لا مراء في القول بأن غالبية بلدان العالم الثالث ، إن لم تكن معظمها ، ليست بمنأى عن دوامة المشاكل السياسية ، ولا بمنجى من أعاصير الأزمات الاقتصادية ، ولا بعيدة عن أتون التناقضات الاجتماعية . فتلك واقعة لا يماري فيها مطلع ولا يخرق قانونها إلاّ استثناء هنا أو هناك . بيد إن تلك البلدان لا تعاني النمط ذاته من المشاكل ، ولا تكتوي بنيران الأزمات نفسها ، ولا تخضع لإيقاع التناقضات عينها . وذلك توافقا” مع اختلاف واقعها الحضاري ، وتنوع بيئتها الاجتماعية ، وتباين قيمها الرمزية ، وغنى تجاربها التاريخية . فمنها ، على سبيل المثال ، ما برح يستلهم قيم القبيلة ويلتزم حمية العشيرة ويستحضر روابط الجماعات الأولية ، كتعبير عن خصائص هويته ومنظومة معتقداته . ومنها ما ارتأت المزاوجة بين تراث ماضيها القومي واعتقادها الديني وبين مظاهر الحداثة الغربية ومعطيات عقلانيتها للتأكيد على نجاح عملية المثاقفة بين الأصالة والمعاصرة . ومنها من حاولت القفز إلى الأمام باعتماد سياسات حرق المراحل وتقليص الفواصل واختزال الزمن وضغط المسافات ، متأملة تعويض ما فاتها من تقدم وتحقيق ما تعذر عليها بلوغه من طموحات . ولهذا نجد إن متطلبات العصر الملحة وانقلابات الأفكار المدوية وتحولات العالم الخاطفة على مستوى الكوكب كله ، لا تنعكس على بنيتها الحضارية بنفس الدرجة من العمق وذات المدى من الاتساع . كما إن مستويات تكيفها البنيوي مع تلك الانزياحات الكبرى والتغييرات الشاملة ، لا تأخذ طابعا” واحدا” أو نمطا” متشابها”. الأمر الذي يفسر لنا تباين أشكال تعاطيها مع النظريات السياسية الجديدة ، والقوى الاجتماعية الفاعلة ، والعلاقات الاقتصادية المهيمنة ، والبرامج الثقافية المستحدثة . وهذا الواقع لا يقتصر بطبيعة الحال ، على ردود فعل النخب الماسكة زمام السلطات والمستفردة بصنع القرارات ، بل انه يشمل كذلك أطياف المعارضة والمخالفين للنظام بشتى ألوانهم وتعدد مشاربهم ، من حيث تنافر المفاهيم الاجتماعية وتقاطع الرؤى الإيديولوجية وتصادم المواقف السياسية . لاسيما تلك التي تتعلق بعناصر المجتمع السياسي ( الدولة ومؤسساتها والحكومة وأجهزتها ) ونظيره المجتمع المدني ( الأحزاب والمنظمات والجمعيات والنقابات ) ، فضلا” عن مكونات المجتمع الأهلي ( طوائف وعشائر وزوايا وأخويات ) . ولعل وجود هذا التباين واستمرار تلك الاختلافات بين الحقب التاريخية والمراحل الحضارية والأطوار الثقافية والمعايير الرمزية ، التي قطعت أشواطها وانخرطت في اتونها شعوب المعمورة وأممها ، حمل النخب الحاكمة في بلدان العالم الثالث على زيادة تمسكها بالممارسات السياسية ، التي هي من قبيل ( كلام حق يراد به باطل ) كما يقال . إذ لا يختلف اثنان ، في الظاهر على
