18 ديسمبر، 2024 2:47 م

دراسة نقدية لإشكاليات الهوية الشيعية في فكر الدكتور علي المؤمن

دراسة نقدية لإشكاليات الهوية الشيعية في فكر الدكتور علي المؤمن

د. أحمد جمعة البهادلي
التفسير الماهوي يحيل الموجودات إلى بنية رمزية مكثفة يحتفي بها العقل، لعقد اشتراطات متلازمة بين الماهية ذاتها وبين ما يمثلها في الواقع، وبما أن البنية الذهنية للإنسان تسعى دائماً للتكثيف في التداول؛ فإن البحوث الماهوية جزء من مهامها هو ترسيخ ذلك التكثيف في نظام الخطاب الجمعي، وبالتالي الوقوف على محددات الهوية بشكل واضح، ومن دون اي لبس بينها وبين غيرها من الهويات الأخرى، وبعلاقة مضطردة فإن اي منظومة خطابية ستعتمد في تداولها على عدد من الهويات المكثفة التي تميزها عن غيرها من المنظومات الخطابية الأُخر؛ فبنية التكثيف الفلسفي مثلا تختلف توصيفاتها عن بنية التكثيف الرياضي، وهكذا هما يختلفان عن بنية التكثيف التاريخي والاجتماعي، ولكل منهم قواعده المنهجية للتفكير في نسق ما لترسيخه والإفادة منه حين التداول، ولعل هذا هو ما يفسر ظهور التخصصات المتباينة والمتقابلة والمختلفة، وأن هذا التباين والتقابل والاختلاف هو ما يحدد هذه التخصصات ذاتها، بمعنى أن التفكير بإحالة الأشياء والظواهر المشخصة إلى ماهيات مجردة سيدعم التفكير الجمعي للإرتقاء بنظام الخطاب سعيا للخلاص من العوارض اللاذاتية الملحقة بأصل الهوية.
حد الهوية مهمة شاقة؛ فإن كانت هذه هي ملامح الاشتغال بتفسير الهويات او تحديدها، فهي ومن دون أدنى شك مهمة فكرية متداخلة ومعقدة؛ فالتكثيف لا يأتي إلا بعد فهم خصائص وسمات الظاهرة وأفرادها، كي يكون منتجا في أنموذج الخطاب، فإننا حين نؤمن باللغة في نصوصيتها وبالعدد في رقمنته المتوالية مثلا، وهما وسائط لنقل المعنى والتعبير عنه، فذلك لأن كل من اللغة والعدد قد نالا ما نالاه من الفهم لخصائص وسمات كل منهما، وكانت حصيلة هذا الفهم بنيات حروفية مختزلة من الألف إلى الياء، ولكل منها هوية تفرقه عن غيره من الحروف في نسق متوال متغير ومتجدد، والعدد كذلك بين الـ(1) والـ(9)، لكل من هذه الأرقام هويته التي تفرقه عن غيره من الأعداد الاخرى. لكن هذا النسقان لهما القدرة على التوليد وبشكل لامتناهي من المعاني والمعادلات الرياضية، جراء ما بهما من تكثيف عال ومجرد.
والهوية بهذا المعنى تسعى دائما لاثبات ذاتها في قبال هويات اخرى تجاريها في الاشتغال داخل النسق، مكونة لصورتها الكلية في نظام الخطاب، أو لنقل بأن الهوية تمثيل يختزل حضور الذات في صورة معرفية، او عقلية، فإنها تسور حضورها بمجموعة سمات وخصائص كي تمتاز عن غيرها من الهويات المجاورة، وغالباً ما تأتي بعد إثارة السؤال عن(ماهو) أو(ماهي)، والجرجاني في التعريفات يؤكد بأن الهوية أمر لا ينفك عن أمر وجودي سابق، فالأشياء والظواهر توجد أولاً، ومن ثم تبدأ رحلة البحث عن هوية الشيء أو الظاهرة، ضمن ما قدمنا له من تكثيف عال ومجرد، لاستحالة حضور الهوية إلّا وهي تشخيص لحالة وجودية حضورية.
