18 ديسمبر، 2024 8:07 م

دردشة عفوية عن التشيخوفية

دردشة عفوية عن التشيخوفية

وقالت نتاشا ( وهو اسم الدلع طبعا , اذ انها نتاليا ) – ليس عبثا عدم وجود مفردة تشيخوفيزم ( اسم تشيخوف + لاحقة … يزم) باللغة الروسية , (اي التشيخوفية ), وانما توجد فقط بالروسية كلمة ( تشيخوفيانا ) , وتعني الدراسات والآراء المختلفة عن حياة تشيخوف وابداعه , فعلّق فانيا ( وهو ايضا اسم الدلع , اذ انه ايفان ) معترضا على ذلك و بنبرة احتجاج واضحة – ولكن لا توجد بالروسية ايضا مفردات مثل – بوشكينيزم , او تولستويزم , او دستويفسكيزم …الخ , ومع ذلك فانني لم أجد في الادب الروسي , ولا في الادب العالمي حسب اطلاعي , على شئ يشبه او يوازي او حتى يقترب من قصة تشيخوف ( السيدة ذات الكلب الصغير ) , فهناك قال لنا تشيخوف بشكل بسيط ومقنع ورائع حقيقة هائلة في الحياة الانسانية تكمن في ان الحب المتأخّر للانسان هو الحب الحقيقي , رغم انه الحب المستحيل , وانا غالبا ما اعيد قراءة نهاية تلك القصة , التي تلخّص تلك الحقيقة الحياتية وتؤكّد عليها , وأظن , انها واحدة من خصائص التشيخوفية كظاهرة ادبية , اي انه يحدد لنا حقائق موجودة في مسيرة حياتنا دون ان يلاحظها الانسان , او – ببساطة – لا يريد ان يراها او الاعتراف بها , رغم انها موجودة . انتبه الحاضرون الى هذا النقاش الفكري والذي انبثق بشكل عفوي بينهما , وانقسموا الى فريقين تقريبا , الاول يؤيد نتاشا , والثاني يؤيد فانيا , وكان هناك بعض الصامتين ( وربما هم الاكثرية !!!) , ولكنهم كانوا يتابعون بدقة وامعان وانتباه شديد ذلك النقاش الفكري حول تشيخوف , الذي بدأ في لقاء (ما تبقى على قيد الحياة !!!) من خريجي كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين , اللقاء النادر جدا جدا , والذي ننتظره دائما بشغف كبير , لأنه يعيدنا الى حلاوة ذكرياتنا عندما كنّا طلبة شباب في كليتنا الحبيبة قبل اكثر من نصف قرن من الزمان .
صمتنا جميعا بعد تعليق فانيا , وهو صمت ضروري طبعا للتفكير والتأمّل وتحديد موقف واضح ومحدد تجاه هذا النقاش الغريب والطريف جدا بين زميلتنا نتاشا وزميلنا فانيا حول التشيخوفيزم , او التشيخوفية , وخرقت فيرا اخيرا هذا الصمت وقالت – أما أنا , فاعيد دائما قراءة قصص تشيخوف القصيرة , اذ انني بحاجة ماسة في حياتي الصعبة و المعقّدة الى الضحك , او في الاقل , الى الابتسامة , وقصص تشيخوف تلك تمنحني ذلك , اي انها (الدواء!!!) بالنسبة لي , هذا اولا , وثانيا , لأني أجد فيها عبقرية تشيخوف الشاب , العبقرية العفوية والنقيّة والخالية من اي تعقيد وتقعير , عبقرية طبيعية ونظيفة جدا وتنساب بهدوء وسكينة وتتغلغل رأسا في اعماق الروح , اذ انه كتب تلك القصص بسرعة ودقّة ودون اي ( مكياج!!!) عندما كان شابا يافعا , وطالبا مشغولا بدراسة الطب صباحا . أجابت نتاشا معلّقة على هذا الكلام – لم أقل أنا شيئا يتناقض مع ما ذكرتما من كلمات عن تشيخوف , بل , اني اؤيد ذلك , وانا ايضا اطالع نتاجاته دائما ومعجبة بها مثلكم , ولكن هذا لا يعني بتاتا , ان هناك ظاهرة متكاملة في علم الادب يمكن ان نسميّها التشيخوفية في الادب الروسي والعالمي , فطرح فانيا عليها رأسا سؤالا ( صارما وحادّا!) , وهو – وماذا يمكن ان نسميها في رأيك ؟ فابتسمت نتاشا وقالت – فانجكا , نحن في جلسة سمر لنستعيد ذكرياتنا الجميلة , وليس هدفنا الان صياغة دقيقة لمصطلحات علم الادب كما كنّا نفعل ايام الدراسة في الكليّة , فضحكنا جميعا تأييدا لها , ولكن فانيا قال وبنفس النبرة الغاضبة – ان تهربك من الجواب ذكي جدا يا نتاشا , ولكن التهرب بشكل عام يعني انك لا تعرفين الاجابة الدقيقة عن سؤالي . قال ساشا – فانيا , لا ضرورة لاطلاق مثل هذه الاحكام المتوترة , نحن ندردش ليس الا , وقد نختلف وقد نتفق في دردشتنا , وهذا أمر طبيعي جدا , ولو كان تشيخوف حاضرا معنا الان لما سمح لك ان تتصرف هكذا , اذ ان تشيخوف نفسه كان وديعا و مسالما جدا , ويتجنب بالذات التصادمات الفكرية مع الآخرين , فضحكنا مرة اخرى , وقال اليوشا وهو يضحك – فكرة رائعة يا ساشا , اذ يجب دعوة تشيخوف في اللقاء القادم والاستفسار منه مباشرة حول التشيخوفية , فهو الذي سيحسم الموضوع , فعلّقت فيرا قائلة – لقد قال لنا تشيخوف في رسائله الى اصدقائه ماذا تعني التشيخوفية , ولعل اهم عناصرها يكمن في الايجاز , الا تتذكرون جملته التي اصبحت مثلا معروفا في روسيا , وهي – الايجاز شقيق العبقرية ؟ فتعالت الاصوات من هنا وهناك تأييدا لفيرا , وقال اليوشا – نعم , نعم , هذا صحيح جدا , فالاطناب بالكلام والكتابة ظاهرة مملّة فعلا للمستمع والقارئ , خصوصا , وان عصرنا هذا باحداثه المتلاحقة السريعة لم يعد ملائما ابدا للاطناب , واريد ان اضيف , ان تشيخوف قال مرة في احدى رسائله لاديبة ناشئة – احذفي نصف القصة , وجاءت التعليقات من هنا وهناك مثل امواج البحر المتلاطمة , فهذا يصرخ – لا تنسوا اسلوب البساطة والوضوح والشفافية , وذاك يضيف – والكتابة عن المواضيع الانسانية الخالدة دون كلمات طنانة ورنانة , وثالث يقول – ولهذا فان الانسانية تتقبّله لحد اليوم , فصاحت نتاشا وهي تضحك مقهقهة – انا معكم ايها الزملاء الاعزاء , انا معكم فعلا وقولا , ودعونا نعود الى طبيعة جلسة السمر هذه , الجلسة النادرة واللذيذة , فتشيخوف يوحدنا ولا يفرقنا…….