أن تبقى على سجيتك دون أن تغير خطابك و ترفع حدة النبرة المكوناتية فيه , فهذا الأمر يشكل تحدياً كبيرا” يواجهه أي سياسيٍّ عراقيٍّ يلج هذا الوسط , فقد استطاعت الطبقة السياسية التي واكبت فترة تغيير النظام بعد 2003, إرساء أعراف معينة في الحياة السياسية التي أصبحت لها أدبياتها الخاصة و لغتها المميزة في الخطاب , حيث يشكل الحديث باسم المكون و تقديم هويته الفرعية على كل الهويات الأخرى, أبرز السمات التي طبعت الخطاب السياسي العراقي ولم تقف حدود تأصيل هذه القضية و تجذيرها في الحياة السياسية عند حدود إنشاء أول شكل من أشكال إدارة الدولة (مجلس الحكم) على أساس فئوي , بل تعدى ذلك إلى مرحلة أخطر وهي تسرب هذه الآفة إلى أهم وثيقة سياسية و أكثرها صلة بحياة الأفراد, ألا وهي وثيقة العقد الاجتماعي التي ترسم حدود العلاقة بين الحاكم و المحكوم و تحدد شكل النظام السياسي , فجاء قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية و من ثم الدستور ليؤسس لهذا الانقسام المجتمعي .
لقد ثبت بالدليل , بعد مضي 10 سنوات على نفاذ الدستور العراقي , أن من كان يمثل عرب العراق من الشخصيات السياسية , لم تكن لديهم أي رؤية إستراتيجية واضحة عن مستقبل العراق , فمن أصر على تبني النظام الفدرالي كشكل للنظام السياسي , أصبح بعد أقل من 10 سنوات من أشد معارضيه , و من قاطع لجنة كتابة الدستور احتجاجا” على تبني الدستور للنظام الفدرالي , أصبح اليوم من أشد المتحمسين لتطبيق هذا النظام بالذات.
و بالرغم من كل الايجابيات التي احتواها دستور جمهورية العراق النافذ و الذي كفل من الناحية النظرية على الأقل كل الحقوق و الحريات الأساسية تقريباً التي نصت عليها أكثر دساتير العالم رقيا” و تطوراً , إلا أن الدستور العراقي بقي ملغوماً بعشرات الألغام التي تفجرت لاحقاً لتخلق مشاكل حقيقية عصية على الحل ليس أقلها آلية تقاسم الثروة , و إذا ظن القارئ الكريم أني مفتري على هذه الوثيقة (الدستور) فإنها من تشير بنص صريح إلى حاجتها للمراجعة و التعديل و تضرب أجلا لانجاز هذه المراجعة لا يتجاوز (4) أشهر من تاريخ نفاذ الدستور , كما نصت على ذلك المادة (142) من الدستور العراقي
. على أنني في هذا المقام يجب أن أشير إلى أمرٍ غاية في الأهمية , هو أن النظام السياسي العراقي الجديد لم يأخذ إلى الآن شكله النهائي و لم تستكمل فيه بنية مؤسسات الدولة بالطريقة التي نص عليها الدستور , وهذه ليست مسؤولية الدستور بل مسؤولية الطبقة السياسية , فغياب مؤسسات مهمة مثل مجلس الاتحاد و عدم إنشاء هيئات مهمة, سيكفل إنشاؤها معالجة مشكلة كبيرة هي مشكلة تقاسم الثروة , مثل الهيئة المنصوص عليها بموجب أحكام المادة (105) من الدستور ( الهيئة العامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم) و الهيئة المنصوص عليها في المادة (106) من الدستور (الهيئة العامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية) فتشكيل هذه الهيئات و المؤسسات الدستورية كان سيعالج إلى حد كبير, الكثير من المشاكل التي تواجهها الحكومات المحلية و الحكومة الاتحادية على حد سواء.
و خلاصة القول أن الحل في العراق يبدأ من مراجعة الدستور العراقي و قد صرح الكثير من السياسيين و منهم أشخاص ساهموا بشكل مباشر في كتابة الدستور, صرحوا بوجوب هذه المراجعة , لكن هذه المراجعة المفترضة يجب أن تكون بنفس وطني يستشعر المسؤولية التاريخية و الظرف الدقيق و الحساس الذي يمر به بلدنا و الذي وصل حدوداً غير مسبوقة تنذر بالخطر , وإذا كنا قد فرطنا بقصد أو دون قصد بوحدتنا الاجتماعية عندما قبلنا أن نتعامل بلغة المكونات , فعلينا على الأقل في هذه المرحلة أن نحافظ على الوحدة الجغرافية للبلد , لعلنا ذات يوم نفيق من هذا الكابوس المزعج و نثوب إلى رشدنا فنجد اننا ما زلنا تحت خيمة واحدة يجمعنا اديمها هي العراق.