الأقل ، على ضرورة أن يراعى حق الشعوب باختيار نمط الأنظمة وأشكال الحكومات التي تلائم واقعها الاجتماعي وتناسب تكوينها النفسي وتنسجم مع أعرافها الأخلاقية وقيمها الدينية وتقاليدها الثقافية ، وبالتالي شرعية فرضها للنواهي والممنوعات على كلّ ما يتعارض – من وجهة نظر السلطة المهيمنة – وتلك الخصائص والمميزات . ولأنها أنظمة تفتقر في غالبيتها لأي نوع من أنواع الشرعيات ، سواء أكانت ثورية أو دستورية أو حتى عرفية ، فضلا” عن كونها تجهل بشكل فاضح ألف باء السياسة ، إن من حيث تعاطيها مع متطلبات الشأن الداخلي واحتياجاته المتعاظمة ، أو من حيث تعاملها من محيطها الإقليمي ومجال علاقاتها الدولية المتفاقمة ، نلفاها تمعن في تشددها وتسرف في قسوتها حيال أي خرق أو تجاوز يستهدف حدود محرماتها التي تبدأ من التصرفات العفوية للمواطن في الشارع وتنتهي بالقرارات المصيرية لرجل الدولة . والمشكلة هنا لا ترتبط بالكيفية التي تمارس من خلالها الأنظمة السياسية الموصوفة بالتوتاليتارية ومسوخها من الدكتاتورية والاستبدادية ، تحسبا” لأي طارئ تعتقد أنه يهدد مصالحها ويزعزع استقرارها ويناهض وجودها . فتلك ، على أية حال ، مسألة مفهومة نظريا” ومحسومة عمليا” طالما أنها تؤخذ بمنظار التقاطع بالمصالح والصراع بالارادات . بيد إن الذي يبعث على الحيرة ويثير الاستغراب هي تلك الحالة الفريدة من التماهي والتوحد بين رموز السلطة المتعسفة وبين عموم الناس البسطاء الذين يقع وزر حماقات تلك الرموز وأخطائها فوق رؤوسهم ، وهم بالتالي يدفعون – قبل غيرهم وأكثر من سواهم – باهض الأثمان وفادح التكاليف ، جراء ما يستمرؤون هذه الحالة ويتقبلون مساوئها بسلبية . إذ بقدر (( ما يحط من قدر الإنسان المسحوق ، يحاول المتسلط تضخيم أهميته الذاتية وتفخيم عالمه وانتماءاته وأدواته . ينخرط في عملية استعراض لقدراته على كل صعيد ( ٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌ قوته ، امكاناته ، بطشه ، تقنياته ) ، بشكل يبهر الإنسان المسحوق، ويدخل اليأس في نفسه امكان التصدي والتساوي ))(1) . وعلى وقه هذه الآلية الجهنمية يدخل الحاكم المتسلط في
روع المواطن البائس ؛ إن كل ما يناله من سعادة وكل ما يأتيه من خير ، فهو من مكارم الزعيم وبركات نظامه ، وان كلّ ما يقع عليه من لعنات وكلّ ما يعانيه من منغصات ، إنما هي نتاج سلوكه المنحرف وحصيلة تصرفه الطائش ، ولهذا فالواجب يقتضي أن يطيع أوامر ولي نعمته ويخضع لجبروت معلم حكمته ، لكي ينال رضاه ويحظى برعايته . والاّ فان حياته مرشحة لان تتحول إلى جحيم لا يطاق ، أو سلسلة من الفواجع والمآسي لا تنتهي ، فضلا” عن ضياع مستقبله وخسران كيانه . عند هذا المنعطف التراجيدي تبدأ رحلة التغيير المضنية حيث تتلاشى شخصية الإنسان المحكوم ويضمحل دوره وتهمش قدراته ، متحولا” من( مواطن ) لديه حقوق يرتكز عيها وعليه واجبات يكلف بها ومركز مسؤوليات يسئل عنها ، إلى مجرد ( فرد ) لا حول له ولا قوة مسلوب الإرادة وممسوخ الوعي يجتاف قيم الخنوع والاستكانة ، ويستبطن سيكولوجية الحشود المنقادة بطوبى الايدولوجيات والمسيرة بانفعالية الديماغوجيات . في حين يناظره في الجهة المقابلة شخصية الحاكم / السلطان وقد تأصنم وجوده وتشخصنت سلطته ، بعد أن جرد الخوف الثاوي والرعب المستحكم في مخيال الجماعة آدمية الأول وواقعية الثاني ، محولا” إياهما إلى أساطير تمجّد وآلهة تعبد . ذلك لأن (( وسط هذا الجمهور لا يتحول الفرد إلى شخص ثم إلى شخصية مستقلة ، مميزة ومبدعة ، بل يتحول إلى نسمة أو رقم من أرقام الرعية )) (2) .
