22 ديسمبر، 2024 8:56 م

دارسة ذرائعية للناقد المغربي محمد الطايع لنص ( الغزل في الممنوع ) للاديب العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي

دارسة ذرائعية للناقد المغربي محمد الطايع لنص ( الغزل في الممنوع ) للاديب العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي

التضحية والقصد النبيل قناعة الغزل في الممنوع
* دراسة ذرائعية لقصة: غزل في الممنوع للكاتب
عبد الرزاق عودة الغالبي
تقديم: الناقد الذرائعي المغربي محمد الطايع
أولاً-_المقدمة :
الإنسان يخاف مما يجهل ، يخاف من المختلف ، وهذا الخوف غالبا ما يكون مدعوما بسجل حافل من الإشاعات والخرافات المتأصلة والراسخة في وجدانه ،
من أجل محاورة هذا الشعور السلبي المؤثر سلبا على المجتمع والفرد ، هاهوذا كاتبنا الفليسوف الشاعر والناقد الكبير صاحب نظرية الذرائعية المجددة في النقد الدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي ، يضع أمامنا نصا قصصيا يهدف من خلاله أساسا إلى مدنا بالطريقة المثلى للتخلص من هذا الشر المقيم في قلب ذواتنا ومجتمعاتنا ويعلمنا كيف ننظر للأمر من أكثر الزوايا تحررا وجمالا واتساعا ، ألا وهي زاوية الحب .
_ نبذة للتعريف بالكاتب :
عبد الرزاق عوده الغالبي
خريج كلية الاداب جامعة البصرة…. 1972/1971
قسم اللغات الاوربية ، انكليزي / الماني
عمل مدرسا ومشرفاً اختصاصياً لمدة أربعين سنة
اشترك في الدورات التطويرية في علم اصول التدريس وعلم التعليم : الميثولوجي والبيداغوجي .
داخل القطر وخارجه حتى بلغ عدد الدورات التي شارك فيها 36 دورة تطويرية
ساهم كثيرا في التطوير وكتب عشرات البحوث والمقالات عن تطوير مدارس اللغة الانكليزية في العراق،
كتب الشعر والقصة القصيرة والمقال الادبي منذ طفولته ولم يستطع النشر الا بعد عام 2003 لاسباب سياسية كما هو معروف ، تجاوزت كتاباته الادبية المنشورة في الصحف والمجلات الورقية والالكترونية اكثر من 400 مادة ادبية.
كتب العديد من النقود وحسب نظريات ما بعد الحداثة ، كالمدرسة التفكيكية والانكليزية لنصوص ادباء عراقيين وعرب ….وبلغ عددها اكثر من عشرين نقدا
عضو اتحاد كتاب الانترنيت واتحاد الادباء الدولي واتحاد النقاد العربي واتحاد النقاد العراقي ورئيس لجنة النقد في اتحاد الروائين العراقيين في البيت الثقافي العربي في الهند
وضع النظرية الذرائعية وقد ضمنها بكتابه الأخير الموسوم بالذرائعية في التطبيق واعتبر أطروحة ، حصل من خلالها على شهادة الدكتوراه بعلم النقد من جامعة ستراتفورد الامريكية في الهند
صدرت له عدة كتب وهي كالتالي :
-1 اهمية التواصل في عملية تعلم اللغة الانكليزية…
2 -العبور الى الضفة الاخرى…..ادب عالمي مترجم
-3 هواجس الياس …..مجموعة شعرية
-4 سنوات العمر الهاربة…..مجموعة قصص قصيرة
5 -اجنحة المعاني ……….مجموعة قصص قصيرة
6 -ترانيم سومرية…. مجموعة شعرية
-7 نساء مقهورات ….كتاب مشترك صدر في مصر
8 -همس النوارس….كتاب مشترك صدر في مصر
9 – قهر الرجال….كتاب مشترك صدر في مصر
ثانياً- البؤرة الثابتة في النص :
من خلال هذا النص الذي بين يدي والذي أراه أشبه بالوليمة التي تضم مالا يعد من المشتهيات ، فكلما عدت إليه بقراءة جديدة ، فتحت أمام ناظري وعقلي ، مفاهيم وتخريجات وتنويعات لامتناهية ، منها : أن قصة غزل في الممنوع تحاكي نسبيا تجربة الكاتب مع نظرية النقد الذرائعية التي قابلها بعض أعداء النجاح كما يسميهم الدكتور حسين العوفي بالخوف حينا وبالإعراض حينا ، فكأن الكاتب الناقد يحكي عن كفاحه من أجل أن يقربها من العقول ، ويجعلها محبوبة ومقبولة في الوسط الأدبي والثقافي العربي ، والعالمي ، فلابد أنها كانت تشكل لديه مصدر خوف وقلق وغموض وهي بعدها في طور التشكيل بداخله ، ثم مالبث أن وقع تحت سحر عيونها الجميلة ، فأصبح خادمها المطيع ، وهو الآن يسمع صوت الزغاريد احتفالا بها ، هذا بعض مما أحببت أن أورده طرافة ، اوحت لي به القصة التي تغازل الممنوع في مجتمع ينظر للمختلف والجديد نظرة خوف ورفض ، ولم لا ‘فقد تشمل رمزية القصة التي تقصد حالة الانثى في مجتمعات الاشاعة والنميمة ، حالة الوعي العام ، وكذا الأفكار البناءة و الظواهر الإيجابية كالفنون المحدثة والرسالات العظيمة ذات البعد الكوني كرسالة الإسلام التي تتطابق في سيرتها مع حبكة قصتنا الرائعة جدا غزل في الممنوع ، فليس فينا من لايعرف نشأة الإسلام ، وكيف اعتمد السرية ، في بدايته ، ثم قوبل بالرفض والكذب والبهتان ، ولنا في عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد خير مثال ، حيث كان هذان العظيمان عدوين للدين الجديد ، فهما كما قال الرواي ، عن نفسه :
فأنا فرد في هذا المجتمع….يصيبني ما يصيبه….أليس كذلك….!؟
هذا الرواي ، هو بصيغة أخرى صوت الكاتب ومنبر فكره ، هو الحريص على التمسك بالقيم الثابتة ، وكذا تعاطفه مع الطبقة الموجوعة من بني وطنه ، وحثه على الاخلاق الكريمة ، ودفاعه عن الفقراء والمهمشين والمهضومة حقوقهم ، هو العاشق حد الثمالة لوطنه العراق ووطنه الكبير العالم العربي بما يعانيه من جراح ومآسي ، فهو الكاتب بحق ضمير الأمة ولسانها الناطق تمجيدا لعزها ، ومواساة لعذاباتها ،
ثالثاً- الاحتمالات المتحركة في النص :
غزل في الممنوع ، نافذة مغلقة ثم فتحت ، كانت مصدر رعب كافح الرواي بكل ما أوتي من جهد كي تشرع على مصراعيها ، فهي دعوة من كاتبنا للتخلي عن كل المعتقدات الخاطئة والمفاهيم السلبية المسبقة والاحكام الجائرة الجاهزة ، النص حافل بالإحتمالات اللامنتهية ، التي تولدها الافكار المطروحة في النص الذي كتبه الدكتور عبد الرزاق الغالبي بلغة قوية متعالية عن التسطيح السردي للاحداث ، فهو يدعم العمق الفلسفي اكثر من تركيزه على التنميق في المفردة مع ان النص مليء بالإيحاءات ذات الدلالات الجمالية ، والأفكار المباشرة التي تشكل صدمة للقاريء العادي ، وتجعله يقظا متحفزا ، لمطاردة المعنى ، حيث لايترك لك الكاتب متنفسا فهو يسحبك خلفه بقوة جذب ساحرة ، قبل ان تفكر انت سلفا في ملاحقة خلاصة رؤاه الفكرية والاخلاقية وكلها تصب في منحى التنوير انطلاقا من خاصية الاعتراف بالانتماء البيئي الذي يفرض نفسه ، ووصولا الى التحرر التام من كل السلبيات ، التي تعيق الرغبة في الانطلاق والتواصل والتعايش .
