يحكى ان هناك قرية يعيش فيها منذ القدم مجموعات بشرية ذات ثقافات متباينة . وتوجد هناك قرى اخرى قريبة وبعيدة منها وتعيش فيها ايضا اقوام متعددة ، وبمرو ر الزمن حاولت تلك القرى ان تضع بعض الأسس والقواعد المختلفة لإدارة شؤ ون قراهم لتحقيق المنافع والمكاسب لمجتمعاتها ولكي تتميز عن باقي القرى الاخرى . وتباينت إنجازات تلك القرى وما حققته من تغييرات نوعية في مجتمعاتها نتيجة لعدة عوامل متداخلة اضافة الى الامكانات المادية والبشرية المتاحة فيها، فتكونت مجتمعات متقدمة ومتطورة ومتحضرة الى جانب مجتمعات متأخرة ومتخلفة، وكان في مقدمة العوامل الاساسية التي ساعدت تلك المجتمعات في تحقيق التقدم والتطور هو ارساء المعالم والأركان الاساسية لنظام واضح لإدارة شؤون تلك المجتمعات بحيث اصبح المجتمع نفسه مسؤول عن اختيار نخبة متميزة من ضمن افراده يوليها صلاحية إدارة شؤونه ورسم مستقبله، عندها عرف هذا النظام بالنظام الديموقراطي وحددت له المفاهيم والمبادئ الاساسية وقواعد ومستلزمات التطبيق . وسارت العديد من المجتمعات وفق هذا النهج واستمرت في تحقيق الرفاه والعدالة الاجتماعية.
في ظل هذا المسار بقيت تلك القرية تتخبط في أساليب إدارة شؤون مجتمعها وآخرها التجأت الى تطبيق مايعرف بالنظام الديموقراطي واختار المجتمع نخبته لإدارة شؤونه على أمل ان يتحقق ماحققته المجتمعات الاخرى خصوصا وان هذه القرية فيها إمكانات مادية وغير مادية كثيرة. الا ان النتيجة كانت عكس ذلك حيث تدهور حال القرية الى اسوء حالة دون ان يعلم سكانها بأنهم لم يفهموا أساسا أسس ومفاهيم وقواعد هذا النظام ومستلزمات تطبيقه، حتى ان النخب التي اختارها المجتمع غير مدركة لمبادئ وأسس هذا النظام وفي نفس الوقت غير راغبة في تهيأة المستلزمات الضرورية للتطبيق الصحيح للنظام لعدم التفريط بمكتسباتها الذاتية.
وعلى هذا السياق اصبح الاستمرار بهذا النهج غير مجدي وتجذرت العديد من المظاهر السلبية التي تتعارض أساسا مع الممارسات الديموقراطية الصحيحة والتي يصعب او يستحيل معالجتها ضمن واقع هذه القرية.
وبسبب استحالة تغيير واقع هذه القرية وفق المعطيات الموجودة فيها ودورانها في دائرة مغلقة وكثرت شكاوى الناس في القرية اجتمع عدد من وجهاء ها لتدارس الوضع لإيجاد اي حل ممكن ، فلم يتوصلوا لأي حل ، فاقترح احدهم ان يذهبوا الى شخص يسكن في أطراف القرية معروف عنه بانه مختل عقليا وانطوائيا ولا يظهر نفسه لسكان القرية ، لأخذ رأيه بالموضوع . وفي اللقاء مع هذا المخبول شرحوا له واقع الحال وطلبوا نصيحته، نظر المخبول في وجوه وجهاء القوم وقال لهم ليس هناك حل لما هو موجود بالقرية الا حل واحد فقط ، وبخلافه سيبقى الحال كما هو ، اذا لم يكن أسوأ فلا يمكن ان يتحقق اي تغيير حقيقي وتبقى المسرحية كما هي بمضمونها حتى لو استبدل بعض ممثليها او حتى باستبدال بطل المسرحية. وهنا بادر الوجهاء بسؤال المخبول ،،ماهو الحل اذا ؟ فأجابهم تحتاجون الى دكتاتور ديموقراطي يتولى مسؤولية إدارة شؤون قريتكم ، فسألوه،، أين نجد دكتاتور ديموقراطي ؟ قال لا يوجد دكتاتور ديموقراطي أساسا ، ولكن يمكن ان نخلقه ،، سألوه كيف؟ رد بثقة وقال ،،أعطوني طفلا رضيعا أتولى أنا رعايته ونشأته وتربيته ، وسوف اعلمه مبادئ وقيم متناقضة ومتعارضة ،،،اعلمه كل الوسائل والخصائص التي تؤهله ليصبح دكتاتور ليحكم ويسيطر على كل مقدرات القرية ومفاصلها ويخضع الجميع لإرادته ويجعل الجميع ينفذون مايريد،،،وفي نفس الوقت سوف اعلمه كل التفاصيل الصحيحة المتعلقة بكيفية تطبيق النظام الديموقراطي ، المبادئ والاسس ومستلزمات التطبيق المتعارف عليها في الأنظمة الديموقراطية .
