كنت اصغر إخوتي الذكور, ورغم هيبة والدي تغمده الباري برحمته, والتي كلما أتخيلها, أتذكر أكثر منها كم كان صلبا, ويفرض وجوده في المكان الذي يحتويه, رغم بساطة حاله المادية حينها
كان شديدا معنا في التعلم والتربية, يشبه كومة الملح الصغيرة التي أصابها الماء, فذابت بلمح البصر في عواطفه, كان يملك جانبين في شخصيته, فلا ندري إن كان صلبا كالماس الذي لا يمكن كسره, أم كان هشا كجليد أصابته شمس تموز الحارقة!.
علّمنا دون إن يتكلم أو يشرح, معنى إن تكون كريما ومضيافا, وأنت لا تملك ما يكفيك, بل ويزداد كرمك كلما ضاقت الحال, وقصرت اليد, فكان يشير لنا, وهو في حالة النزع الأخير قبل وفاته, بان نضيّف من جاء يزوره مودعا, وهو بالكاد كان يمكنه إن يفتح عينيه!..شرح لنا بالتطبيق العملي, كيف إن قيمتنا, بما نحمل من إنسانية, ومقدار ما يمكن إن تنفع الناس به.
في أحيان نادرة كان يعاقبني, كوني الأصغر المدلل, حتى كانت هذه الثغرة هي ما يلجا إليه بعض إخوتي الأكبر, لتفادي العقوبة عن جرائمهم, عن طريق رشوتي “بخمسة فلوس”, أو “عسلية”, وأي جرائم!.. اللعب في الشارع, أو كسر مصباح الجيران أثناء لعب الكرة, ورغم انه كان يحاسبني, وعينيه تقول لي بكل وضوح, انك لست الفاعل, وانك لا تقول الحقيقة, إلا انه كان يكتفي بتنبيهي, مع وعدي بعدم التكرار, وكأنه يريد فقط تجنيبنا العقوبة!.
أوه.. كم احن إلى تلك الأيام رغم شظف العيش, والخوف على الأخوة الأكبر مني, وهو يجمعنا أو من تبقنا منا, حوله يقص لنا حكايات, عن رحلاته إلى أهوار الناصرية, أو لقاءاته مع الشيوخ والأمراء الحقيقيين, كما كان يحب إن يطلق عليهم.
كم اشتاق له, مع كل كتاب امسكه, وهو يجعلني أتذوق الأدب, وأنا أكاد أتلمس أيام مراهقتي, حين كان يجعلنا نتسابق ليلة الجمعة, بعد أن نجتمع بحضور إخوتي الكبار, حول مدفأة” علاء الدين” الشهيرة, وهو يمسك بديوان المتنبي, أو الحمداني أبو فراس, يطلب إن نكمل له القافية, في لعبة التقفية الشهيرة, أو المطاردة الشعرية.
كم وكم..وهل تكفي الحروف لأسجل ما تعلمته من دروسه؟!, وأعجب ما فيها أنها نادرا ما كانت بكلمات, أو شرح أو توجيه.. فقط تطبيق عملي صادق.
علمني حب الحسين عليه وعلى أله افضل الصلوات والسلام, وجعلني أفهم, ما هي ثورته, ولما نهض, وكيف أبكي بوعي, أحزن بصدق, أجعل حزني هذا عملا, وأن ثورته هي امتداد لرسالة الإسلام, وما هو الإسلام الحقيقي, سماحته ورحمته, ما هي الدعوة بالحسنى, وكيف أكون رسولا, حاملا لرسالة الإسلام.
في يوم, كنت أرتدي قميصا فيه ألوان ملفته لكنها هادئة, إلا انه يختلف عن موديلات زمانه, كان هدية من أحد الأقارب من خارج العراق, وهو شيء نادر في فترة التسعينيات, وكنت أهم بالخروج من المنزل, فشاهدني تغمده المولى برحمته, فقال لي بلكنته النجفية المحببة”بالخير قميصك الجديد, جميل..هل يعود لإحدى أخواتِك؟!,..فهمت رسالته بكل وضوح.
كنت أقول لنفسي دوما, أني يجب إن اكتب عن الإمام الحسين عليه وعلى اله افضل الصلوات, وعنه شيئا..لكن لم أعرف كيف أكتب, وما سأكتب؟ وهل يمكن اختصار حياة إنسان بمقالة أو قصة, أو حتى كتاب ؟..كيف وكل يوم في حياته نضال وقصة, تحتاج بحد ذاتها لمجلدات؟!.
لم استطع دوما تخيله إلا كالجبل..فيه أجزاء جرداء وفيه أخرى دائمة الخضرة, فيه الصعب التسلق والصخري, وفيه السهل المنبسط.. فيه كل المتناقضات..نعم كالجبل.
جبل تعلمت عند سفحه الكثير من الدروس.