المدخل اللساني :
-1 البناء الهيكلي : تقديم موجز
من خلال نظرة سريعة تلقيها على النص يتبين لك أنه قصة قصيرة مكتوبة باحترافية شديدة ، موغلة في الرمز والتكثيف ، مليئة بالتشويق والحذف ، واختصار الطريق إلى المعنى ، فهو في مجمله يهدف إلى مساءلة مكامن النفس المتقلبة بين فكرتي الخير والشر المتقابلتين في تناغم سحري ، تقابل نافذتي بطلي القصة ، فيعمد الكاتب من خلاله إلى استخراج تلك ، النوازع الداخلية لإعطاءها مشروعية ، وذلك عبر مداعبة طريفة للسائد السطحي من المتمثل في غوغائية النظرة السطحية العامة للأمور ، ثم خلع تلك المشروعية عنها بتفنيدها من خلال النفاذ لعمق الطرح الاجتماعي الذي يحاور سيكولوجية مجتمع منغلق على تصوراته ، والكشف عن خبايا تلك الأوهام ، وذلك من خلال الانتصار لفضيلة الخير التي تبنى على حسن الظن ، والقدرة الجريئة على الفهم ، والتواصل ، ومد جسور الإنسانية ، ولا أستبعد من وجهة نظري خضوع القصة لمنهجية الذرائعية شكلا ومضمونا ، كيف لا وكاتب النص غزل في الممنوع هو الدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي ، صاحب النظرية الذرائعية البراغماتية ،باعتباره كاتبا وناقدا في نفس الوقت ، ومؤمنا كبيرا بمدى صلاحية النظرية وملائمتها للنص العربي ، لأن طريقته في سرد هذه القصة ، تماهت كثيرا مع طرحه للنظرية شكلا ومضمونا ، فنجد القصة تتناول الحدث من قشرته ، ثم تتعمق فيه شيئا فشيئا ، مع ماتضمنته من طروح علمية سيكولوجية وأخلاقية ، وكذا اهتمامها الشديد باللغة التي انتجت لنا نصا ، يختلف من جملة الى اخرى مابين رومانسية خيالية رمزية حالمة ، ومابين جملة أخرى واعية عقلانية ، تخاطب العقل لا الوجدان ، وجملة ثالثة تجمع النقيضين معا ،مما أعطى فرادة وتميزا خاصا لكاتبنا وأسلوبه المجدد في السرد ، هذا الأسلوب الذي لم يسبق لي شخصيا التعرف عليه في قصص كتاب آخرين ، فمن عادة مؤلفي القصص ألا يجمعوا في السطر الواحد بين المعنى الحسي الخيالي الواهم ، والمعنى العقلاني المتبصر ، لكن وقبل أن أسوق مثالا على ذلك أعترف بأني وجدت صعوبة شديدة في الفصل بين ماهو فانتازي من جهة وواقعي من جهة أخرى إلا إني قمت بوضع نقاط وهمية بين كلمات الجملة الواحدة ، متخيلا لها مفاصل ، ينتهي عندها المعنى السابق ويبدأ المعنى اللاحق ، كما أنني أعرف بأن مثل هذا الفعل غير مسموح لي به ، لكن عزائي الوحيد أنها مجرد عملية ذهنية لا أكثر ، حسنا فلنتوقف عند هذه الفقرة مثلا :
_ وقطفت النبتة الأولى من حقل الإشاعات دون التأكد من صحتها بل زدتها حجراً حين أيقنت أن خلف زجاج تلك النافذة مخلوق شيطاني لا يقهر، أخت للشيطان ولم أقل هي الشيطان نفسه ، فأنا أرفض وبشدة كون الشيطان أنثى لاحترامي الشديد لكينونة الأنثى … / من يقرأ هذه الفقرة في النص يجد نفسه مرغما على تقبل الصورة المرعبة للشيطان رغم علمه المسبق بأنها محض إشاعة ، لأن فعل القراءة تواطؤ قبل كل شيء ، ومهما أوتي القاريء من استقلالية فكرية لن يتمكن من فصل إدراكه عما يريد الكاتب أخذه إليه وهو يضع أمامه كلمة أيقنت ، ونحن نعلم أن اليقين ، أعلى درجات العلم بالشيء ، إنه علم اليقين ،وهنا تكمن طرافة وجدة الأسلوب القصصي عند أستاذنا الغالبي ، فكأنه بهذا يخبرك أنه حين لايتوفر لديك جواب منطقي للأحداث الغريبة فلامناص لك من تقبل ماتوفر لك من معطيات ، غيره كان اكتفى بالرفض ، حالهم كحال الذين يرفضون فكرة الخالق ماداموا لم يصلوا إلى مايرضي ضمائرهم بعد ، أما الغالبي فإن له فلسفة واضحة بهذا الشأن هو الذي افتتح قصته ، الوهم ، وهي أول نص يطالعك في نفس المجموعة التي تضم قصتنا ، غزل في الممنوع ، وكلنا نعلم أهمية الإستهلال والإهداء وكل أشكال الافتتاح في التأثير على المتلقي وتحفيز مداركه وتوجيهها ، ولا أرى حرجا في الاستشهاد بها ، مادام يقيني قد أوصلني أن قصص الغالبي التي ضمتها مجموعته ، سنوات العمر الضائعة بعضها يشرح ويكمل بعض ، بحيث تحس وانت تقرأ الكتاب أن له وحدة وترابط ، وانما كان توزيع تلك المضامين راجع لعشق خاص لدى الكاتب للقصة شكلا وخطابا ، فهو إن تحدث لك في غزل في الممنوع عن نافذة ورعب وأنثى فهو يضرب لك موعدا مؤجلا مع نفس الثيمة من خلال قصته _ النافذة المسحورة _ مع تأويل ونهاية مختلفين ، وأما إن رغبت في وصف ساحر بديع لتلك الانثى ، فموعدك معه من خلال قصته _ وهل يشيخ الجمال _ أما بخصوص قصة الوهم والتي ابتدأت كما قلت في السابق ناطقة بفلسفة الكاتب ، فلقد ادهشني فعلا قوله الذي يؤكد زعمي ، عند افتتاحيتها : حسن أن يرضيك نصف ماتسمع ، خير من أن ترفضه كليا حتى وإن كان وهما .
2 -العنوان :
اختار الكاتب للنص عنوانا : غزل في الممنوع ، وهو عنوان ثري الدلالات ، يحيلنا تلقائيا نحو منظومة المنع والحظر ، وماتخلفه في النفوس من خوف وانطواء وهروب وحذر شديد مخافة القصاص ، لكننا ومن خلال العنوان أيضا نستشف نوعا خالصا من الجرأة والتمرد ، فالغزل هنا هو الذي قام بفعل الاختراق ، ومخالفة قوانين المنع وأعرافه ، فكأن كاتبنا يخبرنا أن الغزل نوعان ، غزل مباح مسموح به ، وغزل محظور ، لكن لهذا الحظر الذي سيحدثنا عنه خاصة معنى مضاعف فهو بالإضافة لكونه مرفوضا ، نجده قد تعدى حدوده ، واخترق منظومة المنع والرفض في عقر دارها ، ليمارس غزله دون خوف وبلاهوادة ، وجملة غزل في الممنوع ، أيضا ذات دلالات سياسية واجتماعية قد تتعدى في مفهومها ، ذلك النوع من العشق والوله الذي يدور بين ذكر وانثى ، فكأن جملة العنوان تقول بصيغة أخرى : نقاش في الممنوع .