والشائع في الأدب السياسي المعاصر إن جميع الأنظمة السياسية التي تمخضت عن تجارب حركات التحرر الوطني والقومي في بلدان العالم الثالث ، أنها توجت جهودها باعتلاء خشبة المسرح السياسي وتبوات صدارة القيادة الحكومية في أوطانها ، على خلفية مواقفها الوطنية وحصيلة نضالها السياسي إبان عهود السيطرة الاستعمارية ، عندما تبنت خيارات الاستقلال عن السيطرة الأجنبية ، والتحرر من عبودية الشركات الاحتكارية ، والإفلات من الاستقطابات الدولية( أحلاف عسكرية وتكتلات إيديولوجية ) ، وتصدرت على ضوء برامجها لائحة التيارات المحلية الطامحة لإقامة أنظمة وطنية تنبثق من بين صفوف الشعب المعني ، وتستمد من خلال تأييده ومؤازرته عوامل ديمومتها ومقومات شرعيتها . وهو الأمر الذي سرعان ما أضفى على قادة الدول ورؤساء الحكومات في تلك البلدان هالة من مظاهر ( الكاريزمية ) التي لم تستحقها في واقع الحال يوما”، تحولت مع مرور الوقت وتعاقب الأحداث – بفضل التأثير السيكولوجي الهائل لوسائل الأعلام المؤدلجة ، فضلا” عن دور المؤسسات الدينية والتعليمية التابعة – إلى مصاف العبادة الشخصية . حيث القائد الرمز يغدو فوق القانون وأهم من الدولة وأسمى من الوطن وأعظم من الشعب وأبقى من التاريخ ، لاسيما وأن علاقة الغالبية العظمى من الشعوب المستعمرة بمضامين الوعي السياسي ومناهج التحليل الاجتماعي كانت بالكاد – ولا تزال – متيسرة للقلة إن لم تكن شبه معدومة أصلا” . ليس لأنها جبلت على صفات الجهل الثقافي والبلادة المعرفية وقلة الاكتراث السياسي – كما يحاول البعض الإيحاء بذلك – بل لأن الأنظمة السياسية التي تحكمت بمصائرها ( = الشعوب ) وأمعنت في إذلالها طيلة عقود من القمع السياسي والتجويع الاقتصادي والترويع النفسي ، أسهمت في تمزيق وحدتها الوطنية وتفكيك أواصرها الاجتماعية وتعميق انقساماتها العصبوية وتشديد غربتها النفسية ، وجعلت منها ، بالتالي ، أسيرة لحاجاتها الأولية المباشرة لا تهتم إلا بتأمين ظروف معيشتها ، ولا تسعى إلاّ لتعزيز أوضاع أمنها ، ولا تبغي سوى الحفاظ على شروط بقائها . ولهذا فمن الواضح – كما يقول الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش – (( انه كلما كان أمن الفرد موضع خطر كلما مباشرة كان وجوده مهددا”، صارت سهولة التصديق أكبر وانتظار العجيبة أشد (3)
والحال إن مفهوم المواطنة يفقد دلالته السياسية وتضمحل قيمته الحضارية وتتلاشى عناصره المعيارية في إطار المجتمعات التي تحكمها فوضى المزاجية الفردية المتسلطة بدلا” من ضوابط القانون الوضعي القائم على مرتكزات العدل والمساواة ، وتسيرها الولاءات الفرعية والانتماءات الجانبية بدلا” من الجامعة الوطنية والرابطة القومية ، وتكبل تفكيرها الخرافات العنصرية والأساطير الطائفية بدلا” من العقلانية الفكرية والواقعية الاجتماعية ، وتستعين بنخوة العشيرة وسطوة المذهب بدلا” من الاحتكام إلى دستور الدولة ونظام المؤسسات . إذ إن المواطن – كما يقول المفكر برهان غليون – (( ليس مقولة مجسدة بالفطرة في الطبيعة والمجتمعات الطبيعية . ولكنها فكرة سياسية لابد لتجسيدها من تربية جماعية : هي