والهوية بيان للأفراد كما أنّها بيان للجماعات، والسؤال الذي يراد منه كشف الهوية بما هي كذلك، لا يمكننا تحصيل الإجابة عنه دون فحص للسمات والخصائص الذاتية للفرد أو المجتمع؛ فالتفصيل الموغل في كشف الأشياء هو ما ينتج ذلك التكثيف للهوية، وهنا نحن فعلاً إزاء إشكاليات فكرية متعددة يكشف عنها تفصيل علمي دقيق قدًمه الدكتور على المؤمن بشكل لافت، لسعة آفاقه الجادة، بغية تشخيص الهوية الشيعية الدينية والاجتماعية، وطالما نتحدث عن مثل هذه التجربة في ميدان علمي رصين؛ ألفت عناية القارئ الكريم لمثل هذا الترتيب في النظر للمسائل العلمية؛ فالمشكلة غير الإشكالية؛ فالأخيرة تضم في طياتها عدد من المشاكل البحثية المستنبطة التي نبحث فيها عن حلول، ونصل منها الى نتائج واضحة وموضوعية، أما الإشكاليات فصيغة جمع لعدد من المشاكل المتداخلة والمتزامنة، وقد يصل الباحث فيها الى حلول معينة وقد لا يصل. فالمشكلة الواحدة غير الاشكالية التي تجمع عدداً من المشاكل البحثية، والأخيرة غير عدد من الإشكاليات مجتمعة في موضوع ما بشكل متداخل ومتزامن في أماكن مختلفة وأزمان مختلفة كذلك.
إن هوية الإنسان تحددها عدد من الانتماءات الرئيسية، كالمكانية والزمانية والقبلية والدينية، وهكذا نصل الى تفرعات أقل، كالانتماء السياسي والإثني وغير ذلك، لكن الهوية الأبرز هي (اللغة)؛ فاللغة من أوسع الأطر التي تحدد الجماعات البشرية، لأنها تكشف عن الوسيط الفعلي لتداول أفكار الجماعة، وبما أنّ حاجة الجماعة للغة حاجة فطرية في نظام الخطاب، أخذت اللغة تمثل هوية اي جماعة وبشكل معلن، أو لنقل بأنّ اللغة هي إول إشهار واضح لهذه الجماعة أو تلك. وحين نقول بأن هذا عربي وهذا أعجمي؛ فذلك تحديد للهوية بما هي إعلان واضح كشف عنه نظام الخطاب والجهاز اللغوي للجماعة، ولهذه الهوية اللغوية فعل أركيولوجي يمثل تاريخ الجماعة وتراثها في عدد من المنجزات الشفاهية والمدونة، بل ويمكن لهذا الجهاز اللغوي أن يكون مختزلاً لكل الهويات الأُخر؛ لأن اللغة في كثير من الأحيان تجمع نشاط الأفراد والجماعات في وحدات اصطلاحية معجمية تعكس ما للفرد أو الجماعة من تنام واضح لتصوير المعاني في ألفاظ أو كلمات؛ فالبعد التيرمينولوجي الذي يحدد الهوية اللغوية لا يكون إلّا بعد جهود حثيثة لبناء العقود الاجتماعية اللغوية، لذا ليس من السهل التغافل عن هذه الهوية في بحث علمي يتناول الهوية الشيعية المعاصرة، بكل ما فيها من تنوع لغوي متعدد ومختلف ومتناثر في الأمكنة والأزمنة، في العراق وإيران ولبنان ودول الخليج والهند وباكستان وبعض دول المغرب وهكذا اليمن ومصر وأفغانستان وغيرها من الدول التي يتواجد فيها الشيعة كهوية دينية عقائدية.
