مارست الثقافات الاجتماعية قمعا تاريخيا مع الجسد الانساني وقللت من اهميته عندما نظرت اليه كبؤرة للغرائز المنحطة التي تقود الى الفساد الاخلاقي والتحلل السلوكي وتؤدي بالانسان الى مهاوي الرذيلة .
وقد يكون المبرر الاول لذلك هو عملية التهذيب التي لجأ اليها الانسان عندما غادر الحالة الحيوانية متحولا الى كائن اجتماعي تحفظ وجوده وتديم استمراريته وبقاؤه مجموعة من القيم والمعايير التي يعتبرها علماء الاجتماع رأس مال اجتماعي تحافظ عليه الاجيال .
ثم تبع ذلك التهذيب تقديس ديني مبالغ فيه قاد الى لف الجسد بكفن المحرمات الحياتية ، ما ادى الى كبت غرائزه الجنسية ومايصاحبها من طاقة نفسية ، نتجت على اثرها امراض سيكولوجية مختلفة شخصها عالم النفس الكبير سيغموند فرويد كالتوتر والقلق ومايخلفانه من مضار مدمرة كثيرة .
لقد نشأ الانسان على ثقافة خاطئة شطرت كيانه المنسجم الى كيانين وقدمت احدهما على الاخر فارتفعت اهمية الروح وهبطت اهمية الجسد وغدت رغباته الجنسية وطرق التعبير عنها او البوح بها من المحرمات الكبيرة ، وصار الفن والادب مجالي تعويض ابداعيين ، يعبر من خلالهما المبدع عن لغة الجسد الممنوعة عن النطق .
وبحسب اعتقادي الشخصي ، ومن خلال القراءة الخاصة لي كمتلق ، انطلق الروائي ماريو فارغاس يوسا في رواية ((دفاتر دون ريغوبرتو )) التي هي امتداد لروايته السابقة ((امتداح الخالة)) من هذه القناعات ، مفكرا باعادة القيمة الحقيقية لهذا الجسد المحاصر بعوامل الكبت والقمع الاجتماعية والدينية من خلال استنطاق مااختبأ فيه من رغبات جنسية يمنعها عن الظهور كل من احساس الخجل واحساس الخوف من العقاب .
غير ان فكرته هذه تجاوزت احترام مااستطيع ان اطلق عليه ((المقدس الرجولي)) الشائع ، واعني به غيرة الزوج على زوجته ، الى مستوى من الدونية والانحطاط الاخلاقي الموحي بوجود اعتلال نفسي خطير في شخصية ذلك الزوج .
فثمة رجل يخضع لهيمنة الجسد المطلقة في ساعة الفراش ، ناسيا في لحظات البحث عن التهيج والاندماج النفسي والجسدي ، تأثير العقل ومايحتويه من بعض الموانع الاخلاقية التي اصبحت قاسما مشتركا بين كل الازواج الاسوياء وفي كل المجتمعات . اذ يصبح الحضور هنا للجسد بصورته البدائية ذات الطابع البهائمي ..الجسد الذي كان موجودا في مرحلة الانا السفلى وقبل تشكل الانا العليا الكابحة لجموح الغرائز غير المقبولة اجتماعيا .
فمن اجل ان تصل نارالرغبة الى اقصى اشتعالها ، يقوم بطل الرواية (دون ريغوبرتو) باستنطاق زوجته عن تفاصيل اسبوع رحلتها مع خطيبها القديم ، بعد ان حققت له تلك الامنية بناءعلى رسالة جاءت منه وعلى ضوء موافقة زوجها الذي سمح لها في القيام بذلك فورا وبلا ادنى ممانعة .
هذا الاستنطاق يكشف لنا عن امنية غريبة تشذ عن سلوك الرجال الاسوياء المستأثرين بزوجاتهم حد ارتكاب جريمة القتل في حالة حصول خيانة ما من قبلهن . حيث يلح الرجل بالطلب منها وهي تسرد له تفاصيل ايام الرحلة تلك ، في الوصول بسرعة الى وصف لحظة مضاجعتها من قبل ذلك الخطيب القديم ، عاكسا لهفته الشديدة لمعرفة الكيفية التي حصل بها وماذا فعل كل واحد منهما للاخر في تلك الدقائق الاستثنائية .
ان المحاكمة القيمية لهذا الرجل (دون ريغوبرتو) تكشف لنا عن شخصية معتلة سايكولوجيا تنازلت عن قدسية جسد الزوجة لصالح تحقيق رغبة ايروتيكية أوقعته كليا تحت سطوتها الجامحة وجعلته ينسى كل الموانع الاخلاقية من اجل ان يضاعف اهتياجه ليحصل على ممارسة جنسية يكون للجسد وحده حضورا مطلقا فيها .
ان احد الاثنين ، البطل دون ريغوبرتو (اذا تعاملنا مع النص وفق النظريات التي تنص على موت المؤلف) او المؤلف يوسا ، يرسل لنا شفرات لااخلاقية ، شريرة ، ناكصة حضاريا ، تتضاد بالكامل مع حالة احترام جسد الزوجة ، وذلك من خلال الترويج لاستباحته بهذا الاسلوب الوضيع من قبل سواه ، تحقيقا للذة نفسية تنتاب الرجل في ساعة صعود الحيوانية الى جسده وتراجع الادمية فيه .
وقد تبدو هذه الشفرات المنطوية على دلالاتها الخاصة هي وليدة حضارة اخرى بعيدة عن حضارة الشرق .. حضارة فيها من الثقافة مايجعل كل ماهو شاذ ومرفوض اخلاقيا في الثانية طبيعيا ومألوفا في الاولى ، لكنها مع ذلك اخطر من ان ينظر اليها بهذه الطريقة النسبية .
فالانسان بصفته المجردة ، وفي مختلف الازمنة والبيئات ، كائن يتطور وليس كائنا يتدهور ، وسيره في طريق الحضارة يفرض عليه ان يقترب مع تقادم الزمن من مفهوم الانسانية ، وان يتخلى تدريجيا عن رواسب الحالة الحيوانية التي كان عليها في مراحل ماقبل التحضر ، لذلك فأن البحث عن تحرير الجسد لايجب ان يقود الى طرح افكار تقود الى تدهوره ، حيث ان التعود عليها والتشبع بها يكرس ثقافة بدائية تؤدي الى تمزق المجتمعات لاحقا .
لقد حملت هذه الرواية هي وسابقتها ، رغم حداثة تقنيتها السردية ،وشفافية لغتها ، أغراءات جنسية وشذوذا مقرفا لم يتمثل في انبعاث تلك الرغبة اللاأخلاقية في ساعة الجماع فقط ، وانما في الممارسة الجنسية المرفوضة ايضا ، التي تحصل مابين زوجة الاب وابنه الصغير سنا ، التلميذ في المدرسة الابتدائية ، الذي اراد ان يصوره (يوسا ) لقراءه شخصا يرمز الى الشيطان الذي يغوي تلك الامرأة بطريقة لم تستطع مقاومتها .