السياسة نفسها بوصفها ممارسة للحرية ؛ ومن تربية فردية : هي التهذيب الأخلاقي بما يشمل من تكوين للقيم الأساسية والضمير الفردي . ولذلك فان فكرة المواطنة ، أي الإيمان بأن من الممكن المراهنة على الحرية كمطلب ورصيد معنوي وسياسي معا” في تغيير قواعد العمل والتضامن والتواصل الجمعي ، والمراهنة كذلك على الفرد كمركز استثمار ممكن لرصيد الحرية هذا ، وللقيم العقلية النفسية والمادية المرتبطة بها ، تشكل جوهر السياسة الحديثة ومفتاحها الحقيقي )) (4) . وحين يروج المستشرق العنصري ( برنارد لويس ) لأطروحة انه (( لا توجد كلمة مواطن في اللغات العربية والفارسية والتركية ، وإنما يوجد مصطلح مقابل لها يستخدم في كل منها بمعنى ابن البلد ، وهي كلمة تخلو بدرجة كبيرة من أية مضامين أو إيحاءات لكلمة مواطن الإنكليزية التي تنحدر من أصول لاتينية وإغريقية بمعنى الفرد الذي يشارك في الشؤون المدنية . إن سبب غياب كلمة ( مواطن ) في اللغة العربية واللغات الأخرى يرجع إلى غياب فكرة المواطن كمشارك وفكرة المواطنة كعملية مشاركة )) (5) ، إنما يحاول ، من جهة ، أن يسدل ستار النسيان على مظاهر الشخصنة التي لامست عواقبها بنى المجتمع السياسي الأوربي قبل أن تنتقل عدواها إلى مجتمعات العالم الثالث بعدة قرون . وذلك عندما أعلن ملك فرنسا ( لويس الرابع عشر ) مقولته الشهيرة ( الدولة هي أنا ) ، وشاطره الادعاء ذاته إمبراطور ألمانيا ( فردريك الثاني ) حين قال ( أنا الدولة ) (6). وتناسى ، من جهة أخرى ، إن الفكر السياسي الغربي الذي يتعاطى اليوم بكل عمقه المعرفي وثقله الحضاري مفهوم المواطنة وكأنه معطى بيولوجي أو خاصية غريزية نقشت في كينونة الإنسان الأوربي ، لم يكن له في السابق ذات المعنى السياسي الذي صار له وانتهى إليه ، مع الأخذ بنظر الاعتبار غنى الإسهامات المتقدمة للفكر السياسي الإغريقي في هذا المجال (7) ، ناهيك عن المحتوى القانوني والمقصد الأخلاقي والمضمون الاجتماعي الذي أسبغ عليه لاحقا” إلاّ عقب تصّرم تاريخ دام من الصراعات الدينية والحروب السياسية التي استعر لضاها بين الأقوام والطوائف التي سكنت ذلك الجزء من العالم ، حيث أفاض بشرح تفاصيلها الدامية وإماطة اللثام عن فضاعاتها كبار المؤرخين والمفكرين الغربيين أنفسهم ، لاسيما أولئك الذين تحروا الصدق انتهجوا الموضوعية في كتاباتهم . فقد جاء في أحد مصنفات العالم السوسيولوجي ( روبرت م . ماكيفر ) ما يدعم هذا الرأي بقوله : (( إن تنوع الشيع الدينية ما لبث أن أذكى الفتن فيما بينها . واستمرت هذه الفتن ، وبلغت حدا” من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ، ولو ببطء وتردد ، إن يتجاوزوا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة ، وان يسلموا بمبدأ آخر ، وهو إن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول
