كثيرا” ما أسئ فهم مغزى الوعي الديمقراطي من منظور سوسيولوجي ، كما وأحيط بنوع من التصورات الدوغمائية الفجة وألبس بنمط من التوقعات التبسيطية المبتسرة ، التي لا تنظر إليه إلاّ كمرحلة تمهيدية تستبق عمليات التطبيق الفعلي والتجربة الحية للخيار الديمقراطي في مجال عقلنة ممارسات السلطة وتقنين آليات تداولها لاسيما تشبث البعض بمعايير (الأكثرية) أو (الأقلية) ، تمييزا”له عما سواه من المعايير الأخرى الرائجة في أدب السياسة الرخيص وسوق الشعارات المفبركة(1) . بمعنى انه لا يخرج عن كونه موقف إجرائي / عملي يلزم الأطراف المنخرطة بالعملية السياسية على مراعاة قاعدة التساكن في الرأي والتوازن في القوى والتجانس في القيم والتواصل في العلاقات . بحيث يغدو المجتمع أشبه بالمومياء التي لا صلة لها بالواقع سوى إنها تشهد على جفاف نسغه وفقدان حيويته وانعدام أفقه وتلاشي قدراته .
والحقيقة أن ما شهدته الشعوب من أنظمة سياسية ، وما خضعت له من تجارب اجتماعية ، وما تعرضت له من وقائع تاريخية ، وما اجترحته من ممارسات ثقافية ، أثبتت بما لا يدع مجالا” للشك بأن القيم الديمقراطية وأن كانت في المحصلة النهائية ، تتوخى بلوغ الوحدة بين عناصر الواقع الاجتماعي والانسجام بين خصوصيات قواه الفاعلة إلاّ أنها لن تنجح في تحقيق ذلك إلاّ عبر الحرص على مظاهر التنوع ، والإبقاء على معطيات الاختلاف ، والحفاظ على فسيفساء التعددية ، طالما (( ان الذهنية الديمقراطية تقوم على هذا الوعي بالارتباط المتبادل بين الوحدة والتنوع ، وتغتذي من السجال الدائم الذي يدور حول الحدود الفاصلة بينهما رغم حركيتها الدائمة ، وحول أفضل الوسائل الآيلة إلى تعزيز ارتباطهما ))(2) . ولهذا فالنظام الديمقراطي لا يفترض مسبقا” – بحسب منطلقاته العقلانية وتوجهاته الواقعية – حصول تشابه في الآراء ، وتوحد في المواقف ، وتمازج في المصالح ، إزاء شكل النظام السياسي المقترح إقامته ، أو اختيار الطريقة المثلى لإدارة الشؤون العامة وتحقيق المصالح المشتركة . والاّ لنتفت الحاجة إليه وأشيح النظر عنه ، طالما أنه يشتمل على مبدأ التعددية بكل أنواعها وأبعادها ، دون أن يتوقف عنده ويكتفي بصيغته المجردة . إذ من شأن ذلك ليس فقط إعاقة تنفيذ الخطط المرسومة وإفشال البرامج الموضوعة لأجل الشروع بعمليات التحويل الاجتماعي بكل حقوله ومختلف مساراته ، كما حصل ويحصل مع النظم التوتاليتارية فحسب ، بل ويفضي إلى مصادرة حق التكوينات الأخرى في إثبات هويتها الحضارية وتفعيل دورها السياسي وتأكيد تميزها الثقافي . الأمر الذي يتعارض جذريا” مع سياسات تلك الأنظمة في مساعيها الرامية إلى تدجين الإنسان وتسطيح وعيه وتنميط سلوكه وتأطير علاقاته ، ومن ثم جعله في نهاية المطاف أشبه ما يكون بالإنسان ( ذو البعد الواحد )(3) حيث لا يستطيع التفكير إلاّ بوسائل تلبية حاجاته الغريزية ، ويخشى طرح الأسئلة التي تتعلق بمصيره ومستقبل أجياله ، وبالتالي لا يقوى على مواجهة قمع جلاديه ومقاومة طغيانهم . الشئ الذي يفسر لنا تفجر حالات الاضطراب السياسي والتشظي الاجتماعي والتعصب الإيديولوجي والتطرف الديني ، التي ما برحت حرائقها تتسع في كل مكان لتوقع المزيد من الضحايا والأبرياء من الأفراد والجماعات على حدّ سواء . وهنا تأتي ملاحظة المفكر الليبرالي (جون ستيوارت ميل ) في محلها حين كتب يقول ان (( الشّر الكبير ليس الصراع العنيف بين أجزاء الحقيقة ، بل كبت نصفها في هدوء . ان هناك دائما” أملا” عندما يضطر الناس إلى الاستماع للجانبين ، لكن عندما لا يسمعون سوى جانب واحد تجمّد الأخطاء وتتحول إلى تحيّز ولا يعود للحقيقة نفسها أثر كحقيقة بالمبالغة فيها وتحويلها إلى باطل ))(4) .