البحث في الهوية اللغوية ليس مجرد تشخيص يكشف لسان الفرد او الجماعة، وإنّما هو تأكيد لحضور (القومية)، بما هي سبب لنشوء بعض النزاعات بين قوميتين أو أكثر، ولعل هذا يضاف الى عدد المشاكل البحثية التي تستبطن في أصل الإشكاليات العلمية لتحديد الهوية الشيعية. فـ (القومية) تعبير عن(القوم) أو الجماعة البشرية، وبما أنّ الجامع المشترك الأهم عند أية جماعة بشرية هو (اللغة) فإنّ الإجابة عن سؤال (القومية) يعني إعلان للمعلن في نشاط الجماعة اللغوي عبر تاريخها الطويل الممتد في القدم، وبما أنّ الهوية اللغوية العربية مثّلت في جهودها وآثارها الشفاهية والمكتوبة جانباً من الأصالة، ربما لم يتوافر عند أي قومية أخرى، ولارتباطها بالجزيرة العربية من جهة، وبالقرآن الكريم والنصوص النبوية من جهة ثانية، وبما قدّمه الإمام علي (عليه السلام) في العراق من جهة ثالثة، عبر نتاجه اللغوي الراسخ في نهج البلاغة، وغيره مما تركه سائر الأئمة (عليهم السلام) من تراث عميق شخص الملامح الكبرى للهوية الشيعية الإثني عشرية، وعليه؛ فإنّ مركز الهوية اللغوية الشيعية في كل العالم هو اللغة العربية، بوصفها مركزاً للإسلام العظيم من جهة، وبوصفها نظاماً خطابياً معرفياً متجدداً كذلك. ولعلها ساعدت كثيراً على فهم مباني التشيع وسبر أغوار اطروحاته العقدية والفكرية والمفاهيمية. فاللغة بهذا المعنى تمثل أنموذجاً تاريخياً، لما قبل البعثة الاسلامية ولما بعدها، وصولاً للحواضر العلمية المعاصرة.
لقد حظيت هذه الفكرة بالأهمية الواضحة في فكر الدكتور على المؤمن؛ فإنّه قد وجّه عدداً من التساؤلات لعدد من الباحثين الذين وصفهم بالنخب الشيعية، بغض النظر عن تدينهم من عدمه، جاء في السؤال الأول لأهميته في الترتيب ضمن سلسلة الأولويات لتحديد الهوية، ما يفرق بين مفهومي المذهب الشيعي، والوجود القومي، وهل يمكن القول عنها بأنها أصبحت تمثل حالة من الاندماج بين (القومية) و(المذهب الشيعي)، أم لا زالت تعاني من مرارة الانفصال فيما بينها !، ومن دون أدنى شك فإن مثل هذا التداخل في كشف الهوية الدينية ضمن إطار اجتماعي متنوع ومتعدد ومختلف في القوميات والأمكنة والأزمنة سيحيلها إلى فكرة شبه مستحيلة، جراء ما تفرضه الوقائع من حضور للمواطنة وللقوانين المدنية، وما تفرضه الوقائع السياسية الحاكمة على هذا البلد أو ذاك؛ فالوجود الشيعي كبنية كلية مفاهيمية ضمن إطار التكثيف الماهوي أو الكشف الهوياتي شيء، والوجود الفعلي للشيعة في الأمكنة والأزمنة بما هي واقع شيء آخر، وقد نركن لحضور الهوية المركبة أو المزدوجة عند بعض ممن آمن بالفكرة الدينية العقدية الشيعية.
إنّ في اختلاف اللغات وتنوعها طبقاً لاختلاف الأمكنة والأزمنة لأبناء المذهب الشيعي ومحال إقامتهم الفعلية، تجعل من محدد اللغة معياراً ليس ذا أهمية بالغة إزاء الهوية الأكبر (المذهب الشيعي)، مع ما للغة من أهمية بالغة ومؤكدة في تسوير أي جماعة بهوية معلنة وواضحة، ومع ما للغة العربية من أهمية بارتباطها بالتشيع وثقافته وفكره وآثاره بشكل أو بآخر، إلّا أنّنا نقف أمام اشكالية تتداخل فيها عدد من المشكلات العلمية بأطرافها الخمسة الآتية: المكان، الزمان، المواطنة، القوانين المحلية النافذة والوقائع السياسية الحاكمة. ولكل من هذه الأطراف الخمسة ما يعيق تحقيق تلك الهوية المندمجة حتماً.