دون الانتساب لمواطنة مشتركة . وأصبح هذا المبدأ فيما بعد حجر الزاوية للمذهب الديمقراطي في أوربا الغربية))(8) . من جانبه فقد حدّد الباحث الخليجي ( علي خليفة الكواري ) طبيعة المرحلة التاريخية التي سمحت لمفهوم المواطنة بالظهور على المستوى الفكري والتداول في الحقل السياسي ، مشخصا” نمط الظروف التي ساعدت على ابرازمعالمه ومن ثم شيوع استخدامه حين قال : (( يعود تاريخ إبداع مبدأ المواطنة في أوربا – بعد اكتشافه – إلى بداية ظهور الفكر السياسي العقلاني التجريبي وتزايد تأثيره نتيجة حركات الإصلاح الديني وما تلاها من حركات النهضة والتنوير في الحياة السياسية )) (9) . الأمر الذي يسوقنا للاعتقاد بأن مسألة غياب المفهوم عن مجتمعات العالم الثالث ( والعالم العربي والإسلامي ضمنا”) ، فضلا” عن ضعف الدافعية السياسية للفاعلين الاجتماعيين من استبطان معناه واستثمار مدلوله وتوسيع مداه من جهة ، وتأصيل وجوده وترسيخ قيمه وتعزيز مردوده ، بفضل الاشتغال على ما يتيحه من فضاءات والاهتمام بما يقدمه من خيارات ، وذلك من قبل أطراف العملية السياسية في المجتمعات الغربية كافة من جهة أخرى . لا تتعدى نطاق النسبية الحضارية المتعلقة بالإشكالات التاريخية والملابسات السياسية والمداخلات الرمزية التي شهدتها العلاقات ما بين الشرق والغرب ؛ ابتداء من الفترة التي أرخت لانتقال زخم المبادرة العلمية والفكرية من عوالم الحضارات القديمة في ( بابل ومصر والصين والهند ) إلى عوالم الحضارات الجديدة في ( أوربا وأمريكا الشمالية ) وانتهاء باللحظة المسماة في الأدب السياسي ( بالصدمة الاستعمارية ) ، حيث باتت شعوب البلدان المستنفدة حضاريا” والمستنزفة علميا” والمستعبدة اقتصاديا” والمستتبعه سياسيا” ، مسرحا” لعمليات النهب والسلب والتخريب من لدن الدول ( المتمدنة أو المتحضرة بحسب التوصيف الغربي المتحمور حول صيغة المركزية الأوربية ) ، ليس فقط على مستوى البنى المادية والطبيعية والبشرية فحسب ، بل والأخطر من ذلك على مستوى الوعي والهوية والذاكرة . وهذا ما سوف يتيح لأنظمة ( القمع الوطني )(10) فرصة التحرك والمبادرة لاستثمار هذه الحالة / الوضعية باتجاهين ؛ الأول انشغلت من خلاله بتكريس وترسيخ ذلك النمط من الشخصية المستلبة إنسانيا”والمفتقرة اجتماعيا” لأي من صفات المواطنة ، من حيث كونها تعتمد على مبادئ المشاركة الفعالة والاندماج المثمر في المجتمع الذي أصبح يدار على وفق القواعد القانونية والآليات المؤسساتية . أما الاتجاه الثاني الذي سلكته تلك الأنظمة لتبرير خياناتها وتسويغ انحرافاتها فقد تمظهر باستمرار تعلّلها بأن أسباب حرمان الفرد وتاليا” المجتمع المحلي من حقوقه وانتهاك إنسانيته والتفريط بكرامته ما هو إلاّ نتاج تدخلات الدول الاستعمارية ومحاولاتها الرامية للإبقاء على مظاهر الاختلال في موازين القوى بينها وبين الدول المستعمرة ، بحيث تبقى عناصر القوة وقدرات الفعل رهن بإرادتها وطوع بنانها . مع التشديد على زيادة مؤشرات الانحراف القيمي في العلاقات الدولية التي أضحى مركز الثقل فيها يميل لصالح الأولى . بالإضافة إلى تعميق مسار التفاوت المادي والمعنوي في معدلات التنمية البشرية ، بما يجعل من ظواهر التبلد السياسي والتذرر الاجتماعي والتخلف الاقتصادي والنكوص النفسي والتأخر العلمي والجهل الثقافي بمثابة قدر مصيري للثانية ولعنة أبدية وقعت عليها لا فكاك عنها ولا خلاص منها .
