بأسف وحزن عميقين ، غادر عالمنا ولحظاته المريرة الساخنة الصديق الرائع والإنسان الوديع الشاعر (مهدي محمد علي) ، في إحدى المستشفيات السورية. إن وفاة العزيز (مهدي) خسارة للثقافة الوطنية العراقية الديمقراطية ولنا في البصرة بالذات. لقد أجبر النظام الدكتاتوري المنهار الشاعر(مهدي محمد علي) ،عند نهاية عام 1978 ، من خلال مطاردته ومحاولة اعتقاله والقصاص منه ، على الرحيل بعيداً عن مدينته ووطنه عبر بادية العراق الجنوبية، في رحلة شاقة مضنية ، برفقة صديقه الشاعر(عبد الكريم كاصد) وبدلالة بعض المهربين تجاه الكويت ،وكتب عن تلك الرحلة قصائد عدة منها قصيدته (جرد لعام1979):
1– حداء
في أول هذا العام
غادرتُ الوطن بزيِّ بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة من رمل ورياح
ونياق وأدلاّ ء
ورجال تبحث عن رزق في ما بعد الصحراء
***
سبعة أيام بلياليها
لم نعرف غير ذَ لول ودليل
وسماء واسعة ورمال
وصحارى تصفر فيها الريح
……
وطن يمتد إلى أقصى الأرض وأقصى الروح!.
2-أغنية صحراوية
شربنا من مياه السيل
شاركنا الرواحل تمرها
والاهتزاز المرّ فوق ظهورها
والهمهماتِ إذا قطعنا سبخة زَلَـقاً
وانصتنا لها تجترّ طول الليل
3-عود إلى الحداء
أمي تذكرني
وأنا أتوسد رمل الصحراء
ملتحفاً برحال
تملأ سمعي أصوات كلاب الصحِراء
تتخطّـفني أنوار الدوريات
4- أغنية
في آخر هذا العام حلمت:
أني أرحل نحو الوطن المغلوب
بقطار تحت الأرض
يمر باحياء تحت الأرض ومحطات
تكتظ بأعداء وعيون جواسيس
……
لكني..
قابلت أخي في زاوية الشارع
عجلاً ، أتلفت
ودعت أخي
وأفقتُ
تذكرتُ
باني لم أر أمي في الحلم
…..
فتمثلت الوجه المتغضِّنَ
والعينين الدامعتين
وتمثلت رفاقي حول مواقد ثلج يلتفون
ويشقون خنادق في أعماق الأرض
وجسوراً تمتد لأهل الأرض
وأعواماً زاهرة تأتي !. عدن 1979
بقي (مهدي) منذ ذلك التاريخ ، ينتقل من منفى إلى منفى، وعينه وقلبه وضميره الناصع اليقظ ، على وطنه العراق وشعبه ، و(بصرته) ، التي خصها بكتابه النثري المتميز(البصرة..جنة البستان) ، كما واصل التعلق بملامحها الفريدة دون مدن العراق ، و بناسها الأوفياء ، وأصدقائه الخلص فيها ، خاصة الذين طحنتهم التوجهات السلطوية البعثية القذرة ثقافياً واجتماعياً ، ولم يستجيبوا لها أو يتوغلوا في أدغالها السيئة ومراميها الرديئة العفنة ، رغم كل المغريات والتهديدات . لقد واصل (مهدي) هذا النهج عبر كتاباته النثرية الغنية المتنوعة ، و قصائده الشعرية الراقية و التي ضمتها دواوينه العديدة التي أصدرها في المنفى ، ومجمل كتاباته الأدبية – الثقافية الثرية في مجلة “الثقافة الجديدة” والتي كان عضواً في هيئة تحريرها ومحرراً لصفحاتها الثقافية – الأدبية ، طوال صدورها أكثر من ربع قرن في خارج العراق . و نشر الراحل( مهدي) فيها عشرات المواضيع المهربة إليه، من بعض أدباء وكتاب العراق و بصرته بالذات ، بوسائل شتى، وبأسماء مستعارة، تحاشياً وخلاصاً من آلة البطش والاستبداد السلطوي، والذي قاد بعضهم ، مجرد حيازته أو اطلاعه عليها إلى الموت شنقاً. والراحل الشاعر(مهدي محمد علي) نشر أولى ،في إحدى الصحف العراقية، قصائده خريف عام 1961، بعد أن كتب عنه محتفياً ومبشراً به عبر مقدمة خص بها قصيدته الأولى تلك، أستاذه ،الشاعر الكبير (سعدي يوسف). ورسخت عطاءات الشاعر الفقيد (مهدي) في أوائل السبعينيات عبر نشره المتواصل لقصائده في الصحف والمجلات الأدبية العراقية والعربية ، ومنها قصيدته” لقطات.. من مدينة تعانق ماء النهر” التي نشرها عام 1973 في جريدة ” الفكر الجديد” وكتبَ عنها دراسة مطولة الشاعر والناقد والقاص الراحل “أنور الغساني”،وكذلك كتب الشاعر”صادق الصائغ” عام 1977 عن قصيدته”سياج” التي نشرت في “طريق الشعب”:
سياج
اعتاد أطفال الجيران
أن يمتطوا السياج بيننا كالحصان
أمرتهم أن يكفوا
فلم يستجيبوا، وظلوا محدقين
فاكتشفت عيونهم الجميلة الملونة
…..