ربما إذاً، ونحن نناقش مفهوم الهوية الدينية الشيعية ضمن إطارها الاجتماعي، أن نعلن عن حالة من التسامي أو التعالي في نفس الأمر، الذي يغلب فيها حضور التشيع على حضور (اللغة)، بما هي محدد للهوية، أو لنقل محدد (للقومية)، وبهذا فإنّ الهوية الدينية الشيعية، بما هي حالة ايمانية متجاوزة أو متعدية للأطراف الخمسة السابقة، وإنّ تعدّيها هذا بمثابة الحالة المتعالية التي تُشابه في نسق وجودها فكرة وجود الإسلام كدين؛ فكما أن الإسلام في أصل الخطاب متجاوزاً لكل القوميات؛ إذ لا فرق بين عربي وأعجمي، وبما أنّ الإسلام في حقيقة أمره جاء ليرسخ فكرة الإمامة كأصل من أُصول الدين الحقة، قد اكتسب التشيع حالة تعاليه الفكرية من الإسلام ذاته، بل ويمكن القول بأن الحالة الايمانية المتجاوزة أو المتعالية، هي ذاتها في الاسلام وفي التشيع، بغض النظر عن العموم والخصوص ما بين المسلمين من غير الشيعة وبين الشيعة أنفسهم.
الظاهرة الدينية الشيعية التي يبحثها علم الاجتماع الديني الشيعي، تستحق منا الوقوف عليها وتأملها، فهي ظاهرة راسخة في عمق التاريخ التوحيدي من جهة، وراسخة مع حضور شخص الامام علي (عليه السلام) في هذا العالم المادي من جهة ثانية، والأثر اللغوي الذي يعد من أوسع وأهم محددات الجماعات البشرية؛ شاهد على كثير من الوقائع الغيبية والشهودية لهذه الظاهرة؛ فالتأييد لفكرة الإمامة والولاية للإمام، مع أنها فكرة غير مسلّمة عند كثير من المسلمين، إلّا أنّ حتمية وجودها الفعلي في تاريخ الأمة وجهودها العلمية لا يمكن الشك فيه، الأمر الذي دعانا الى القول بأنها حالة متسامية في نفس الأمر، أو لنقل بأن ارتباط الأمة بالإمامة يمثل جانباً روحياً ومبدأً حيوياً من مبادئ الإسلام الشريف، وبما أن المبدأ الروحي كذلك، فإن وسيطاً لغوياً ما لا يمكنه أن يقف مانعا إزاء انتشاره، وبما أن اللغة هي الكاشف لباقي الهويات في النسق الاجتماعي؛ فإن هذا العامل الروحي الديني متعد لباقي الهويات الضيِّقة.
ومن الإشكاليات التي حفر فيها الدكتور علي المؤمن حفرا أركيولوجياً، إشكالية التوازن ما بين الانتماء لمذهب آل البيت (عليهم السلام) وما بين الانتماء لمجتمع الشيعة الكلي المنتشر في بقاع الأرض الرحبة الواسعة؛ فبعد أن أوضح المؤلف محدودية اللغة كوسيط ناقل للمعنى، وأنّ الوسائط في نفسها مبتذلة دائماً وأبداً، وأنّ القيمة للمعنى لا للوسيط الناقل له؛ بدأ يحاور الذهنية الجمعية عن إشكالية متداخلة جديدة، يتنازع طرفيها في ذاتية كل فرد شيعي، أياً كانت قوميته؛ فالشيعي في الهوية الشيعية المختزلة شيء، والشيعي الفاعل في النسق الاجتماعي للوجود الشيعي شيء اخر، لأن الوجود الشيعي كوطن رسالي سماوي، يجب أن تتضح معالمه وفق أنظمة الخطاب الديني، لا سيما إذا ما نظرنا الى الغاية المنشودة في آخر الزمان، إذ ستتحقق مثل هذه الصورة الكوزمولوجية حينها، وسيصبح للفكرة طابعاً فعلياً، بعد أن كانت ضمن وجودها القووي الكامن في (اليوم الموعود)، الذي ترتقبه كافة الديانات الأخرى، بوصفه اختزال عال لواقعية حضورها، لينصهر الجميع في بوتقة الإمامة، وبشكل متوال، عبر دول ودول لكل من المعصومين (عليهم السلام) وفي وطن كوني رسالي موحد.