ولما كان مفهوم المواطنة يستدعي معنى المشاركة في عقلنة الحياة الاجتماعية ، ويستحضر قيمة الشعور بالمسؤولية ، ويستلزم تنمية العلاقات التواصلية ، ويتطلب تشجيع الحوارات التداولية ، فان إدراك الأنظمة السياسية التي تأصنمت قياداتها وتشخصنت مؤسساتها وتأقنمت رموزها ذهب باتجاه المعنى الذي يفيد التشارك في ميزة الحصول على جنسية الإقليم الجغرافي للدولة والانضواء الكامل تحت سلطتها ، الأمر الذي يفسر هوس تلك الأنظمة بالتشدد حيال مفهوم السيادة(الوطنية) الذي أخذ في خطابها التعبوي أبعادا” أسطورية ، دون أن يكون له مضمون سياسي ومحتوى اجتماعي ، يعبر عن طبيعة الاجتماع المدني لأفراد المجتمع المعني ويعكس نمط علاقاتهم الحضارية ويجسد صلاتهم الإنسانية التي تفعّل نشاطهم في الحقل السياسي وتؤطر تفاعلهم في المحيط الاجتماعي . ولهذا فان المعلم الأول ( أرسطو ) على صواب حين قال في كتابه السياسة : (( لا يكون المرء مواطنا” بفضل الإقامة في المكان فحسب ، وذلك لأن الأجانب والعبيد يشاركون في الإقامة أيضا” مع المواطنين . لكنهم ليسوا مواطنين .. لاشئ يعطي المواطن صفة المواطنة الكاملة إلا المشاركة في الأمور التشريعية والتنفيذية))(11 ) . وهنا لابد من الإشارة إلى أن مفهوم المواطنة الذي يعنيه ( أرسطو ) لا يدخل ، برغم مدلوله السياسي الواضح ، حيز المعنى الذي نعطيه له في الوقت الحاضر ، مثلما يتداوله علماء السياسة والقانون والاجتماع في دراساتهم وأبحاثهم المعاصرة . إذ إن مفهوم المواطن في العرف الإغريقي القديم لم يكن يشمل من تنطبق عليهم صفة الأجانب والغرباء الذين يقيمون في حدود دولة / المدينة فقط ، بل انه كان يطال أيضا” المواطنين من العبيد والمعدمين الذين كانوا يفتقرون لأية حقوق سياسية أو اجتماعية أو قانونية أو حتى إنسانية . ذلك لأن (( الاثينيين وحدهم هم الذين أتيح لهم الوقت لممارسة حقوقهم السياسية لأنهم كانوا يعتمدون على العبيد
في قضاء شئونهم ، وبهذا كانت الديمقراطية في الحقيقة عالة على العبيد )) (12) . من جانبه فقد أكد العالم السوسيولوجي ( روبرت ماكيفر ) هذه الحقيقة بشئ من الوضوح والموضوعية حين كتب يقول : (( لم تكن أثينا – على صغرها – تسمح لجميع سكانها في المشاركة في حكم المدينة . بل كانت تحصر المواطنية بالأحرار ، وتحرم منها العبيد والمقيمين الأجانب . ولم يكن في أتيكا كلها في عهد بريكليس أكثر من أربعين ألفا”. وكان العبيد ثلاثة أضعاف الأحرار . وكان هناك آلاف من المقيمين الأجانب تحظر عليهم القوانين المفروضة المشاركة في حكم المدينة . فلم يبق من المشاركين في اجتماعات هيئة المواطنين أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف )) (13) .
والحقيقة إن داء الشخصنة ظاهرة لا تقتصر عواقبها فقط على أنواع الأنظمة الدكتاتورية في بلدان العالم الثالث ، التي أسهمت جديا” بتأخر نمو مفهوم المواطنة وأعاقت نضوج مناقبه لا في الوعي الاجتماعي الذي استمر متخلفا” ولا في الممارسة السياسية التي بقيت مشوهة فحسب ، بل إنه أتستهدف في غالب الأحيان رموز المجتمع المدني ( زعماء الأحزاب وقادة المنظمات ورؤساء النقابات ) ، وشخصيات المجتمع الأهلي ( شيوخ عشائر ومراجع دينية ) ، فضلا” عن العقائد والفكرويات ( النظريات والإيديولوجيات ) ، (( الأمر الذي غيّب عن الواقع وأبعد عن الذهن ضرورة الحديث عن مفهوم المواطنة وأهميته في بناء وعي حضاري إنساني يسهم في تجاوز المجتمع العضوي إلى المجتمع المدني والحق المطلق إلى حقوق الإنسان )) (14) . بحيث أصبح الحديث عن ضرورات التجارب