3 -الفكرة العامة للنص والزمكانية:
الغريب ، الجديد ، المختلف ، كلها صفات مرفوضة في المجتمعات التقليدية ، المنغلقة على ذواتها ، حتى فيما يخص الأفكار والنظريات والفنون والعادات ، ينظر إليها دائما بنوع من النفور ، والإبعاد والتهميش ، فتحاكم من خلال منظومات فكرية مسبقة تحمل بين طياتها نوعا من التشدد والتطرف مادامت رافضة لأي محاورة معها ، ترد عليها بعنف ، وتحصرها في قوالب أحكام جاهزة ومسبقة ، وفي قصة غزل في الممنوع نتعرف على مكان حدوثها فنتأكد من خلال ماساقه لنا الكاتب من وصف لسكان المحلة المنفتحين على بعضهم البعض بمايشبه العائلة الكبيرة وتلك حالة أحياء وحواري المدن الشرقية العتيقة كذلك يعطينا لمحة عن شكلها العمراني ، فالمنازل قديمة متشققة وإن كان ذلك قد نسب جهلا وظلما لبطلة النص التي وسمها الكاتب بسيدة الرعب التي شدتنا إليها وجدانيا وفكريا خلال هذا النص القصصي المكتوب باحترافية مدهشة ، اعتمدت كل أساليب التشويق والإثارة وتحريك المخيلة ، بما يقدمه الكاتب من وصف دقيق ، من حيث شكل العلاقة التي تربط شخص السارد بهذه السيدة ذات العيون الخارقة ، وهو يغرقنا في مونولوج حواري داخلي ، يجسد نظرته إليها التي بدأت مسطحة ، شأنه شأن باقي سكان المحلة ثم تحولت إلى رغبة أكيدة دفعته إلى فك طلاسمها رغم مايرافق التجربة من أخطار ، إذ يكفي أن يكون الشيء ممنوعا لكي يكون مرغوبا ، وقد لخص الكاتب رغبته هذه مضافة إلى حقيقة أنه على العموم فرد من مجتمع ينطبق عليه ماينطبق على الجميع بقوله : فكل ممنوع محبب والإنسان حريص على ما منع، ووقعت كما وقعوا ….فأنا فرد في هذا المجتمع….يصيبني ما يصيبه….أليس كذلك….!؟
ونحن إذ نقف عند سؤاله هذا ، والذي أراده أن يكون سؤالا إنكاريا ، نرى أنها ليست سوى حيلة من الكاتب كي يشاغبنا إن كنا من النوع الذي لايوافقه الرأي ، فلطالما اتفق نخبة المثقفين من الطبقة الواعية المتنورة حول العالم ، بأنه ليس ثمة مايوجب فكريا مثل هذا النوع من الخضوع للفكر السائد ، وأن إحدى خصوصيات العقل الواعي هو عدم الانسياق مع مايقوله العامة ، لكنها إحدى نقاط جمالية الكتابة عند الغالبي الذي يستهل جل قصصه بمايشبه اسلوب المقالة الصحفية ، وهو بذلك يضرب عصفورين او اكثر بحجر واحد ، فتتحقق له عدة غايات مختلفة ، منها ، تحقيق فعل الإمتاع للقاريء ، فانت لن تجد بدا خلال التهامك لكلماته ، من أن تتبسم مرتاحا ، برغم ما يسرده على مسامعك من غرابة ، مادام أسلوبه هذا يقرب المسافة بينكما ويجعلك تحسه شخصا واقعيا قريبا منك وليس بطلا خارقا يكلفك فوق ماتطيق من المثاليات والمعاني الأفلاطونية ، وهذا حسب رأيي ما اشتغل الكاتب عليه قصدا وعن وعي كامل ، والغالبي إذ يبوح لك ببعض آرائه من خلال نصوصه ، فلأنه يعتقد أن من واجب المثقف ان يعبر عن رأيه الخاص ، فأين يمكنه ذلك إن لم يكن من خلال كتاباته الإبداعية ، خاصة في هذه الظرفية الحرجة من تاريخ أمتنا والتي أصبح الكل خلالها عرضة للنقد الهدام ، والتأويلات الخاطئة ، والأحكام القاسية ، التي تدفع الكاتب لمراجعة سطوره الف مرة قبل ان يقوم بنشرها ، ولم لا قصة غزل في الممنوع إن سألنا عن ظرفها الزماني ، لن نجد بدا من أن نقول وعن يقين إنها سواء من حيث الشكل والخطاب واللغة والرمز والتقنية ، تتحدث عن وقتنا الراهن ، هذا إن لم نضع في عدتنا تاريخ إصدار المجموعة القصصية التي ضمتها بين صفحاتها ، سنوات العمر الهاربة ، والتي تعلن أن تاريخ صدروها 2016
4 -الصراع الدرامي وشخصيات النص :
ثمة خلف ستارة النافذة المقابلة لمسكنه تماما ، كائن مخيف ، كل سكان المحلة يتهيبونه ، الكائن الشيطاني الذي نشر الخوف والقلق من خلال الأصوات الغريبة التي تصدر من محل إقامته ، اتضح أنه أنثى ، الأنثى أوقعت بطل النص السارد في شباك غرامها السحري ، وحولته عن بعد إلى خاتم في أصبعها ، يعشقها ويدافع عنها ، في النص ليس هناك سوى بطلين اثنين السارد وذات العيون الخارقة ، فيما يتم التحدث عن باقي الشخصيات بصيغة الجمع ، الناس ، سكان المحلة ، نساء ورجال ، بعض المثقفين ، أو سؤاله أحدهم ، أو انطلاقه من خلال فعل الماضي المبني للمجهول : قيل ، وهكذا تبدأ القصة غامضة ، مليئة بالتشويق واللغز ، ثم تنتقل من مرحلة التساؤل ، ثم الترصد تحت فعل جاذبية الأمر الغريب المحفز للفضول ، وذلك مانلمسه من قول السارد :
ورصدت النافذة خلسة لكي لا أجلب الانتباه…..
إن اختياري لقصة غزل في الممنوع لم يأتي صدفة ولا عن ميل عاطفي بسيط لمضومنها المشوق ، ولكني وبعد قراءتي المتأنية لقصص المجموعة ، خطر لي ولست أدري إن كنت مصيبا ، أنها القصة المفتاح ، وأنها المدخل السري المعلن أيضا بصيغة جمالية أخرى لفهم قصص عبد الرزاق الغالبي ومحاولة التعمق فيها ، فهي إذ تضعك أمام كم هائل من التوقع والتخييل والمقارنة بين الواقع الذي لايزال مسستر المعالم ، وبين معطيات تجمع بين الاشاعة والقيل والقال ، تدعوك لمساءلة عصرك هذا ، ولا أظنها إطلاقا ذات ارتباط بخرافات قديمة ، ولا أظنها أيضا تروم التحدث عن حال عهود زمنية مكانية عربية سالفة ، فلقد أدهشني الكاتب بقدرته الرمزية البالغة ، فتخيلت النافذة التي يحدثنا عنها ، هي رمز مباشر لوسائل الإعلام ، من شاشة تلفاز ، وحاسوب ، وكتب ، تمطرنا في اليوم الواحد بعشرات القصص الجديدة المليئة بالرعب ، كم هائل من التخويف والترهيب والشعوذة الموجهة حسب مصالح المستفيذين منها ، إن قصة غزل في الممنوع ، والتي كما سبق وتطرقنا لعنوانها متعدد الدلالات ، فما أكثر الممنوع في عصرنا ، دينيا واجتماعيا وسياسيا ، وكل من تسول له نفسه الخوض في هذه الممنوعات ، منطلقا من كونه شخصا بسيطا حاله كحال الجميع ، قائلا : أنا فرد في هذا المجتمع يصيبني مايصيبه أليس كذلك ؟ ويطيب لي مرة أخرى أن أقف عند هذه الجملة الطريفة ، والتي أحسبها تلخيصا صادقا لقناعة الدكتور الغالبي _ الذي عرف رغم جلال علمه وفيض معارفه وسعة اطلاعه وأثره الأدبي _ بتواضعه واعترافه الدائم بأنه رجل بسيط ، حاله كحال جميع أبناء جلدته العرب سواء تعلق الأمر بأبناء وطنه العراق أو أبناء وطنه الكبير هذا العالم العربي ، الذي يشاطره الهموم والآلام ، ويشعر بأدق تفاصيل معاناته ويتوجع لها ، من خلال كتاباته الادبية والعلمية النقدية ، تأسيا بأمير الشعراء أحمد شوقي القائل :
كلما أن في العراق جريح
لمس الشرق جنبه في لمعانه
كان شعري الغناء في فرح الشرق
وكان العزاء في أحزنه
من يقرأ مجموعة سنوات العمر الهاربة لابد أن يكتشف غيرة الرجل على وطنه وحزنه الشديد لما يتعرض له إخوانه من ذل وقتل وجوع وتشريد وتهميش واستعمار ، هذا فقط بعض مما باحت لي به قصة غزل في الممنوع ، قصة الشجاعة والجرأة والتواضع والبحث العلمي الذي يبدأ بسيطا ، وينتهي وضوحا ، هذا الوضوح الذي يشكل نواة فكر عبد الرزاق الغالبي الذي يرفض رفضا قاطعا كل أشكال التمويه السوريالي في الخطاب الأدبي الشعري والقصصي ، دون أن يخجل من إعلان أفكاره صراحة ، هو الذي يرى أن رسالة الأدب لابد أن تتضمن فكرا إصلاحيا لا هداما ، كل هذا سيق لنا من خلال قصة تعتمد التكثيف الشديد ، وتلبس حلة اللغز الذي يحرك فينا ملكة البحث والتقصي والانصات ، من أجل أن نخرج بقناعات راسخة ، فلا نحكم على مالانعرفه حكما سطحيا ، والا نكون فريسة للإشاعات الرخيصة ، وأن نتبع قلوبنا ونصغي لدقاتها ، غير غافلين قيمة الصدق والشجاعة ، كل ذلك في سبيل بلوغ الجمال المفقود ، الغالبي كاتب يتغنى بالجمال في قصصه ويبحث عنه ويكشف عنه الغطاء ، جمالا انثويا محاصرا بسوء الفهم في قصة _ غزل في الممنوع _ مهدد بالزوال في قصة _ مقتل وجه _ جمال محاط بالوهم بسوء الفهم والتدبير جمال يأخذ منه الجوع نضارته ويتركه شاحبا كالقمر ، جمال أسري يذبح من طرف أشرار ملثمين ، في بلدة بالغة الجمال ، جمال ضائع أخذته معها السنوات الهاربة ، هاربة خوفا وحزنا وانطواء وقلة حيلة أمام جار طيب يغادر وجار ينزل من درجة الفقر إلى فقر أقل درجة وصديق قضى في معتقل جميل جدا مؤهل لنيل درجة الخمسة نجوم صديق ذهب ضحية حرب ظالمة ،جمال كانت له أيام للخير واليمن والبركات ، ثم هازهيراته يسقطهن الإغماء من الجوع ، جمال متجسد في زهرة بيضاء تتعرض للقصف في كابوس تضيق خلاله حدود الوطن ، جمال حبيس في قلب أب يرى المنظومة التعليمية بيد الجهلاء والمتعصبين ، نعم ليس ثمة صراع درامي أشد وأبلغ من هذا في تصاعده الهرمي ثم انزياحه نحو الحل ، وهنا روعة فن القصص القصيرة ، ولماذا تفرض نفسها كجنس أدبي وافر القيمة ، فلو أنها كانت رواية ، لما كنا نتذوق حلاوة نهاية لم تخلو من مرارة ولي حول المرارة التي تسكن الحلاوة وقفة أخرى في مدخل لاحق فلنكتفي بما يشبه النهاية السعيدة تجاوزا في متم قصة غزل في الممنوع :
طرق مسامعي صوت زغاريد واتضح أنه يخص ملكة الرعب ، سألت وجاد الرد فرحاً ……..هتفت بصوت مسموع :
“يا الله….!”