والآن بعد أن استطلعنا تخوم الوعي الديمقراطي في خضم حراك الواقع ، وتآلفنا مع مضامينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في ميادين التجربة ، حريّ بنا ونحن نفاضل في إطار هذا الدرس بين نتائج واحدية الرأي السياسي للنظام وتعددية المعتقد الفكري للمجتمع ، العودة مجددا” لاستخلاص ماهية العواقب التي يمكن أن تنجم حين يصار إلى تغليب اشتراطات الخيار الأول ( واحدية الرأي ) ، أو ما يسميه (موريس دوفرجييه) أستاذ العلوم السياسية بجامعات فرنسا ( بالتثاقف الأحادي )(5) الذي يتميز بدرجة ضعيفة جدا” من التنوع . أو بالعكس تبني مواصفات الخيار الثاني ( تعددية المعتقد ) ، أو ما يطلق عليه ذات الأستاذ ( بالتثاقف التعددي )(6) حيث يسمح رسميا” بوجود سائر المعتقدات والإيديولوجيات . آخذين بنظر الاعتبار ما آلت إليه حصائل كلّ منهما على صعيد التطبيق العملي والممارسة الواقعية ، لاسيما بعد أن تغير مدلول المفاهيم وتبدلت معطيات الوقائع ، في ضوء ما شهده العالم من تحولات سياسية وانزياحات فكرية واستقطابات استراتيجية ، قلبت موازين القوى وأخلت بتوازن العلاقات .
وبادئ ذي بدء فأن ما نعنيه بالرأي هنا يندرج ضمن خانة الحقل السياسي تحديدا” ، وليس له علاقة ببقية الحقول الأخرى ، بحيث يفهم منه مباشرة التعبير عن إرادة الحاكم / السلطان ، حين ينفرد بامتلاك سلطة القرار ، أو وجهة نظر القوى المهيمنة حين تستحوذ على مقاليد النظام ، لاعتماد أساليب معينة في قيادة دفة المجتمع ، والاحتكام لآليات مخصوصة في تسيير شؤون الحكم ، بصرف النظر طبعا” عن رضا وقبول البقية من مكونات ذلك المجتمع وخلافا” لحقوقها الطبيعية والوضعية المشروعة ، مما يستتبع – عاجلا” أم آجلا” – ولادة مسوخ الأنظمة التوتاليتارية ، والسماح لقيم العنف الاجتماعي والمغالبة السياسية بالتناسل والانتشار على خلفية استشراء مظاهر القمع والطغيان . هذا من جانب ، أما من الجانب الآخر ، فأن ما نقصده بالمعتقد لا يخرج عن كونه المعيار الذي من خلاله يتم التمييز بين الناس وتوصيفهم من حيث ؛ نسق المعرفة الذي يستبطنونه ، وبنية الوعي التي ينتظمون داخلها ، سواء أكانت علمية / عقلانية ، أو خيالية / أسطورية ، أو وضعية / برغماتية . بمعنى أنه يشير إلى أنماط إيمانهم بدين معين ، أو انتمائهم لطائفة محددة ، أو تبنيهم لإيديولوجية مميزة . بحيث لا يمكن إسقاط ما لهم من خصائص وتجاهل ما يضمرونه من اختلافات ، وإهمال ما بينهم من تفاعلات ، وبالتالي تجريدهم من تنوعهم وحشرهم في خانة واحدة ووضعهم تحت المظلة ذاتها ، بزعم ان كلّ أبناء ( الشعب ) هم مع القائد أو النظام أو السلطة بنسبة مئة بالمئة . ولكي يصبح الوعي الديمقراطي قاعدة صلبة للسلوك السياسي وأرضية صالحة لاستمرار العلاقات الإنسانية المتكافئة على نحو يتيح للأطراف كلها ، ضمن الإطار الجغرافي الواحد ، والمصير التاريخي المشترك ، والنسيج الاجتماعي المتكامل ، والبناء النفسي المتناغم ، فان الكشف عن الخصائص القومية والمعتقدات الدينية والرموز الثقافية ، فضلا” عن الولاءات الوطنية ، دون إكراه سياسي أو تمييز اثني أو اضطهاد اجتماعي أو احتواء فكري ، لا يغدو ممكنا” تحقيق مطلبه وبلوغ مأربه ، ما لم يظهر الجميع نبذهم لأية صيغة من صيغ الانضواء تحت سلطة