وهنا لا بد من التعرض لإشكالية متداخلة جديدة بين الهوية الشيعية الدينية، في صيرورتها الاجتماعية المعاصرة، وبين الحالة السياسية التي يعيشها أبناء هذا المذهب المبارك في بقاع مختلفة، لا سيما وأن الأنظمة السياسية في مديات اشتغالها قد تأتي متعارضة أحيانا مع متبنيات تلك الصيرورة الاجتماعية لأبناء المذهب الشيعي، الأمر الذي يفسِّر إعلان الكثير من المواقف السياسية من فقهاء الشيعة، رغم تعارضها أحياناً مع النظام السياسي المعاش هنا أو هناك في بقاع الأرض، والهويات السياسية في كثير من الأحيان؛ ما تمثل المصالح العامة لمجموعة من الناس المختلفين في الانتماء الديني والمذهبي، وأنّ البرامج السياسية ومتبنياتها عند بعض قادة الدول هنا أو هناك، قد لا تتوافق أحياناً مع متبنيات الشيعة وآفاق مذهبهم الرسالي، بل وفي كثير من الأحيان ما تُعرِّضهم الى القمع والاضطهاد والتهجير وغير ذلك، لإرغامهم من أجل الركون لهذا البرنامج السياسي أو ذاك، مما ساعد على تحقيق الخسائر المتوالية في جسد المجتمع الشيعي دينياً، وعلى مر التاريخ الممتد قدماً.
الإشكالية السياسية، بما هي رعاية لمصالح المجتمع المتنوع عددياً، غير الاشكالية السياسية بما هي رعاية لمصالح المجتمع الشيعي الديني؛ ففي بلدان ذات اكثرية شيعية، نجد رعاية المصالح تختلف عما هي عليه في بلدان أخرى يكون الشيعة فيها أقلية، والدور الريادي لفكرة الإمامة إزاء مثل هذه المتغيرات السياسية قد حققت الكثير من التقدم في ترميم أواصر العلاقة الاجتماعية، وبشكل لافت للنظر، عبر أدوار متنوعة ووحدة في الخطاب، وهو الدور الذي انعكس على نواب الإمام المهدي بعد غيبته (عليه وعليهم السلام)، ومن بعده للمرجعيات الرشيدة في الحفاظ على هذه الهوية الدينية المتسامية في بنيتها الاجتماعية الكبيرة، تحقيقا لمبدأ رعاية الأمة، تمهيداً للدور الرسالي الموعود؛ فالبنية لست اعتباطية ولا هي كيفية وفق سياسات ببرنامج ضيقة وآنية، كما هو واقع حال النظم السياسية المعاصرة لكثير من البلدان، وإنّما هي امتداد واضح لمسيرة شاقة وحافلة بالمخاطر والتضحيات، منذ ولادتها الأولى في جوف الكعبة، بشهادة جدارها المشقوق تعظيما وإجلالا لولادتها.
ومثل هذا الدور القيادي لفقهاء المذهب الإثني عشري؛ ساعد على حفظ المذهب ذاته، وإن كان المرجع الديني في وطن آخر، وقد يكون بعيداً جغرافياً وزمانياً ولغوياً وسياسياً عن وطن مقلديه في عموم أصقاع هذا العالم.