5 -العقدة :
أمسيت مطية مطيعة للتوجس ، وأنا أجاور هذا الكم الهائل من التساؤلات ، وحاولت تغيير محل إقامتي وأسعفتني ثقتي المطلقة ، بأن حل أي معضلة يكمن بمواجهتها دون الهروب منها فخجلت من نفسي وآثرت البقاء عناداً كي أتعايش مع هذا الأثير المرعب إلى النهاية……. ولا أخفي سراً إن قلت ، إلى الآن وأنا لم أواجه شيئاً مما يكمن خلف تلك النافذة سوى الادعاء….
الخطر قريب وكامن سواء خلف النافذة أو بداخل السارد الذي استبد به الهلع والتوجس خيفة من شر وشيك الحدوث ، فحتى الان لم يبدر عن الشيطان المذكر الذي يتجسد على هيأة أنثى ، يتعفف الراوي أن يلصق بها هذا النعت المشين ، جريا على عادة كاتبنا في مخالفة السائد المستورد من ثقافة مادية صرفة ، وذلك من خلال تمسكه بالمعاني الإسلامية الفاضلة ، وكيف لا وهو الكاتب والناقد الذرائعي في نفس الوقت ، وهو أيضا ذلك الذي يدعو نخبة المثقفين من إخوانه العرب إلى نبذ الفكر النقدي الغربي الذي وقع في أخطاء كثيرة مركزا على اللغة والشكل ومهملا لب النصوص وماتتضمنه من خطاب حضاري وفكري وعاطفي ثري ، فلطالما وجدنا جل فلاسفة الغرب يصفون المرأة بالشيطان ، تلك التي كرمها الله في محكم كتابه القرآن الكريم ، فشرع لها من الحقوق والواجبات ما أهلها لتكون شقيقة الرجل لها ماله وعليها ماعليه ، وهكذا نتابع بلهفة مسار الحكي المتتابع بترابط متقن ، حيث يخبرنا السارد أنه وبعد ازدحام الأفكار برأسه قلقا وحيرة ، بدا له أن يغير محل إقامته ، حتى ينجو بنفسه من شر هذا نذير الشؤم ، الذي يقابله ، لكنه أحس بخجل شديد من نفسه ، فكيف سيواجهها بعدما يعطي الدليل على خوفه وجبنه ، ثم أدرك بعد تفكير مليء أنه لاحل سوى التحدي والعناد ، فآثر البقاء مواجهة أو تعايشا ، هذا ولم يحدث بعد أي شيء ملموس يدل على نية هذا الغريب في التسبب له بأية إذاية ، فكل الحكاية محض ادعاء .
6 -الانفراج والحل:
في تصاعد درامي مشوق و موفق إلى أبعد حدود للقصة يحدث أن يلتقي البطل صدفة بذات العيون الفتاكة والتي هام بها عشقا ، فارتعدت اوصاله في حضرتها ، فتلعثم في الكلام مثل صبي في حضرة معلمته :
/ تبدو أحياناً وكأنها خائفة مني قليلا….!؟ استمر الحال هذا شهوراً حتى خدمتني الصدفة يوماً وابتسم لي القدر وقابلتها عند خضار المحلة ….. تحاملت على نفسي كثيراً و بادرتها التحية بصوت مرتعش ، ردتها سمفونية فيروزية تسلب اللب وتثلج الأسارير .
وهي أيضا وبعدما كانت تبدو خائفة منه قليلا ، ردت عليه التحية بأجمل منها ، ومن هنا ندرك أن الخوف شعور متبادل ، سواء كان بين إنسي وجني ، أو بشر ودابة ، أو غريب وغريب ، وهكذا اطمأن كل منهما للآخر ،
/ بدأت أبحث عن حدود أحاسيسي باتجاه واحد هو تحسين صورة هذه المخلوقة الرائعة بعيون الناس فهي مثار جدل غريب لا ينتهي……هي مدار خوف للبعض، وراحة واسترخاء لي /،
الانفراج الواضح لعقدة القصة ، يشبه انفراج الأجواء العليا بعد احتلالها من طرف الغيوم الكثيفة والملبذة ، وسطوع أشعة شمس الدفء والصفو والتعايش ، وهكذا أصبحت قضيته الأولى التي يدافع عنها ويحسن صورتها مااستطاع في أعين سكان المحلة ، بعدما أدرك بعميق إحساسه وصدقه مع نفسه وانسلاخه من خلال التجربة عما قيل ومايقال من شعوذات ، وانقلب إيجابا من حالة المذعور إلى حالة الداعي للاستئناس بها فكان حصاد زرعه وافرا وهذا جلي عند قوله :
/أمست قضيتها مدار نقاش مع بعض المثقفين من الجيران، وبدأ الشد يرتخي قليلاً تحت حماسي المطرد حتى بادر البعض بالتفاعل معها إيجابياً وصارت عيناها الحاسدتين تأخذهم قسراً وسحراً نحو الجمال حتى كسر الطوق ونعتت أخيراً – بالمرأة ذات العيون الجميلة-/
يروق لي هنا أن أعود إلى طرحي السابق لاعتد بهذه الجمل الصريحة التي ساقها الكاتب والتي تعزز زعمي الأكيد ، حيث كنت شددت على أهمية بحث الدكتور عبد الرزاق عن الجمال ، هذا الجمال الهارب من خلال عنوان المجموعة القصصية ، هروب قهر في قصص عديدة ضمتها بين دفتيها ، وهروبا من نوع ماجاء في قصتنا هذه غزل في الممنوع ، إذ يتأكد للقاريء أن هروب السيدة ذات العيون الجميلة من سكان المحلة وتخوفها منهم ساهم بشكل فعال في زرع بذرة خوفهم منها بالمقابل ، حسنا فلنتابع :
/ وتعدل مسار التفكير المنحرف بين مطرقتي المستمرة وسندان صمتها باتجاه تفكير مهذب تملؤها الإنسانية والاحترام . /
وهل يعني صمتها سوى حسن أخلاقها ، ورضاها عنه ، وكذا رضيت عن أهل المحلة ورضوا عنها ، ومدت بينها وبينهم ألفة ، فكانت لها زيارات ، واندماج واعتراف متبادل :
/ولم يعلن العام نهايته حتى عادت إلى حياتها الاجتماعية الطبيعية…ومسح الماضي من قاموس حياتها نهائياً…../
حتى طرقت مسامع بطل القصة أصوات الزغاريد ، فقال متمما عبارات الرضا عما فتحه الله على يديه :
/نظرت نحو شباكها المغلق دوماً…..اندهشت حين وجدته مفتوحاً على مصراعيه……./
ب – النسج الجمالي للنص :
1-الأسلوب :
في البداية وعند القراءة الأولى لقصة غزل في الممنوع خالجني شعور غريب ، غرابة أحداثها قبل أن أغوص فيها شرحا وتدبرا ، بخصوص الأسلوب المعتمد في كتابتها ، أسلوب يجمع بين الرمزي ، والإخباري ، الفلسفي أحيانا والبسيط حينا آخر ، هذا وقد تزعم ولا خوف من ذلك أن أستاذنا محترف تكثيف فهو يخفي الكثير ويظهر القليل ، كأنه لايعنيه ذلك القاريء الذي يستعجل النتائج ، فالقصة على قصرها ضمت نفسا سرديا بديعا وعميقا ، تخللته بعض الاشارات المباشرة التي تشبه التصحيح و التي يراها الكاتب ضرورية لمنح المتلقي نوعا من النباهة واليقظة ، فكأنه يقوده خلال دروب حلم لانهائي ، ويرى أن من واجبه تذكيره بين الفينة والاخرى أنه في حلم ، مما يستدعي حواس القاريء الواعية ، فيستحظر بذلك إمكاناته في التحليل المنطقي للأحداث ، وهذا مادفعني للإعلان صراحة أنني أمام نوع جديد ومبتكر من الادب القصصي ، نحن نعلم جميعا أن القصة بشكلها الكلاسيكي تعمد الى تشويق القارئ من خلال خط زمني متتابع انطلاقا من البداية حتى النهاية ، مما ينتج قارئا مستعجلا لايتدبر المعاني لان كل غايته بلوغ النهاية ، ثم جاء نوع آخر من القصص المجددة التي تخبر القاريء عند بدايتها كل شيء يتعلق بالنتيجة السردية ، فيكون الكاتب بذلك قد ازاح عن متلقيه ثقل الانتظار ، مما يهيأ له الظرف