وعلى هذا الأساس سيتولى هذا الدكتاتور مقاليد الحكم في القرية ويخضع إرادة الناس فيها بالقوة لأهوائه ورغباته،،وعند تحقق ذلك يقوم بتوجيه مجتمع القرية تدريجيا لكيفية تطبيق أسس ومبادئ النظام الديموقراطي بالشكل الصحيح،،،،وكونه دكتاتور يستطيع بسهولة ترويض المجتمع واتخاذ قرارات فاعلة دون تردد ،، وهنا باستطاعته ان يبني جيش قوي ليحمي القرية ولا يسمح لتشكيلات موازية للجيش تحت اي مسميات،،، كذلك باعتباره دكتاتور فسوف يقضي على كل مظاهر السلاح خارج المنظومة العسكرية،،،ولكونه دكتاتور فسوف لن يسمح بتدخل الدين بالسياسة مطلقا لان الدين لله فقط خصوصا وان مجتمع القرية يتكون من أديان مختلفة،،ولأنه دكتاتور فسوف يتحكم بقرارات القرية كلها ولا يسمح لغيره سواء داخليا او خارجيا باتخاذ قرارات نيابة عنه،،،ومازال كونه دكتاتورا فبإمكانه دون تردد ان يحاسب الجميع من المتهمين بالفساد الاداري والمالي دون تمييز ودون تردد او تأجيل ،،ولأنه دكتاتور فيستطيع تحجيم النظام العشائري باتجاه زواله بهدف جعل مجتمع القرية مجتمعا متحضرا يخضع لنظم وقوانين القرية فقط ،،، وبصفته دكتاتور فباستطاعته ممارسة عقائده الدينية بحرية ايام الجمعة والسبت والأحد ، ويتمتع بالسهرات الليلية وتناول المشروبات الكحولية بقية ايام الأسبوع.
وفي نفس الوقت، ومن الجانب الاخر ، كونه مدرك بشكل حقيقي لمتطلبات تطبيق النظام الديموقراطي وفق السياقات الصحيحة، فسوف يأمر مباشرة بتعزيز المناهج الدراسية بمواضيع التثقيف للنظام الديموقراطي بالشكل الصحيح بهدف خلق اجيال واعية ومتفهمة للعملية الديموقراطية، وتوجيه كافة وسائل الاعلام لتكثيف جهودها للتثقيف لعموم الناس ، ولكونه ديمقراطي فسوف يدعم مؤسسات المجتمع المدني لتعمل بحرية وكفاءة،،،ولأنه ديموقراطي فسوف يدعم بشكل فعلي حرية الصحافة والاعلام بشكل حقيقي،،،ولكونه ايضا ديموقراطي فسوف يجعل احترام الانسان وحريته ، بمفهومها الحقيقي ، لها الاولوية في كل المجالات،، . واخيرا ، وبصفته ديموقراطي ، وعند استكمال كل ماجاء أعلاه ، يعلن عن تطبيق النظام الديموقراطي وفق السياقات الصحيحة المتعارف عليها ثم ينسحب بهدوء ، وهنا استدرك قائلا ،، هنا تنتهي مهمة الدكتاتور الديموقراطي ، ويجب ان لا يقوم بترشيح نفسه لان الناس ستنتخبه وسوف يعود دكتاتور فقط وليس ديكتاتور ديموقراطي.
خرج وجهاء القرية من عند المخبول وهم حيارى لأنهم لم يفهموا ما قصده هذا المخبول.