يربط القارئ العربي غالبا هذين الاسمين الكبيرين في الادب الروسي بالقول الشائع , الذي ينسبونه لدستويفسكي – ( كلنا خرجنا من معطف غوغول), وهو تبسيط التبسيط للحديث عن علاقة هذين الكاتبين في اطار علم الادب المقارن , ويذكرني بما قاله لي مرة احد معارفي , عندما سألته عن انطباعاته حول العاصمة النمساوية فيينا التي زارها, والذي أجابني قائلا – ( ليالي الانس في فيينا // سمعها الطير بكى وغنّى ) , وقد قهقهت عندها , وقلت له , انه من المؤكد , ان اسمهان نفسها تعرف جيدا , ان الطير لا يبكي ولا يغنّي اولا , و تعرف ثانيا , ان الطير ينام طوال الليالي بغض النظر عن اي انس يجري في زوايا تلك الليالي و شعابها.
لقد كتبت مقالة قبل سنوات طويلة بعنوان – ( هل خرج دستويفسكي من معطف غوغول ؟) ويمكن الرجوع اليها طبعا , وتحدثت فيها بالتفصيل عن ذلك القول , و ذكرت في نهاية المقالة المذكورة كيف اني استمعت الى محاضرة ألقاها بروفيسور سوفيتي في باريس نهاية ستينات القرن العشرين عن هذا القول , بعد بحث وتمحيص طويلين له حول اوليّات ذلك , وكيف فنّد الرأي القائل , ان دستويفسكي كتب هذا القول . استجدت بعد ذلك عناصر جديدة اخرى باللغة الروسية حول هذا الموضوع , منها ما نشرته مجلة ( قضايا الادب) الروسية , وما تم نشره في المعجم الكبير للتعابير والاقوال المتداولة تحت جملة – ( كلنا خرجنا من معطف غوغول) …الخ , وكل هذه المصادر تشير بالاجماع الى ان دستويفسكي لم يكتب هذه الجملة , وانها وردت في كتاب أحد الباحثين الفرنسيين حول الادب الروسي ليس الا, ولا مجال هنا للحديث التفصيلي عن كل ذلك طبعا .
دستويفسكي وغوغول والمقارنة بينهما – موضوع عميق جدا في تاريخ الادب الروسي ( يكفي فقط ان نشير مثلا الى موضوعة مدينة بطرسبورغ وانعكاساتها في نتاجاتهما الادبية) , وهو موضوع عميق ايضا في تاريخ الفلسفة الروسية ( ويكفي فقط ان نشير مثلا الى موضوعة الكنيسة الارثذوكسية الروسية في مفاهيمهما ودورها الذي ينبغي ان تؤديه في المجتمع حسب رأيهما) . لقد ابتدأ موضوع المقارنة بينهما واقعيا منذ ظهور دستويفسكي في دنيا الادب الروسي , اذ أسماه الشاعر والصحافي الروسي الكبير نكراسوف ( غوغول الجديد ) عندما تكلم عنه مع بيلينسكي , أما بيلينسكي نفسه , فقال , ان ( غوغول هو الاب لدستويفسكي) , وكل ذلك طبعا في بداية ظهور دستويفسكي , اي قبل اعتقاله من قبل السلطة القيصرية والحكم عليه بالاعدام , ثم الغاء هذا الحكم ونفيه الى سيبيريا بدلا عن الاعدام , وهي وقائع معلومة في تاريخ روسيا وادبها , اما دستويفسكي بعد العودة من سيبيريا , ومسيرته الادبية الجديدة , ووصوله الى القمة والعالمية , فان الامر يختلف طبعا , اذ يدأ النقاد والباحثون يتناولون مبدأ المقارنة بين دستويفسكي وغوغول باعتبارهما قمتين من قمم الادب الروسي والعالمي ايضا , وهناك مجموعة من الدراسات المعمّقة في هذا الخصوص , منها على سبيل المثل وليس الحصر كتاب كامل صدر عام 1921 في روسيا بعنوان – ( دستويفسكي وغوغول ) من تأليف تينيانوف ( تأملوا سنة اصدار الكتاب , عندما كانت روسيا تتبلور لتوّها بعد ثورة اكتوبر 1917 وتتحول الى دولة الاتحاد السوفيتي) , ومؤلف الكتاب تينيانوف هو احد الادباء الروس واحد نقاد الادب البارزين في مسيرة الادب الروسي آنذاك , وتعدّ كتبه – ولحد الان – مصادرمعتمدة للباحثين , وخصوصا عن اعلام الادب الروسي في القرن التاسع عشر مثل بوشكين وغريبويديف وغيرهم . من الممكن طبعا الاشارة الى مصادر روسية اخرى تناولت موضوع المقارنة بين غوغول ودستويفسكي من مختلف الجوانب , منها ان دستويفسكي حاول ان يحاكي غوغول ( وفق اساليب مخفيّة وغير مباشرة ) كي يقارعه فنيّا ويصبح بنفس مستواه , مثلما حاول غوغول ان يحاكي بوشكين ( وفق تلك الاساليب ايضا) كي يصبح بنفس مستواه , ولكن هذا الجانب غير الواضح وغير المباشر يحتاج الى اثباتات وبراهين عميقة و موضوعية, ويخضع كل ذلك طبعا الى وجهات نظر شخصية للباحثين مختلفة و متباينة, بل وحتى متناقضة بعض الاحيان . اختتم العرض الوجيز لهذا الموضوع المهم في علم الادب المقارن بالاشارة الى وجود فلم وثائقي روسي بعنوان – ( غوغول و دستويفسكي ) , وهذه ظاهرة نادرة في الدراسات المقارنة .
دستويفسكي وغوغول – موضوع كبير ومهم في تاريخ الادب الروسي وفي علم الادب المقارن , وقد انعكس باشكال مختلفة في مسيرة النقد الادبي الروسي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , وفي النقد الادبي السوفيتي , ولازال مطروحا لحد الان , وكم نحتاج – نحن العرب – الى متابعة هذا الموضوع وغيره من اجل ان نتفهم تاريخ الادب الروسي وخصائصه … .