ليس هناك ثمة سر يكمن خلف ابعاد اقليم كوردستان عما تشهده المنطقة من حركة احتجاج شعبية واسعة هزت وتهز اساسات الانظمة السياسية من حولنا، وليس القدر والحظ اللذان ابعدا عن شعبنا غول الارهاب الذي خيم على المنطقة، وليست الصدفة التي جعلت قوانا السياسية تدير ظهرها عن استخدام العنف في حسم الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحالة الاستقرار السياسي التي ينعم بها الإقليم، الى جانب اعمال التنمية والإعمار رغم الملاحظات على اتجاهاتها، وتنمية الوعي بالسلام، والاهتمام بالتعليم و الثقافة، واحترام التنوع وترسيخ مفاهيم العيش المشترك، هذه العوامل بمجملها فضلا عن امور أخرى ساهمت في استتباب الامن وتحقيق الاستقرار، وفوتت الفرصة على المتربصين والإرهابيين من التطاول على ما تم انجازه.
ويبدو ان الضريبة الكبيرة والثمينة التي دفعناها سابقا، وتجربة السنين القاسية التي شهدناها، في اقتتال الإخوة حيث العنف والعنف المضاد، وصراع الارادات عبر ممارسة القوة، والذي استنزف منا قدرا كبيرا من الخسائر البشرية والمادية هو الذي ابعدنا عن كل ذلك، وجعل اللجوء الى استخدام العنف لحسم الخلافات من كبائر المحرمات. هذا فضلا عن الوعي السياسي الذي اكتسبه شعبنا وقواه السياسية والذي لخص لنا اهمية العمل المشترك لبناء تجربتنا الديمقراطية والتي ما زالت جنينية وتحتاج الى تمتين وترسيخ، وإضفاء الشفافية والمزيد من العلانية والمشاركة السياسية الفعالة. كل ذلك الى جانب امور أخرى جعل اقليم كوردستان ينعم بنوع من الهدوء في بحر المنطقة المتلاطم اثر جملة من الصراعات والتي انعكست على اوضاع شعوبها.
بطبيعة الحال لا يمكن الاستنتاج مما تقدم بان الاقليم خارج نطاق الصراع السياسي الداخلي والخارجي، بل العكس صحيح. فكردستان العراق لا تعيش في جزيرة منغلقة ومنعزلة عن ما يحيط بها، بل هي تتأثر وتؤثر في ما حولها، كما ان رياح التغيير التي بينت تنامي دور الشعوب في تقرير مصيرها هبت وانعشت الامال بان الغد الديمقراطي هو غد الشعوب الحية، وشعبنا تواق الى مستقبل افضل فهو من الشعوب المكافحة ببسالة من اجل حقوقه وحرياته وكرامته.
ان شعبنا يعيش بترابط وثيق مع محيطه الخارجي، سيما وان هناك قضايا مصيرية ما زالت معلقة وتنتظر منا الحل، نعم ان الاوضاع العامة الخارجية تنعكس بهذا الشكل اوذاك على وضع الاقليم، وتحاول التأثير فيه، كما ان الصراع السياسي داخل الاقليم يشهد حراكا واسعا على مختلف الاصعدة. وهذا امر صحي يتطلب توفير الاجواء الطبيعية والإمكانيات اللازمة لإدارته سلميا وقانونيا، فهدف تنمية قدرات الاقليم وتطوير نظامه وتحسين اليات عمله هو هدف سام يتطلب منا العمل الدؤوب والمتفاني، ومن جهة اخرى يتطلب منا بذل جهود واسعة بهدف تحسين الاوضاع المعيشية والحياتية لشعبنا خصوصا الفئات الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية بالاستقرار والتنمية.