الرأي الأوحد / الشامل ، كائنة ما كانت الجهة التي تمثله أو تقف وراءه ، سواء أكان رأي فرد أو طبقة أو حزب أو عشيرة أو طائفة من جهة ، ويعلنوا ، من جهة أخرى ، تمسكهم بالفكرة الديمقراطية وجدية سعيهم لشيوع قيمها على وفق مبادئ التعددية بكل أنواعها وألوانها ، وإيمانهم بالتعايش مر حقيقة وجود الاختلاف بين الذات والآخر ، وقبولهم باحتضان ظاهرة الرأي والرأي المعارض ، وتوافقهم على صيغة التداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة الوطنية . ذلك لأن الوعي الديمقراطي (( لا يسعه أن يبقى اليوم على قيد الحياة إلاّ انطلاقا” من رفضه لهذه الأجوبة الأحادية . فإذا لم يكن الإنسان إلاّ مواطنا” ، أو لم يكن المواطن إلاّ عاملا” من عوامل مبدأ كلي جامع ، فأنه لا يعود ثمة مكان للحرية ، بل تصبح بمثابة المقضي عليها باسم العقل أو باسم التاريخ ))(7) .
ولعل البعض يعتقد – وهو محق في ذلك – ان الشرط التاريخي الذي أتاح للمجتمعات الغربية ولوج مفازات مثل هذه التجارب الفريدة من التعددية الفكرية والتداول السياسي والتسامح الديني والحراك الاجتماعي والانفتاح الثقافي ، يكاد أن يكون – ان لم يكن كذلك بالفعل – معدوما” لدى مجتمعات بلدان العالم الثالث التي لم تنعم غالبيتها بعد بعوامل التوحد القومي وتبلور وعيها السياسي ، مثلما حضيت به وتمكنت منه نظيرتها الغربية ، بعد أن أسدلت على قرون صراعاتها الدينية وحروبها السياسية ستار فلسفة الأنوار وحجاب الحداثة العقلانية . وهو الأمر الذي يجعل من الدعوة إلى شيوع مثل التعددية وقيم التنوع ، في غير فضائها الفكري وخارج سياقها التاريخي ، يبدو بمثابة الإعلان عن ضياع الوحدة الوطنية وتفكيك أواصر اللحمة الاجتماعية ، وبالتالي التفريط مجددا” بالاستقلال السياسي وتشديد التبعية لضواري النهب والاستغلال الاقتصادي ، حيث العودة إلى حضيرة الاستعمار والدوران في أفلاكه . ولهذا – من وجهة نظر ذلك البعض – فان التأكيد على فكرة الواحدية المركزية في إطار تلك المجتمعات المتنوعة اثنيا” والمختلفة ثقافيا” والمتباينة دينيا” من جهة ، وحملها على الانصهار في بوتقة الدولة التسلطية بزعم أنها ( وطنية ) ، ودفعها للتماهي مع النظام السياسي القمعي بحجة أنه ( قومي / تقدمي ) أو ( ثوري / اشتراكي ) من جهة أخرى ، لا يعدّ فقط خطوة سياسية بالاتجاه الصحيح فحسب ، بل ويعتبر موقف استراتيجي/ وطني حكيم . بدلا” من إفسادها بالادعاءات الديمقراطية المزيفة وإغراءها بالوعود الليبرالية الكاذبة ، عبر التلويح لها بشعارات التعددية الثقافية ، والإيحاء لها بحسنات الخصوصية القومية ، التي سوف تمزق وحدتها وتفرق شملها وتضعف ولائها وتهدر طاقاتها ، طالما أنها لم تستكمل بعد عناصر نهضتها الاقتصادية ، ولم تستوف بعد مقومات تقدمها الاجتماعي ، ولم تستوعب بعد شروط عمرانها الحضاري . ويلتقي هذا التفكير النابع – كما يؤكد المفكر برهان غليون (( من الحرص على حد أدنى من الانسجام الداخلي الوطني مع النخب الحاكمة التي تعتقد ان الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية ومنع التدخل الأجنبي .. كلّ ذلك لن يكون ممكنا” من دون تقييد حرية الرأي والتعبير والحدّ من الحريات السياسية والتنظيمية ، بل ومن دون فرض الأحكام العرفية ))(8) .