المثالي لتدبر النص ، ولولا طول الدراسة التي انا بصددها لسقت عشرات النماذج عن ذلك ، ونماذج اخرى لاحصر لها ، لأثبت أن كاتبنا الغالبي ، عمد إلى شكل جديد يجعل القاريء من خلاله فاعلا واعيا ، ومتأثرا في نفس الوقت ، فما حصده الكاتب من وعي فللقاريء فيه نصيب ، وما سبح فيه الكاتب من تخييل ورمز فليس أمام القاريء أيضا سوى أن يأخذ نفسا عميقا ثم يغوص خلف أو مع كاتبه ، هذا الأسلوب الجريء في الكتابة وبعد إخضاع النص للمقاييس السبعة ، التناسق ، الترابط ، المقبولية ، الموفقية ، الاخبارية ، القصدية ، والتناص ، جعلني أرشح القصة لتكون واحدة من أروع وأجمل ماقرأت في تاريخ الأدب ، وقد عرضت لي عدة تعقيدات فيما يخص تأويل الأحداث ، وأنا اشعر بانقطاع على مستوى الاقناع والسببية فيما يخص انتقال الكاتب من قناعة الى ضدها ، سواء تعلق الأمر بما يدخل في إطار علاقة السارد بالانثى اللغز ، أو مدى تقبل الناس لها ، أو استئناسها هي بشخص الراوي أو الناس ، فكان مبعث ذلك الانقطاع سؤالات مؤجلة بقيت في نفسي ، بخصوص ماقاله للناس كي يغير نظرتهم اليها ، وماالذي حدث تحديدا لكي تحبس في منظقة الرعب ، وماالذي دفعها بالظبط كي تصدق سلامة نية صاحبنا ، فكدت بهذه التساؤلات أسقط في منزلق التقليل من شأن النص ، لولا بحثي عن نسخة أخرى للقصة خارج ماقدمته لي المجموعة من سطور ، فوقت على الجزء المحذوف من القصة في المجموعة ، فكان ذلك حظي الاوفر ، بحيث تبين لي أن مبعث سوء الفهم كان من قصر نظر ، أعانيه وقلة تدبر ، وليس ضعفا في القصة ، حيث أنه كان أحذر بي أن أفهم لولا اني اهتديت أخيرا أن الكاتب استعان بواحدة من تقنيات المحسنات المعنوية والبلاغية ألا وهي المبالغة ، عاتبت نفسي كثيرا على غفلتي وتسرعي ، وأصبح النص بين يدي سهلا يهبني نفسه بيسر ، فكان جواب مابقي في نفسي من أسئلة ، أن المقصود بكل تلك الجمل المرعبة والمخيفة ، وكل تلك الأفكار المتظلمة التي تهول من شأن إمرأة عادية ، إنها الطرافة إذن في أسلوب عبد الرزاق عودة الغالبي ، الذي يسخر من معتقدات لاأساس لها من الصحة وذلك بالمبالغة في توصيفها ، حتى تنال حكمها العادل من الرفض والالغاء ، وهكذا فهمت ماذا قال وماذا قالوا وماالذي فكرت فيه سيدة الرعب الجميلة ، والكاتب إذ عمد إلى اسقاط تلك الفقرة التوضيحية عند نشر القصة في المجموعة التي بين يدي الان /سنوات العمر الهاربة/ طبعة 2016 ، فانما غايته من ذلك ، ترك المجال للقاريء كي يتوصل إلى ماتوصلت إليه ، فثمة طبعا قراء يفوقونني قدرة على قراءة مابين السطور ، ومن أجلهم طبعا كتبت هذه القصة ، وهاهوذا الجزء الذي مد لي يد العون والذي كان سيسقط القصة في مايشبه المقالة العلمية الاجتماعية ، فخيرا فعل كاتبنا :
ارض مجتمعنا خصبة ، والحمد لله ، جاهزة تماما لزراعة الاشاعات والغيبة التي تكبر وتطرد حين تروى بماء النكز واللكز و التهامس في المسامع فتأخذ حيزا كبيرا ومثيرا للخبراء في هذا المجال ، هي تسلية لذيذة ومحببة و مكروهة بنفس الوقت وكأنها ابغض الحلال….ولكنها تنمو بذرة صغيرة بمساحة صغيرة و برهة اصغر ثم تتكاثر عن طريق الانقسام الخلوي الذي يحدث في خلايا الاجسام الحية حتى تحتل مساحات ضخمة حين تصبح قصص وحكايات مختلقة السرد والتأثير ويختفي الاصل والمصدر الا من واحد رئيسي ينفرد بالاعتماد : (يقولون) من هم ….!؟…لا يعلم المتكلم ولا المخاطب…..!! تطرد وتكبر في هذا الاثير المكهرب لتصبح عمالقة و كبائر خصوصا اذا ترشحت عليها تغذية راجعة ومسحة من ظنون انثوية وهذا ديدن نشط المفعول في مجتمعاتنا الشرقية بصفة خاصة ، ولا تنفك عنه اكبر المجتمعات تحضرا وثقافة وله اسم متداول باللغة الانكليزية (gossip) .يشابه بطريقة اللفظ المفردة الشعبية العراقية ( كصب اي ذبح) وهو فعلا كذلك لو اخذنا بنظر الاعتبار نتائجه السلبية…!؟
2-السرد :
حسنا ولأنها المرة الأولى التي أقوم خلالها بكتابة تحليل ذرائعي براغماتي لجنس القصة القصيرة ، فأنا جد حذر من أمرين أن أكرر نفسي من مدخل لآخر ، أو أغفل عن مدخل ربما لايستقيم النقد الذرائعي بدونه ، فالجميع يعلم أن حدود النص الأدبي ليست واضحة وضوح الأرقام ولا الأشكال الهندسية ، فثمة تداخل وتماهي في المعاني والثيمات والتقنيات المعتمدة ، وقد أورد في مدخل ما تحليلا ربما كان أجذر بي لو تركته لغيره من المداخل الأخرى ، بيد أني أعتمد على القليل من الحدس والكثير من التوفيق بين المداخل ومستلزماتها ، والآن إذ بلغت مدخل السرد في تحليلي للقصة أراجع ماسلف مبتسما في هلع ، بطل قصتنا غزل في الممنوع وهو يصور نفسه من سحر عينيها حدثا نسي درسه ووقف أمام معلمته مرتعشا ينتظر العقاب ، وأتساءل ، ألم يكن بعض أو كل الذي سقته حديثا عن السرد ، فما الاسلوب وما الصراع الدرامي والعقدة والانفراج والبناء الهيكلي ، لكن الجدية تفرض نفسها وتلزمني ألا أتنازل عن حقي الكامل في التطرق لكل مدخل بما يناسبه ، فأقول مثلا إن الجانب السردي في القصة يمتاز بالجدية رغم كل الذي قلته عن الطرافة والمبالغة ولولا تلك الجدية ما استهواني النص في الأساس ، حيث أن بلاغة السرد وترابطه ووحدة موضوعه وانسيابه لغة ومعنى وتراتبية ، وأسبابا ومسببات ، وكيف كان السارد ينقلك من فقرة إلى أخرى بيسر مستساغ ، ويحفز مداركك لكي تستشف الخلاصات وتواصل برغبة جامحة من صفاتها التأني والرصانة التي طبعت النص ، فأثرت بقوة في نفسي ، وجعلتني ألاحق المفردات باشتهاء ، وكأني أجلس في حضرة الغالبي يقص علي تفاصيل ماحدث ، فلا أجد بدا من الانصات له ، وهو يأخذني حينا إلى الزمن الماضي ثم ينقلني للزمن الحاضر ثم يتركني معلقا بينهما ، فيطوي شهورا ، ثم يخبرني عن صدفة ابتسم خلالها القدر لأعلم أني في زمن سردي متقدم عن الزمن الأول الذي انطلقت منه ، ويبرق بسرعة الضوء في مفاصل عام كامل ثم يضعني أمام آخر مستجدات الأمس ، رائع جدا هذا التمكن وهذا التحكم في الزمن حسب ما تقتضيه القصة ، انتقالا من زمن ماضي له نكهة الحاضر ومصداقيته ، إلى زمن ماضي أقرب إلي من سابقه ، يشعرني أنني في حاضر ثاني أكثر قربا والتصاقا بزمني الآني ، تلك موهبة الكتاب الكبار القادرين على توليد الازمنة ، وترصيص مسالك السرد ، دون ملل ولا إغراق في لغة الغموض ولا المماطلة .