لا شك بأن الاشكالية اللغوية تفرض حضورها وبشكل مركب ومتداخل من جديد، وهذه المرة ليست بين العربي والاعجمي، وإنّما بين العربي والعربي، وهنا فتش الدكتور علي المؤمن عن مكامن مثل هذا الحضور عند الشيعة العرب، في مختلف الدول العربية التي يشكل حضور التشيع فيها نسبة يعتد بها، لتفصح عن هويتها الشيعية بين كونها أقلية أو غالبية، وهي تستبطن كشف العلاقة بين الشيعي والسني في البلاد العربية، إذ يحمل الشيعة تاريخياً أعباء مسيرة شاقة جداً كلّفتهم خسائر جمة لا يمكن تعويضها بأي ثمن؛ فأي شيء يمكن أن يكون تعويضاً بخسارتهم لرسول الله الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو بخسارتهم لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وهكذا سائر الائمة المعصومين (عليهم السلام اجمعين). واستمر مسلسل التضحيات وصولاً ليومنا الحاضر، إذ بقي الشيعة يحملون في بنيتهم الفكرية ما عجز عن فهمه غالبية المسلمين من غير الشيعة، الأمر الذي ساعد على نشوب أكثر من دائرة صراع بين الطرفين، مما عز الدور المرجعي لأن يكون حاضراً في مثل هذه النزاعات القومية والمناطقية.
وهكذا؛ فإن متوالية الاحتمال للنظر في هذه الإشكاليات لم تقف لهذا الحد، وإنما هي متجددة، وجِدّتها هذه المرة تتمثل في بنية الشيعة الاجتماعية الدينية، والنظر في مفهوم المرجعية الدينية، وطريقة توليها مثل هذا الدور القيادي، وفي هذه الإشكالية عدد من المشاكل المتفرعة، كالمرجعية العربية والأعجمية، والمرجعية الممثلة للأعداد السكانية الشيعية، أو لنقل المرجعية المناطقية أو المكانية، أو كالدعوة الى مرجعية عراقية وأخرى عربية، وهنا يمكن القول عن مثل هذه المشاكل بأنها تمثل هبوطاً أو ارتداداً في التفكير الجدلي؛ فبينما تحاول الهوية الاجتماعية الدينية الشيعية التسامي في الدور القيادي المرجعي لتحقيق الإدارة الكونية أو الشمولية العالمية يحاول البعض أن يهبط لحدود هوياتيّة ضيقة، ترتبط باللغة (القومية) أحياناً، أو ترتبط بالمكان أو بغير ذلك، مما تجاوزته مسبقاً الفكرة الشيعية كفكرة سوسيولوجية عامة.
ثم حاول الدكتور علي المؤمن تقديم بعض التصورات الموضوعية في دراسته الجادة لواقع الشيعة، في عنوان وسمه بـ(قواعد التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية)، للنظر بشكل واقعي حول عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي، عند كل من المجتمع الشيعي الخليجي والمجتمع الشيعي العراقي، وهكذا الايراني، واللبناني، والاذربيجاني، والهندي، ثم بعد ذلك قدّم حضوراً عالمياً لمفهوم إشكالي آخر وهو الاندماج بمجتمع الدولة الذي أشار فيه لثلاثة نظم مهمة في الاندماج ما بين الشيعة كنظام اجتماعي واندماجهم بمجتمع الدولة.
أعتقد بأنّ مثل هذه الدراسات الاجتماعية الفاحصة للمذهب الشيعي، بإمكانها أن تؤسس لنمط من الحلول الجادة لتأكيد مثل هذه الهوية، وتدعيمها راسخةً في النظام المعرفي الاجتماعي نفسه. وبهذه الفقرات البسيطة التي تقدّمت، لعلّي أسهمت في توضيح مثل هذا الجهد العلمي وفك بعض آليات اشتغاله، سعياً لدعمه والوقوف إلى جانبه، طالما هو يمثل حلقة من حلقات البناء والتقدم التي نفتقدها جميعا، إذ يندر أن نجد من يفكر في الجماعة واستراتيجياتها في عصر تفاحلت فيه العزلة والعزلة الذاتية بشكل مريب.