والواقع ان التفكير على هذا المنوال لا يعمق فحسب الفجوة الحضارية ويرسّخ القطيعة المعرفية الموجود أصلا” بين مجتمعات البلدان ذات التوجه التعددي وبين نظيرها من ذوات التوجه الواحدي ، على خلفية تعارض نظمها
السياسية ، وتقاطع قيمها الاجتماعية ، وتخالف أنماطها الثقافية . بل انه سيضاعف من تأثير عوامل تخلّف هذه الأخيرة ويرفع معدلات تأخرها ويزيد حدة صراعاتها كذلك . وعلى ما يبدو فأن ما ينهله هذا المنطلق السياسي القاصر من مضامين فكرية وما يمتحه من تصورات فلسفية ، له علاقة نسب – وان بصورة غير مباشرة – مع ما بات يطرحه خطاب العولمة الكوزموبولوتي من تسويغ نظري مبالغ فيه لظواهر انحسار الحدود الجغرافية واندثار التمايزات الثقافية وتقليص الفوارق القيمية بين شعوب العالم المتنوعة ، بحيث لم يعد مجديا” التشبث لا بالخصائص الانثروبولوجية الموجود في صلب أعراقها وسلالاتها ، ولا بالفواصل الحضارية والمرجعيات الرمزية التي تتيح للباحث أمكانية تصنيفها على وفق معايير التنوع الأثني والاختلاف الثقافي . وبالتالي يغدو ممكنا” إسقاط حق الشعوب المستعبدة والأقليات المهمشة في التعبير عن أصالتها القومية ، والمطالبة بمراعاة مواريثها الثقافية ، والدعوة لتجسيد دورها في العملية الحضارية ، والاحتكام إلى مبدأ المساواة في المشاركة السياسية . ولعل فيما يقوله الباحث المغربي ( عبد السلام بنعبد العالي ) في معرض ردّه على طروحات ( صدام الحضارات ) لهنتنغتون يأتي في هذا السياق من خلال إصراره على (( ان ما ينبغي التأكيد عليه هو ان هذا النوع من الفصل الحضاري والجغرافي والثقافي غدا اليوم من قبيل المتعذرات . ذلك أننا أصبحنا اليوم عاجزين عن رسم الحدود في عالم بلا حدود ، والبحث عن مرجعيات في فضاء بلا مرجعيات ، وعن ألوان خاصة في عالم بلا ألوان ، بلا ألوان جغرافية وتجارية وسياسية ، ولكن أيضا” بلا ألوان ثقافية ))(9) . وكأني به لا يؤيد فقط بل ويروج لمزاعم الكونت البولوني ( زبيغنيو برجنسكي ) مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق حين يشير في كتابه ( رقعة الشطرنج الكبرى ) إلى جاذبية الثقافة الجماهيرية الأمريكية التي تمارس سحرها على شباب العالم من خلال (( الأفلام والبرامج التلفزيونية الأمريكية – التي تحتل كما يرى – ثلاثة أرباع السوق العالمية ، وتشابهها انتشار الموسيقى الشعبية الأمريكية ، في حين تتوسع باستمرار دائرة الذين يقلدون التقليعات والملابس وحتى في العادات الغذائية الأمريكية في جميع أنحاء العالم ))(10) . والحقيقة إننا لا نود هنا الدخول في مناقشة هذا التأكيد المفرط في تبسيطيته ، بلّه عدميته ، إذ ان الوقائع الدامغة والمؤشرات الفاقعة التي ترد على ألسنة وأقلام النافذين من الأمريكيين ذاتهم ، كفيلة بدحض مثل تلك الافتراضات وتقويض حججها . فقد جاء في كتاب الباحث المشهور صموئيل هنتنغتون : من نحن ؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية ، ما ينص على ان المهاجرون أصبحوا ((مواطنين ليس بسبب