3-الوصف والصور البلاغية في النص :
تميزت قصة غزل في الممنوع بوصف بالغ الدقة تصويري احترافي كأن الكاتب ينقل لنا الحدث من خلال كاميرا سينيمائية ، تدهشنا وتقربنا حد الوضوح من مفاتن اللغز وتضعنا أمامه فكأننا داخل قاعة عرض مشدودين بكل حواسنا إلى الشاشة التي تصور لنا نافذة سيدة الرعب ، وكل ذلك تأتى للكاتب من خلال لغة فصيحة لم تعتمد اللفظ الغريب وإنما حاصرتنا بجمال التراكيب والتوظيف البديع للحروف في توليد عجيب ، كما أنها عرفت حضور كم شيق ومثير من الصور المبهرة المختلفة بين تشبيه كناية وتجسيد واستعارة ، منها قول المؤلف :
_ وقطفت النبتة الأولى من حقل الإشاعات ،
_ ملاحقة الموقف وملامسة عروقه ،
_ دسومة الغرابة
_ أخت الشيطان
_ مطية مطيعة للتوجس
_ ولاح بريق العيون
_ نافذة الرعب
_ السباحة في الخيال
_ رحاب واسع لشعلتين ذابلتين
_ صيرني سحر عينيها حدثا ،
_ شعرت بنسمات منتجع أسكنه ولا أسكنه ،
_ ومرة أولى يتفق هذان الثنائيان المتناقضان فوق عقارب الساعة على شيء واحد ،
_ مغناطيس يحتل مقلها
_ فجمال عينيها قد يكون سببا للشروخ ،
_ فلو أبحروا كما أبحرت ،
_ خاتما يحتل أصابعها ،
_ ردتها سمفونية فيروزية ،
_ سفري في الأثير المهلك
_ مخالب خليط غريب من صراع ،
_ ملجأ أمين أضعها فيه ،
_ مطرقتي المستمرة وسندان صمتها
_ ومسح الماضي من قاموس حياتها نهائيا
_ ملكة الرعب
هذا وتعتبر القصة في أغلب الأحيان أقل حظا من الشعر فيما يخص أشكال وصيغ وألوان البلاغة ، هذا وقد بحثت في النص عن أي تناص شعري او قصصي ، مثلا او حكاية او اغنية او غير ذلك فلم اهتدي لأي شيء ولم أضع أصبعي على أي نقطة تناص يمكن الاستدلال بها وكان النص الذي يبين يدي وليد نفسه ، منقطع عما قبله ، متحصن من أية تأثيرات خارجية ، نعم قرأته عشرات المرات ، ولم تسعفني ذاكرتي بشيء ، اللهم ما يتقاطع داخل هذه القصة من مواضيع وجمل وصور وعبارات تراها واضحة في القصص الأخرى ، التي وجدت فيها كما هائلا من الأمثال الشعبية ، كقول الكاتب في نهاية قصة وهل يشيخ الجمال ، كل فولة ولها كيال ، وقصة الوهم التي هي تناص باعتراف الكاتب نفسه في ختامها كتذييل بأنها من الثرات الشعبي ، فكأن الكاتب في قصة غزل في الممنوع لم يرتض التناص سوى مع نفسه ، وهذا طبعا لم ينقص في رأيي شيئا من جمال القصة ولابلاغتها ، وانما جاءت أشبه ماتكون باللوحة التجريدية الجميلة الواضحة الدلالة ، إلا فيما يخص قول الكاتب :
فكل ممنوع محبب والإنسان حريص على ما منع ، بحيث أرى في هذه الجملة تناصا كبيرا مع قصة الانسان عموما ، ولو افرد لها مدخل خاص بها لما كفاها ، لما تضمنته من إحالات لانهائية الاحتمالات ، وماتضمتنه من عمق فلسفي لن تنتهي من إحصاء دلالاته ولا إحالاته مهما حاولت ذلك، ستكون أشبه بغواص يريد الوصول إلى قعر يم ولايصل ، فلايخفى على أحد أن قصة آدم أبو البشر وأمنا حواء ، هي تجسيد سابق لمقولة كل ممنوع مرغوب ، والتي تداولتها جميع شعوب العالم مثلا ودراسة ، لما فيها من ارتباط وثيق بعمق التكوين الانساني الذي يزداد تعلقا بالشيء كلما حف بالتحريم ، وخاصة إذا كان هذا الممنوع يخص شخصا ما ويمنح الاذن به والاباحة لآخرين ، دون أن ندخل في تفاصيل فساد أمة أو اتفاقها او ايجازها لفعل منهي عنه ، كما في قصص أقوام الانبياء ، ابراهيم ولوطا وشعيب ، هذه الجملة في نظري تعادل النص كله وتختصره ، وتحتض عنوانه ومجمل خطابه ، وترفعه نحو درجة التفوق من حيث شرط التناص ، فلقد أغنت النص عما دونها من قصص وأمثلة واقتباسات ،
-4 الحوار:
بالنسبة للحوار أيضا فثمة محاورة داخلية على طريقة المونولوج حيث يحاور السارد نفسه في غير ما مرة ، حوارا ضمنيا يدخل في إطار تقنية السرد المكثف الذي لم يترك له المجال لكي يصاغ ويسطر بالشكل الحواري المعتاد ، ولعل قصة من نوع غزل في الممنوع هي أصلا حوار متواصل بين معطيات النص وتفاعلات القاريء تلخصها جملة السؤال الطريف ، الذي جاء بصيغة ، أليس كذلك ؟!
ب-المدخل السلوكي :
لقد اتفق لكاتبنا عبد الرزاق الغالبي في هذه القصة مالم يتفق للكثير من كتاب القصص القصيرة ، فهو انتقد المجتمع بذكاء وألمعية ، دون أن يمس بمقدساته ولا أضر بالمنظومة الأخلاقية ، وكيف لا وهو الناقد البارع الذي عرف كيف يستل الشر من جسد الجمال كما تستل الشوكة من غير دم ، فبقدر ما لمح بل وأكد تزمت مجتمعه وانغماسه في الشائعات والخرافات ، بقدر ما عاد وضمض الجرح الطفيف الذي أحدثه ، مشاغبة وطرافة ، فهيأ جوا من التقبل والموافقة ، من خلال ما حدثنا عنه وعن كفاح بطل النص من أجل تغيير المفاهيم ، فكيف لايكون قد اثنى خيرا على بني جلدته ، وهو يخبرنا عن جميل تفهمهم وتقبلهم للحوار ، وما رضاهم عن سيدة الرعب أخيرا إلا دليل على تقبلهم للفكر المحدث بعد اقناع ، ودليل أيضا على طيبة أنفسهم وصلاح سريرتهم التي إذا انساقت مرة خلف دعوة الجهل ، فتحت أبواب العلم على مصراعيها ، ففي النص كل ما تؤدي اليه الرمزية من معنى أنيق ، حضاري لافث ، وهذا مايدلنا أخيرا على تمسك الكاتب بأعراف قومه وافتخاره بانتسابه اليهم ، فلن ننسى أبدا كيف استدرجنا خلفه نحو افقه القصصي البارع ، باعترافه المسبق بأنه من عامة الناس ، فلم نلحظ أية إشارة على التمرد أو القدح ولا أي نوع من أنواع التهم المحقرة ، هي بيئته واقعيا وفنيا أدبيا وخطابيا ، لارفض ولا تبرأ ، مما جعل خاتمة الصبر شهدا ، دلت عليه حالة الانسجام في الأخير .
ج-المدخل الاستنباطي :
وأنا أقرأ قصة غزل في الممنوع، غادرت أمكنتي المعاشة ، وارتحلت بجميع أحاسيسي الى عالم القصة ، فوجدت في ما رواه الكاتب نوعا من الارتحال الانساني إلى حاضرته وبمعيته ، وإني لأكاد أجزم أن الحالة هذه ليست فرض كفاية ، على قاريء معين ، فليس ثمة من يحسن الاصغاء والتدبر ، والتقمص الفعلي الوجداني للنص ولا يخترق الابعاد الواقعية لمحيطه الشخصي ، فيغدو حاملا للهم نفسه الذي يحمله الراوي ، يحب مايحب ويكره مايكره ، فتتجسد فيه روح البطل المحوري للمحكي ، فتتسارع دقات قلبه خوفا ورغبة مع تقلبات السرد وتصاعده ، فإذا بي أشعر بضرورة الدفاع عن ذات العيون المخيفة التي يراها الناس كذلك وأراها عيونا اختصرت الجمال والحسن كله ، وأني ملزم حد التماهي مع بطلي ، بالفرح لفرحها ، والذوبان في حالة عشقها ، لاصير انا ايضا خاتما تحركه كيف تشاء ، وكيف لا والفاعل المؤثر المؤدي الى كل هذا هو كاتبنا الغالبي الذي عرف كيف يجذبني مني اليه ، ويحملني ما اطيقه من وجد ونضال ، وكفاح مستميت من أجل الكشف عن الجمال المخبوء تحت ركام الاشاعات الباطلة .
