم ،نحن أمام إنسان ما قبل  الحضارة يحاول إستعادة بداوته  الأولى ،وعليه فأن إنسان ما قبل الحضارة  لا يمكن تعريته إلى عبر تعرية هذا الواقع  وكشف خباياه ومرجعياته الفكرية لذلك تعد نصوص بلاسم تحاول كشف دلالات العنف داخل اللاوعي الجمعي في الثقافة الاجتماعية كما يشكل النص  صرخة احتجاج ورفض لشكل  النموذج   الإنساني  المتوحش   .