إعجابهم بثقافة أمريكا وميثاقها ، بل بسبب انجذابهم إلى برامج المعونة الحكومية والفعل الايجابي . فإذا توفرت لغير المواطنين ، سيخبو الدافع إلى المواطنة .. ويضيف في موقع آخر ؛ فيما تزداد أعدادهم ، يشعر المكسيكيون الأمريكيون أكثر فأكثر بالانسجام مع ثقافتهم الخاصة وغالبا ما يزدرون الثقافة الأمريكية))(11) . وهكذا فالذي يعنينا منها هو إثبات ان حالة طغيان شكل من أشكال القيم الأحادية ، أو هيمنة صورة من صور الممارسات الاستتباعية لا يعني – في مطلق الأحوال – غياب الأشكال الأخرى من القيم الثقافية الخاصة . كما لا يفضي إلى انعدام الصور المغايرة من الممارسات الاجتماعية الأصلية ، التي تشكل العناصر التكميلية لمشاهد البانوراما الإنسانية في مسارها التطوري المتواصل . وهو الأمر الذي سبق لبعض مفكري الغرب أن أدرك قيمتها الحضارية ونبّه لضرورتها السياسية حين قال (( إننا نحن مالكي الحضارة التقنية وعبيدها ، إنما علينا أن نرقب من ثقافة الآخرين قدرتنا على البقاء ))(12) . صحيح ان المؤثرات المادية والإغراءات المعنوية التي تحتويها جعبة العالم الغربي ما فتئت تحاول اختراق جدران العزلة السياسية والرتابة الحضارية والصمت الثقافي لمعظم بلدان العالم المستعمر سابقا” تحت شتى العناوين والمسميات ، إلاّ ان هذا لا يعدو أن يكون سوى وجها” واحدا” من وجوه الحقيقة الأخرى المتمثلة بالقاعدة التي مؤداها ؛ انه كلما عظم تيار الاتجاه نحو الواحدية ، سواء أكان بالفكر أم بالسياسة أم بالاجتماع ، كلما اشتد ساعد المكونات المتعددة والتيارات المتنوعة للدفاع عن وجودها القومي ، وكلما ازدادت قدرتها الذاتية للحفاظ على هويتها السياسية والاستمرار في خصوصيتها الثقافية . ومما هو جدير بالملاحظة مراعاة الفارق الأساسي بين الواحدية على الصعيد العالمي وبين نظيرها على المستوى الوطني . ففي الحالة الأولى تستهدف استئصال شأفة الخصوصيات القومية والتنوعات الثقافية بين شعوب المعمورة كافة ، بغية تأمين هدف تعليب وعيها الاجتماعي وتنميط سلوكها الإنساني وتوحيد رأيها السياسي ، تحت يافطة العولمة الليبرالية الجديدة أو ظاهرة الأمركة – فالأمر سيان – من منطلق ان قوى الهيمنة الحالية (( لا تريد – كما يذهب المفكر المصري حسن حنفي – أي وحدة أخرى باستثناء العولمة ، ومجموعة الثمانية ، وحدة السوق المركزي ، حتى تظل الأطراف أسواقا” وطاقة وعمالة ، ويظل التقابل قائما” إلى الأبد بين المركز والأطراف ، المنتج والمستهلك ، المعلم والتلميذ ، المتقدم والمتخلف ، الأبيض والملون ))(13) . هذا في حين تسعى في الحالة الثانية إلى طمس معالم الخارطة القومية للمجتمع وتسوية تضاريسها الاثنية ، وذلك عبر إزالة ألوان النسيج الاجتماعي ، وإسكات أصوات التنوع الثقافي ، واحتواء تيارات الاختلاف الحضاري ، وتضييق الخناق على تعدد مصادر الاعتقاد الديني . بحيث تتحقق في المحصلة النهائية الغلبة لجهة معلومة واحدة؛ طبقة اجتماعية أومجموعة