وحين كفوا
صار السياج بيننا فاصلاً
واختفى ذلك النبات البشري المتسلق
وأزهاره الجميلة الملونة !. البصرة 1977
ساهم (مهدي) وشعراء آخرين بقصيدته(مع لوركا في الطريق إلى قرطبة) في كتاب(سلاما أيها الحزب/ الذي صدر عن دار الفارابي – بيروت/ط1 1974 / في الذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي) وقدم له الشاعر الراحل يوسف الصائغ، كما إن مجلة (الكلمة) نشرت له في عددها الخاص بشعراء السبعينيات، قصيدة . واختيرت قصيدته(مواقع) في (الملحق الشعري) الذي أصدرته مجلة (الثقافة الجديدة) في كتاب منفصل مع عددها المرقم( 83 ) في تموز عام 1976 وأشترك فيه عدد من الشعراء العراقيين، وكتب الشاعر الكبير (سعدي يوسف) في متابعته عنها: “المواقع تتعدد عند (مهدي) ومنها مواقع في الزمان، وفيها بحث ومعاناة ، وان التعبير عند مهدي يتركز إلى حد التقطير”.واختار الشاعر(هاشم شفيق) أربع قصائد قصيرة له هي:(ظهيرة/سحر الكينونة/أمومة / يا خوفي!).ضمن( ديوان الشعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين- 1 – العراق) الذي يصدر من قبل منظمة اليونسكو الدولية بعنوان (كتاب في جريدة)وتصدره في العراق صحيفة الصباح، كما كتب عنه وعن نتاجاته الكتاب والشعراء: محمد الأسعد ، ومحمد مصطفى درويش ،وجنان جاسم حلاوي ، وحسين بن حمزة وعبده وازن وعبد الكريم كاصد، ورضا الظاهر، وآخرين. مارس الفقيد تدريس اللغة العربية، بعد تخصصه فيها عام 1968، في متوسطات و اعداديات محافظة بابل، ومدينته البصرة ، حتى هروبه الأخير منها. وعند استقراره في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عمل في بعض المجلات و الصحف اليمنية، وأوفد من قبلها إلى هافانا، وسيؤل ، وبراغ ، وموسكو ، لتغطية بعض الفعاليات الثقافية والسياسية الرسمية. كما ذهب للعمل في التدريس،بعد ذلك، في (ليبيا)، ونشر هناك العديد من كتاباته الثقافية والأدبية، حتى أستقر في سوريا ومدينة حلب ، إننا لينتابنا الأسى العميق والحزن المُرّ على هذا الرحيل المبكر والمفجع للزميل الشاعر المثابر، والإنسان الرائع (مهدي محمد علي) الذي لم يهادن طوال حياته المؤسسات السلطوية أياً كانت، خاصة تلك التي تعمل حالياً ، وبعد سقوط نظام القتل البعثي ، على تدمير منجزات شعب العراق وثقافته الوطنية وقيمها الديمقراطية الحية المتنوعة المتعددة الغنية المتجذرة تاريخياً في وطننا،مستغلة في ذلك مواقعها الإدارية والسياسية عبر توجهاتها الظلامية المنغلقة على العصر الراهن ومنجزاته الحضارية ، ومحرماتها التي طالت المسرح والغناء والموسيقى والنحت، وحتى بهجة الناس البريئة ، وأزيائهم التي يجب أن يرتدونها، وطرق حياتهم الخاصة، والتي لم ولن يستجب أو يتناغم معها غالبية الناس، والوسط الثقافي والأدبي والفني في العراق عامة وفي بصرة الشاعر (مهدي محمد علي)، بالذات، و الذي سيبقى علامة و مثلاً يحتذي به في مسيرة الثقافة العراقية الوطنية داخل مدينته، و وطنه الناهض من سنوات القمع و التعسف والحروب والاحتلال والإرهاب ، مهما كانت أنواعه ومصادره والجهات الداخلية والخارجية التي خلفه وتديمه وتدعمه بوسائل وطرق شتى ومبتكرة ، ونثق تماما إن شعب العراق سيواصل بلا تراجع مسيرته ، وفي المقدمة منها القيم الثقافية الحضارية وتوجهاتها الوطنية الديمقراطية المدنية الحية المتجددة ، كما واصلها طوال حياته الفقيد الغالي(مهدي محمد علي)، مواجهاً بصلابة وإبداع غني كل الدكتاتوريات السابقة أو المقنعة حالياً ، تحت أي مسمى أو شكل أو ذريعة ما. ونطمح في أن تفي (وزارة الثقافة العراقية)والاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين/المركز العام/، حق الشاعر (مهدي محمد علي) المُضيع في وطنه ،طيلة عقود، من خلال العمل على إعادة طبع بعض أعماله الشعرية التي أصدرها ، مجبراً، في المنفى أو مختارات منها، في كتاب خاص به، وهذا العمل هو أقل ما يمكن أن يقدم له ، بعد رحيله المفجع، وعبر لجنة معنية يتم تشكيلها لهذا الشأن ، وبمشاركة ممثل من أدباء وكتاب بصرته و(جنة بستانه).