لذا فقضية دستور كوردستان ينبغي لها ان تدار ضمن هذه الاجواء، وفي اطار التحديات التي تواجهنا، وليس كقضية منعزلة بحد ذاتها، بل انها من بين اهم القضايا وذلك لتأثيرها على محتوى وشكل النظام السياسي للاقليم. وان امر حسم الدستور لا يخص الحاضر السياسي وحده، بل يخص اجيال المستقبل، لذا فهو من الامور الواجبة والتي تأخرت وطال انتظارها، ويتطلب وضعها في اولويات الاهتمام، لكن شرط التروي والانضاج، كي يكون الدستور عامل وئام وطني، وانسجام شعبي، ووفاق سياسي، وذلك لاهمية هذا العقد السياسي- الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي المركب على حاضر ومستقبل اقليم كورستان وشعبه.
وبطبيعة الحال ان الدستور يبحث في طبيعة النظام السياسي وشكله، واليات عمله، والعلاقة بين السلطات الثلاث، وتنظيم حريات المواطنين وحقوقهم وتأمين الضمانات الحياتية والمعيشية والتعليمية والصحية والقانونية، وبما يتلاءم مع التطور الذي شهدته الانظمة السياسية الديمقراطية في العالم. لذا فان الدستور وبهذا المعنى من الوثائق بالغة الاهمية، وصحيح انه اخذ حيزا غير قليل من النقاش في الاوساط السياسية والشعبية، وصحيح ان فترة غير قليلة مرت دون حسمه، واقرار الاستفتاء عليه، هناك مبرارت غير قليلة كانت وراء هذا التأخير، لكن في كل الاحوال ان الانقسام الذي نشهده اليوم حول اخراجه للاستفتاء، او الكيفية التي يتم اجراء بعض التعديلات عليه، هو امر ملفت يتطلب من العقل السياسي الكوردستاني التوقف عنده بمسؤولية مطلوبة، سيما وان الاوضاع في العراق تؤثر بقوة على الوضع السياسي بالاقليم. فمن ناحية وكما نشهد ان الصراع على محتوى وشكل النظام السياسي في العراق لم يحسم لصالح الديمقراطية بشكل واضح، ليس بسبب عدم إبراء العراق من تطاول الارهابيين وجرائمهم المشينة وحسب، وانما كذلك لاحتدام الصراع بين اطراف العملية السياسية، والتي بنيت على المحاصصة الطائفية وانتجت، تبعا لذلك، نظاماً هشاً ضعيفاً واهناً، نخره الفساد السياسي والمالي والاداري. ومن جهة اخرى ان طبيعة العلاقة بالنظام الفدرالي في العراق لم تترسخ بعد، فهناك قضايا ما زالت تشكل خلافا جوهرياً بين الاقليم والحكومات الاتحادية المتعاقبة، منها ما يخص المناطق المتنازع عليها، ومنها ما يخص حصة الاقليم من الميزانية، وقضايا النفط واستثماره ، والبيشمركة ومستحقاتها، الى جانب امور اخرى. لذا لا يمكن تصور استقرار وضع الاقليم ونحن نعيش في عراق يشهد نظامه السياسي عدم الاستقرار. الاستقرار يكمن بعد حسم حل القضايا المعلقة، والحل لا يتعلق بنا فقط وانما يتعلق ببغداد ايضا، وعلينا دفع الامور باتجاه حلول معقولة ومقبولة تؤمن مصالح الجميع.
ليس من الصحيح وضع الخلاف في نقطة واحدة هي اعادة الدستور إلى برلمان الاقليم لاجراء تعديلات عليه كأحد اتجاهات الرأي، مقابل عرض الدستور على المواطنين للاستفتاء الشعبي كما هو الرأي المقابل، ان وضع الخلاف بهذه الصورة، هو اجتزاء للتحديات واختصارها. وان التمترس خلف هذه النقطة وعدم اللجوء الى الحوار بين الاطراف حول هذه النقطة في اطار مجمل القضايا والتحديات المحيطة، هو موقف يتسم بالاحادية وعدم الموضوعية، ويقع في باب المناكدة غير المنتجة، هذه القضايا وغيرها التي يتطلب التوقف عندها، وإدارة حوار هادئ مسؤول حولها، حوار بعيد عن التشنج والكسب السياسي الرخيص، حوار يتسم بالموضوعية، وبلغة تنسجم مع قيم التمدن والديمقراطية.