الديمقراطية لشعوب هذه البلدان وما يستتبعها من ممارسات إنسانية وما يستوجبه من مؤسسات عقلانية ، فضلا” عن القيم والمعايير الأخلاقية التي تؤكد على قيمة الفرد كإنسان له الحق في أن يمارس حقوقه ويحفظ وجوده ويصون مصيره ويبني مستقبله ، بصرف النظر عن أصوله الاجتماعية ومعتقداته الفكرية وانتماءاته الدينية وقدراته الاقتصادية وخياراته السياسية . نقول أصبح الحديث عن ضرورات الديمقراطية وتسويغ الدعوة لها ، كأنه من أحاديث الخيال العلمي أو أساطير ألف ليلة وليلة . واليوم بعد أن طوت شعوب العالم المتمدن صفحات ماضيها المضمخ بالمآسي والآلام ، وتجاوزت عقبات تجاربها الفاشلة وأخطاء ممارساتها المخجلة في مضمار حقوق الإنسان وإعلاء شأنه وحفظ كرامته ، وأضحت تجربتها الديمقراطية بمثابة منشطات حضارية لحفز الشعوب الموؤدة حقوقها والمستباحة كرامتها ، على الخروج من سباتها والنهوض من كبوتها والتخلص من عبوديتها ، والأخذ من ثم بأسباب التطور المادي والعمران البشري والتقدم العلمي ، والاندراج في أتون العطاء الفكري والمساهمة الحضارية ، وذلك عبر التأكيد على قيمة الإنسان / المواطن كمعيار أساسي للبناء الوطني والتقدم الاجتماعي والمشاركة السياسية . من حيث إن (( المواطنة لا توجد بالطبع والسليقة ، ولا تحدث قدرا” واعتباطا” ، ولا تمنح منحا” من مصدر خارجي ، بل تكتسب اكتسابا” شأن قيم الحياة الأخرى – بمقدار ما يبذله أبناء المجتمع من أجلها وبمبلغ إقبالهم على التضحية بمصالحهم وبولاءاتهم الأخرى في سبيل ولائهم الوطني المشترك . وكلما كان هذا الإقبال أقوى وأفعل ، كانت الحياة الوطنية أصح وأسلم ، ومعنى الوطن والوطنية أصفى وأتم وأكمل )) (15) . وبهذا تتجلى حكمة أن تكون قنوات النظام السياسي مفتوحة أمام الخيارات الاجتماعية التي تعمل وفقا” لآلية المصلحة العامة وأهدافها المشتركة ، وأن يصار إلى تشجيع الفرد / المواطن للانخراط بالفعاليات السياسية والقيام بالنشاطات الاجتماعية والاندغام بالعلاقات الإنسانية ، بما يثري مواهبه ويعزز هيبته ويصون حريته ، باعتباره مصدر شرعية السلطة وقاعدة استقرار الدولة وفاعل تطور المجتمع . وعليه فقد وجد مدير مركز أكسفورد لدراسات الطاقة في بريطانيا ( روبرت مابرو ) انه من (( الصعب أن يحدد الإنسان مفهوم المواطن أو التابع من دون الإشارة إلى نظام الحكم ، فلو كان نظام الحكم دكتاتوريا” مثلا” أو إمبرياليا” ، لن يبقى المواطن مواطنا” في الحقيقة ، وسيبقى تابعا” أو من الرعايا )) (16) ، بحيث لا يجرؤ على إشهار مواقفه والتعبير عن أفكاره والذود عن حقوقه والدفاع عن مصالحه . إذ من شأن ذلك أن يعدّ من الكبائر السياسية التي لا مجال للتهاون حيالها ، والتجاوز على أصنام السلطة والخروج على طاعة السلطان . فما كان قد ابتدع بفعل الإرادة الإنسانية الحرة لأجل الوفاء بحاجاتها والاستجابة لتطلعاتها والكشف عن طاقاتها ، أصبح قيدا” لها ورقيبا” عليها ، لا تحسن ، بفضل تأثيره السلبي وانعكاساته المدمرة ، التعامل مع الواقع الاجتماعي الذي وجدت من أجله ، ولا تجيد فن التواصل الإنساني الذي سعت في سبيله . وإذن فان (( مسألة المواطنية تعني البناء الحرّ الإرادي لتنظيم مجتمعي يدمج بين وحدة القانون وتنوّع المصالح واحترام الحقوق الأساسية . وبدلا” من المماهاة بين المجتمع والأمة كما حصل في أوج لحظات الاستقلال الأمريكي أو الثورة الفرنسية ، تضفي فكرة المواطنية على فكرة الديمقراطية معنى عينيا”ملموسا”: إنها بناء المجال السياسي بمعناه الفعلي ، بحيث لا يكون دوليّا” ولا سوقيّا”))(17) .