د- المنظور العقلاني :
على ماتضمنته قصة غزل في الممنوع لكاتبها الدكتور عبد الرزاق الغالبي ، من جنوح نحو الخيال والرمز والتكثيف الفني والعمق الفلسفي ، إلا أنها ومما يجدر التنويه له ، استطاعت مخاطبة العقل الواعي ، بشكل موازي مدهش ، يجعلنا نقر للرجل بالعبقرية ، فكلما ساق لنا مشهدا خارقا للعادة ، كلما ألحقه بجملة تختصر الوعي ونفاذ البصيرة ، على عكس ما تمسك به دعاة الواقعية السحرية من كتاب أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وبعض من تلامذتهم في العالم العربي ، أو حملة مشعل التصوف ، ممن يلغون حدود الكاتب ومعتقداته ومايسوقونه من خوارق وماوائيات ومعجزات قد لايصدقها عقل القاريء العادي إلا من باب التواطيء قصد الاستمتاع والاستئناس ، كما نفعل حينما نقرأ تلك الملاحم اليونانية المغرقة في نسق ميثولوجي صرف ، فنتابع باهتمام صراع الآلهة فيما بينها ونحن نعلم علم اليقين ألا إلاه إلا الله ، هؤلاء الكتاب الذين ينغمسون في مسارات حكيهم وحبكاتهم الشديدة الانزياح نحو العوالم الخرافية والفانتازيات المدهشة ، لكن كاتبنا الغالبي ، يتوقف حينا لينبهنا من مغبة الابتعاد عن الارض والتحليق في السماوات ذات الابعاد اللامنطقية ، مخافة أن نتوه ونظل ظلالا بعيدا ،
ومن ذلك حين تطرقه للاشاعات ، اذ يقر بانه قطف له نبتة من حقلها ، قوله : دون التأكد من صحتها ، كذلك وأثناء حديثه عن الانثى قوله لما سماها اخت الشيطان معللا : ولم أقل هي الشيطان نفسه ، فأنا أرفض وبشدة كون الشيطان أنثى ، لاحترامي الشديد لكينونة الأنثى ، وفي فقرة أخرى ووسط سخونة التخييل يسكب كأسا ماء بارد على رأس القاريء بقوله : إلى الآن وأنا لم أواجه شيئاً مما يكمن خلف تلك النافذة سوى الإدعاء ، ثم إلى بيت قصيد تخريجاته المنطقية العقلية الصرفة قوله : وهذا شأن آخر لايخضع للعقل والمنطق بل يتجاوزه نحو التمرد والسباحة في الخيال ، وتبقى الجملة الرائعة التي سأسوقها استشهادا في الأخير من أجمل ما قرأت ، لما حوته من لطيف توفيق بين الواقع والتخييل كنوع من التصالح العمد والتفاوض المتسامح بينهما ، حتى لايشعر القاريء بأنه يتابع ساردا يعاني انفصاما بين العاطفة والعقل ، فقد ينحاز المتلقي لهذا المنحى فلذلك وجب مد جسر له بين العالمين وشدهما برباط جميل يشبه شريط تزين علب الهدايا ، ولم لا والجملة جاءت كما يلي : فجمال عينيها قد يكون سببا في الشروخ فعلا ، وليس الحسد المفترض .
رابعاً- الخلفية الأخلاقية :
في قصة غزل في الممنوع ، نرى الكاتب وإن كان قد وقف على طرف النقيض من فكر العامة ، واعترض بشكل طريف وجاد على ماذهبوا إليه من مغالاة في تهويل مدى الغرابة الحاصلة بينهم وبين السيدة محط الاشاعات ، فهو لم يتهمهم صراحة بأي شيء ينتقص من إخلاقهم وإن كان عموم النص فيه تلميح مبطن لذلك ، بل على العكس حاول أن يكون متلطفاً ، فلم يعمد للتجريح ولا القدح ، إنما اختار أسلوب النضال الشخصي من أجل الدفاع عن معتقداته ، والتي يؤكد غير مرة أنها جاءت بالتدريج ، فهو كان ممن تأثروا بالخرافات والإشاعات ، شأنه شأن الجميع ، لكنه سرعان مانفض عنه غبار الوهم وحقق غايته في الانتصار للحق والفضيلة ، من خلال النص القصصي غزل في الممنوع نكتشف مدى حرص الكاتب على تأكيد انتمائه وهويته المحلية ، واحترامه لعادة قومه في النظر للأمور الغريبة والمستجدة ، لكننا لن نغفل إطلاقا ذلك الخطاب الأخلاقي الواضح كخلاصة لايمكن الاستسهال بها ، أن كاتبنا عبد الرزاق عودة الغالبي ، شخص مجدد ، متمرد في عمقه على الجهل والمعتقدات الواهية ، لكنه بالمقابل لايفرضها فرضاً وإنما يحاول تمريرها بذكاء ، وتلطف لا يفسد ما بينه وبين الآخرين من حب ومودة ، وهذا في حد ذاته درس أخلاقي عظيم لمن حاول ، أو فكر أن يتبنى مهمة التصحيح والتجديد ، ألا يكون فظا ولا عنيفا ولا متعالي النظرة .
خامساً- الإسناد الرقمي :
اعتمدت في المدخل الرقمي على ماتضمنه النص من دلالات احصيتها بعدما قسمتها حسب معانيها : فجاءت كالتالي :
الدلالات الحسية الإيجابية :
غزل_ 1 /محبب _1 /حريص _1 /النبتة _1/ أنثى _2 /احترامي _3 /أسعفتني _1/ ثقتي _1/ حل _1/ خجلت _1/ البقاء _1 /عناد _1/ أتعايش _1 /بريق _1/ التمرد _1 /نورهما _1 /رحب _3/ معلمته _1/ سكينة _1/ اطمئنان _1 هدوء _1/ نسمات _1/ الاسترخاء _2/ العنان _1/ حواسي _1/ جديد _1/ مورق _1/ قلبي _1/
يتفق _1/ صافحت _1 /حرارة _1 /جمال _3 /
عشقا _1شراسة _1/ يجود _1/ الصدفة _2/ ابتسم _1/ التحية _1/ سمفونية _1/ تثلج _1/ الأسارير_1/ الإعجاب _1/ ملجأ _1 /أحاسيسي_1 /تحسين _1 /الرائعة _1/ حماسي _1/ التفاعل_1/ إيجابا _1/ مهذب _1/ الانسانية _1/ شجعها _1/ الخروج _1/ الاختلاط _1/ الشيقة _1/ الطبيعية _1/ زغاريد _1/ اتضح _1/ ملكة _1/ جاد _1/ فرحا_1/ ياالله _1/ اندهشت _1/ مفتوحا _1/
عدد الدلالات الحسية الإيجابية : 73
الدلالات الحسية السلبية :
صمت _3/ خبيثة_1/ مرعب 5/ شرك_2/حيرة _1
خلسة _1/البغيض _1/دناءة 1/ضعف_1/مطيعة _1
التوجس_1/معضلة _1/الهروب_1/الإدعاء _1/
العقاب_1/المتناقضان_1/التغيير_1صفاقة _1
يحتل _1/تشقق _1/الشروخ_1/الحسد_1/حقدهم_1/خائفة_1/مرتعشة_1/تسلب_1/المهلك_1
مخالب_1/الخوف_2/الشك_1/الحاسدتين _1/
قسرا_1/الطوق_1/المنحرف_1/السلبي _1
عدد الدلالات الحسية السلبية : 43
73-43=30
نستخلص من هذه العملية أن: الميل البراغماتي : ذي الدلالات الايجابية هو الغالب بمعدل الربع ، وهذا ماجعلني أشعر ومنذ البداية أن هاجس البحث عن الجمال والانتصار له هو التيمة الغالبة في كتابة استاذنا عبد الرزاق الغالبي ،
الدلالات الحسية الاجتماعية :
الناس _2/الانسان _1/مامنع_1/فرد _1/المجتمع_1/ الإشاعات_1/إقامتي_1/الجدران_1/
البيوت_1/المحلة_4/صورة_1/المثقفين_1/الجيران_1المرأة_1/الشارع_1الزيارات_1/ المناسبات_1/نساء_1/رجال_1/حياتها_1/ الاجتماعية_1/
عدد الدلالات الحسية الاجتماعية : 25
دلالات فلسفية:
الغرابة _5/سؤالي_2/فضولا_2/تحليل_1/طلاسمه_1/الممنوع_2/المطلقة_1/حدثا_1/
القديمة_1/الاعتقاد_1/المفترض_1/بعيد_2/
اندهاش_1/القدر1/جدل_1/نقاش_1/تفكير_1/
الهاجس_1/نهايته 3/الماضي_1
عدد الدلالات الفلسفية : 30
الدلالات الرمزية و الخيالية :
دسومة_1/ظننت_1/شيطاني_4/الأثير_2/ السباحة_1/الخيال_1/السحر_3/منتجع_1/
الساعة_1/مغناطيسا_1/أبحرو_3/خاتما_1/
فيروزية_1/مطرقتي_1/سندان_1/قاموس_1/
عدد الدلالات الرمزية الخيالية : 24
الدلالات الواقعية:
طبيعي_1/الفعل_1/ذهني_1/التأكد_1/صحتها_1/
أيقنت_1/كينونة_1/مواجهتها_1/العقل_2/
المنطق _1/عالم 2/منتجعات_1/الأرضي_1/
عهدا_1/أدافع_1/الأحاديث1/ حياتها_1/أمس_1/
الرد_1/صوت1/مسموع_1/اللب_1/المخلوقة_1/
مسار_1/التفكير_1/السنين _1/الطبيعة_1/
التركيز _1
الدلالات الواقعية : 30
سادساً- الميل البراغماتي :
وفي نهاية الاسناد الرقمي خلصنا للآتي :
الدلالات الواقعية والفلسفية متعادلان في النص ، وهذا ايضا مايجعلني اشعر بالفخر لكوني قلت في مداخل سابقة ان اسلوب الغالبي المتميز يعتمد جملة عميقة تليها اخرى مقالية واضحة ، هذا وبعدما نضمن الدلالات الخيالية الرمزية والتي تبين ان عددها اقل ، فهي لم تبلغ الربع الذي تحدثنا عنه كفارق بين السلب والايجاب في الدلالات ،
وعلى هذا الاساس يمكن القول خلاصة ، ان قصة غزل في الممنوع ، قصة بحث خالص عن الجمال والإيجابية ، ولا شك ان الشيء يستدل عليه به وبضده ، لذلك جاءت حسابات السلبية في الرتبة الثانية ، بينما حافظ النص على خطابيه الفلسفي والواقعي بشكل متواز ، يؤكد طرحنا الذي لم يحتمل الشك ، مسبقا ،
وتبقى الدلالات الخيالية الرمزية مكملات جمالية تنضاق الى تيمة الجمال ، الغالب على النص ، فهنيئا لمن كتب وهنيئا لمن يقرأ .