عنصرية أو فئة طائفية أو تكتلات عشائرية ، ويسود رأيها السياسي الأوحد ، معتمدة بذلك على رصيدها من القمع والتنكيل والتهميش والإقصاء . وهنا نصل إلى لحظة الذروة أو ما يمكن أن أسميه ( تخوم الهيمنة ) حين ينغلق النظام السياسي الأوحد إزاء المجتمع الذي يحكم خياراته ويلجم تطلعاته ، ملتجئا” إلى سلوك التلفيق السياسي والديماغوجيا الخطابية ، لإسباغ الشرعية على وجوده وإضفاء المشروعية على تصرفاته ، معتقدا” بأن الحقيقة تقف إلى جانبه وان النصر سيكون حليفه ، وهو الأمر الذي يسوغ له استخدام المزيد من القوة الغاشمة واستنفار الكثير من عناصر الطغيان السافر . إذ ان المنغلق – كما يشخصه المفكر اللبناني علي حرب – (( ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية العقائدية ، أو القومية اللغوية ، أو الحضارية الثقافية .. وهو يحاكمه ويحكم عليه على هذا الأساس . فان كان يتفق معه بالعقيدة أو المذهب أو العرق أو الثقافة أو النمط الحضاري ، قبله وتماهى معه ، والا نبذه إلى خارج يمثّل البدعة والكفر ، أو العمالة والخيانة ، أو التأخر والتخلف ، أو الغرابة والهمجية ، أو أي أسم آخر يدل على المغايرة الكلية أو على الاختلاف الوحشي . إذن فالمنغلق على ذاته ومعتقده ينفي الآخر ولا يعترف له بحقه في أن يكون مختلفا” عنه ، إذ الاختلاف في نظره هو نقيض الهوية وضدها الذي يهددها ويعمل على استتباعها أو تسخيرها أو تصفيتها ))(14) .
وعلى أية حال فان اهتمام هذا الدرس بالتشديد على مناقب التعددية والتركيز على فضائلها واستحسان النتائج التي يؤمل أن تفضي إليها ، لاسيما بالنسبة لمستقبل المجتمعات المتضعضعة في بلدان العالم الثالث ، لا يعني من جانبنا محاولة حجب المثالب التي تنطوي عليها أو التستر على الرذائل التي يمكن أن تنجم عنها ، في حال تحولها من تعددية سياسية وفكرية وحضارية إلى تعددية عنصرية وطائفية وقبلية ، حيث لا تهدف في المحصلة النهائية سوى تحطيم الدولة وتفكيك المجتمع . وهو الأمر الذي سوغ في الغالب انحراف الأنظمة السياسية المفتقرة لغطاء الشرعية ، وساقها لانتهاج خيار الواحدية المطلقة ( المركزية ) تحت ذريعة الحيلولة دون انفراط عقد الوحدة الوطنية وتلافي اختلال توازن الاجتماع السياسي ، وبالتالي الانسياق نحو هاوية الدكتاتورية والشمولية بوجهيها العسكري والمدني . والأمثلة على ذلك صارخة الدلالة ولا تحتاج إلى تأكيد أو توضيح . ولهذا فالمتوقع من حسنات الوعي الديمقراطي حين تستوطن العقل الإنساني ، أن تسهم لا في لجم تطلعات الاستئثار وكبح جماح الاستحواذ الرابضة في لا وعي كل مجموعة اجتماعية أو تكتل سياسي فحسب ، وإنما تفعيل مضادات النكوص المعياري التي يمكن أن تتعرض لها كل أنواع التعدديات لحظة الوقوع في أتون الأزمات الاجتماعية الحادة ، أو مواجهة الانعطافات التاريخية المفاجئة . ذلك لأن العصبيات (( لا تظهر على السطح في الأوقات الطبيعية ولكنها تهدد بالظهور في كل مرة تبرز فيها أزمة النظام عن طريق اهتزاز سلطة الدولة أو تدهور التوازن المادي والاقتصادي للجماعة ))(15 ) .