الهوامش والمصادر:
(1) الدكتور مصطفى حجازي ؛ التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ( بيروت ، معهد
الإنماء العربي ، 1976 ) ، ص192 .
(2) الدكتور خليل أحمد خليل ؛ سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر( بيروت ،
المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2005 ) ، ص21 .
(3) جورج لوكاش ؛ تحطيم العقل ، ترجمة الياس مرقص ( بيروت ، دار الحقيقة ، 1980 ) الجزء الأول ، ص68
(4) الدكتور برهان غليون ؛ نقد السياسة : الدولة والدين ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2004 ) ، ص166 .
(5) عبد الوهاب الأفندي ؛ إعادة النظر في المفهوم التقليدي للجماعة السياسية في الإسلام : مسلم أم مواطن . ضمن كتاب : المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية ، المحرر علي خليفة الكواري ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2001 ) ، ص55 .
(6) جان توشار وآخرون ؛ تاريخ الفكر السياسي ، ترجمة الدكتور علي مقلد ( بيروت ، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع ، 1981 ) ، ص274 .
(7) يشير أستاذ الحقوق في جامعة ليون ( روبير بيلّو ) إلى طبيعة النقلة التاريخية التي حصلت بين دولة / المدينة اليونانية وبين الدولة / القومية في العصر الحديث ، حيث جعلت هذه الأخيرة من مفهوم المواطنة واقعة سياسية / قانونية قابلة للتداول في حقل العلوم الإنسانية ، بعد أن ترتبت عليه جملة من التحديدات المقبولة والالتزامات المتبادلة بين الحكّام والمحكومين بقوله ان : (( المواطن يساهم بشكل ما في إعداد القانون ، في حين يكتفي الفرد بمجرد الانصياع له . وقد ترسخ هذا التضاد في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر لما أفسحت الملكيات الدستورية المجال لنظم أكثر تحررا” وشرّعت الديمقراطية . وهكذا يبدو ان مفهوم المواطن مرتبطا” بمفهومي الدولة – بعد أن حلت محل المدينة – والحرية )) . للمزيد يمكن مراجعة كتابه الموسوم : المواطن والدولة ، ترجمة نهاد رضا ( بيروت ، منشورات عويدات ، 1983 ) ، ص10 .
(8) روبرت . م ماكيفر ؛ تكوين الدولة ، ترجمة الدكتور حسن صعب ( بيروت ، دار العلم للملايين ، 1966 ) ص229 .
(9) الدكتور علي خليفة الكواري ؛ مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية ، مصدر سابق ، ص23 .
(10) وجدنا من المناسب استخدام هذا المصطلح للدلالة على تلك الأنظمة التي استفحل داء الطغيان في سلوكها ، واستمرأت سياسة التنكيل بشعوبها ، للحد الذي سامتها – باسم المصالح الوطنية العليا وتحت يافطة ضرورات الأمن القومي – شتى صنوف القهر السياسي والحرمان الاقتصادي والكبت النفسي والتجهيل الثقافي بحيث جعلت من الأوطان المبتلاة بمثابة سجون واسعة للشعوب وقواعد متوثبة للحروب .
(11) أرسطو طاليس ؛ كتاب السياسة ، ترجمة أحمد لطفي السيد ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1979 ) ، سلسة نصوص فلسفية (1) ، ص 182 .
(12) أ . م جونز ؛ الديمقراطية الاثينية ، ترجمة الدكتور عبد المجسن الخشاب ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1979 ) ، ص9 . من جانبه فقد أشار الأستاذ ( روبير بيلّو ) إلى انه في (( روما كما في أثينا لا يتمتع كل السكان بصفة المواطنين )) . المصدر السابق ، ص10 .
(13) روبرت ماكيفر ؛ المصدر السابق ، ص208 .
(14) هيثم مناع ؛ المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي ( القاهرة ، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ، 1997 ) ، ص68 .
(15) الدكتور قسطنطين زريق ؛ الأعمال الكاملة (4) مج ( بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ، 1994) المجلد الثالث ، ص 638 – 639 .
(16) ورد ضمن المناقشات التي تضمنها كتاب : مفهوم المواطنة ، مصدر سابق ، ص 157 .
(17) آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي (بيروت ، دار الساقي ، 2001 ) ، ص99 .