الهوامش والمصادر
(1) يؤكد بعض الكتّاب المعاصرين على ضرورة التمييز بين مبدأ ( الأكثرية ) الذي يعدّ من صلب المبادئ الديمقراطية ، وبين شعار ( الشعبية ) الذي طالما تشدقت بالدعوة له والتمسك به أنظمة الحكم الشمولية في بلدان العالم الثالث ، علّها تخفي تحت يافطته انحرافها صوب سياسات التسلط والدكتاتورية . للمزيد حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى الملاحظات القيّمة للمفكر الفرنسي (آلان تورين) ضمن كتابه : ماهي الديمقراطية حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية . ترجمة الدكتور حسن قبيسي ( بيروت ، دار الساقي ، 2001 ) . كما أن هناك من يستخدم مصطلح ( النظم الجماهيرية ) للدلالة على نفس المعنى الذي يتضمنه مفهوم ( النظم الشعبية ) . أنظر حول ذلك ، الدكتور حسين علوان البيج ( الديمقراطية وإشكالية التعاقب على السلطة ) في ؛ إسماعيل صبري عبد الله ( وآخرون ) : المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ، سلسلة كتب المستقبل العربي (19) ، (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2000) ، ص157 .
(2) آلان تورين ؛ المصدر ذاته ، ص25 .
(3) للوقوف بشكل موسع على جوانب الاستلاب الاجتماعي والتنميط الفكري التي يتعرض لها الإنسان في الأنظمة التسلطية ( أحادية الرأي والمعتقد ) ، يمكن الرجوع إلى كتاب الفيلسوف الأمريكي (هربرت ماركوز) ؛ الإنسان ذو البعد الواحد ، ترجمة جورج طرابيشي ( بيروت ، دار الآداب ، 1973 ) ، ص37 وما بعدها .
(4) جون ستيوارت مل ؛ في الحرية ، الجزء الأول ، ترجمة عبد الكريم أحمد ، سلسلة الألف كتاب (581 ) (القاهرة ، مؤسسة سجل العرب ، 1966 ) ، ص89 .
(5) موريس دوفرجييه ؛ سوسيولوجيا السياسة : مبادئ أولية في علم السياسة ، ترجمة هشام دياب ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، 1980 ) ، ص153 .
(6) المصدر ذاته ؛ ص 160 .
(7) آلان تورين ؛ المصدر ذاته ، ص 30 .
(8) الدكتور برهان غليون ؛ معوقات الديمقراطية في الوطن العربي . ملفات خاصة ، مأخوذ من موقع على الإنترنيت بتاريخ 7/9/2001 .
(9) الدكتور عبد السلام بنعبد العالي ؛ في الحوار بين الثقافات والصراع بينها . مجلة ( فكر ونقد ) العدد/ 59 و 60
(10) زبيغينيو برجنسكي ؛ رقعة الشطرنج الكبرى ، ترجمة أمل الشرقي ( عمان ، الدار الأهلية ، ) ص40
(11) صموئيل هنتنغتون ؛ من نحن ؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية ، ترجمة حسام الدين خضور ، (دمشق ، دار الرأي للنشر ، 2005 ) ، ص 223 و 260 .
(12) هوغ دي فارين ؛ ثقافة الآخرين ، مأخوذ عن روجيه غارودي ؛ حوار الحضارات ، ترجمة عادل العوّا ، سلسلة زدني علما”( 1 ) ، (بيروت ، منشورات عويدات ، 1986 ) ط/2 ، ص 93 .
(13) الدكتور حسن حنفي ؛ الجامع والكنيسة أم المدرسة والمستشفى ؟ ، جريدة الزمان ، العدد( 2080 ) بتاريخ 9/4/2005 .
(14) الدكتور علي حرب ؛ الهوية الصافية : العقل الإسلامي بين الانغلاق والانفتاح ، ضمن كتاب : العنف الأصولي ؛ نواب الأرض والسماء ، سلسلة كتاب الناقد ( بيروت ، رياض الريس ، 1995 ) ص 101 .
(15) الدكتور برهان غليون ؛ المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات ( بيروت ، دار الطليعة ، 1979 ) ، ص 21 .