سابعاً-الخاتمة :
يوم أمس ، طرق مسامعي صوت زغاريد واتضح أنه يخص ملكة الرعب ، سألت وجاد الرد فرحاً ……..هتفت بصوت مسموع :
“يا الله….!”
نظرت نحو شباكها المغلق دوماً…..اندهشت حين وجدته مفتوحاً على مصراعيه…….
تأمل معي نهاية القصة واقرأها جيدا ، وافتح بتدبر تلك الرسالة العميقة الدلالة التي تخفي كما أشرت في بداية مبحثي ووعدت بالرجوع إليه ، ذلك الألم المضمر وسط حلاوة مايشبه نسبيا نهاية سعيدة ،
_ لم يكن بطلنا على علم مسبق بقرب حدوث الخبر السعيد ،
_ أتاه الخبر فجأة وهو خارج دائرة السعادة الفعلية ،
وهنا يكمن عمق القصة وجنونها الجميل العذب ، هنا تكمن الواقعية المرة ، وخذ ماشئت من قصص النبلاء وسير الأبطال على مدى العصور والأمكنة كلها ، واشترك مع كاتبنا الفيلسوف في جني ثمرة العشق الحارقة ، ثمرة على وزن جمرة ،
ترى ما الذي استفاده الشهداء الذين بذلوا دمائهم فداء الأرض والمعتقد ؟ ما الذي نالهم من نصيب الخصب والحرية والسعادة ، وبالمقابل لماذا عليه أن ينال حظه من كعكة النجاح الأخير ، إنها سيرة كل القديسين رويت ولخصت خلال هذه القصة القصيرة ، لمن يريد المجد. الحقيقي ، لمن يريد وعن قناعة اتباع سبيل الفضيلة ، أن يكون فاهما معنى التضحية ، والاخلاص ، وأن يرمي وراءه كل المطامع الرخيصة ، سنستنتج جميعا من قصتنا هذه ذلك الخطاب الراقي جدا ، والمعنوي الصرف والاخلاقي الفذ الذي وجهه لنا أستاذنا عبد الرزاق الغالبي ، إن كنت تحبها فعلا ، لاتستعبدها ، لاتلزمها برد الجميل ، لاتحتكرها لنفسك ، أولم تكن غايتك المثلى أن تمنحها الحرية والانعتاق ، إذن فأنت بهذا تقر وتوافق بنيل وسام الشرف البليغ ، شرف من يقدم الخدمة من أجل هدف سام لايبتغي منه أجرا ولا شهرة ولامنفعة ، من الواضح أن ملكة الرعب أمست عروسا ، تحفها الزغاريد ، ومن الواضح أيضا أن بطلنا انقطع عنها زمنا بعدما اطمأن عليها وعلى سعادتها التي تعادل سعادته ، وتركها حرة تختار بعد ذلك من تشاء ، فهو لم يفرض عليها نفسه ، ولم يلزمها برد. الجميل ، فلقد وجد كفايته في انطلاقها كما يجد لذته وسعادته في تحليق الطيور من يفتح لها أبواب الأقفاص ، إنه العشق المثالي الذي لاتشوبه شائبة ، فكأني بكاتبنا في نهاية النص ينعي لنا نفسه ، فهو المعلم الذي وهب عمره لتقريب المسافة بين الاخوان ، ونبذ الفرقة والتشردم ، ولم الشمل ، وتسطير آيات العلم ، ضد ظلمة الجهل وتوابعه ، ينعي من كانوا من قبل ، مثلا أعلى في حياته ، اولئك العظماء الذين أثروا فيه ونحتوا بريشات الحضارة والحب وعشقهم للجمال وبحثهم عنه ، ومطاردة سنواته الهاربة ، أولئك الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التغزل في الممنوع ، جميعهم هتفوا يوم الفتح ، يا الله…!
فيها رضا وجبر خاطر وعزاء كبير .
شكرا…
ثامناً- النص الأصلي :
غزل في الممنوع
شيء طبيعي جداً أن ترد مسامع أياً منا أصوات تثير الغرابة ، لكن الغريب في الأمر أنها تحدث بوقت الظهيرة القائظ، أو في ساعات متأخرة من الليل وعند سؤالي أحدهم عن ذلك يشير لي بأصبعه نحو نافذة تقابل بيتي تماماً بصمت تصاحبه ابتسامة خبيثة تعلو محياه، وكأنه مرعوب من قوة فتاكة تكمن خلف زجاج تلك النافذة ، وتكرر هذا الفعل مراراً مما أوقعني في شرك حيرة لا تنتهي ، امتلأ خاطري فضولاً وطمعاً بملاحقة الموقف وملامسة عروقه وتحليل طلاسمه الملتصقة على جدار الغرابة ، ورصدت النافذة خلسة لكي لا أجلب الانتباه…..
مع تحفظي وحذري الشديدين ، وقعت في هذا الشرك البغيض بدسومة الغرابة ودناءة الفضول و كبرت المسألة في ذهني وظننت ما يظنه الناس دون الخوض في الفعل ، يقابل ذلك ضعف مقاومة غزل الفعل الممنوع …فكل ممنوع محبب والإنسان حريص على ما منع، ووقعت كما وقعوا ….فأنا فرد في هذا المجتمع….يصيبني ما يصيبه….أليس كذلك….!؟..وقطفت النبتة الأولى من حقل الإشاعات دون التأكد من صحتها بل زدتها حجراً حين أيقنت أن خلف زجاج تلك النافذة مخلوق شيطاني لا يقهر، أخت للشيطان ولم أقل هي الشيطان نفسه ، فأنا أرفض وبشدة كون الشيطان أنثى لاحترامي الشديد لكينونة الأنثى …
أمسيت مطية مطيعة للتوجس ، وأنا أجاور هذا الكم الهائل من التساؤلات ، وحاولت تغير محل إقامتي وأسعفتني ثقتي المطلقة ، بأن حل أي معضلة يكمن بمواجهتها دون الهروب منها فخجلت من نفسي وآثرت البقاء عناداً كي أتعايش مع هذا الأثير المرعب إلى النهاية……. ولا أخفي سراً إن قلت ، إلى الآن وأنا لم أواجه شيئاً مما يكمن خلف تلك النافذة سوى الادعاء….
ولاح بريق العيون من خلف زجاج نافذة الرعب أخيراً ، وهذا شأن آخر لا يخضع للعقل والمنطق بل تجاوزه نحو التمرد والسباحة في الخيال…… رحاب واسع لشعلتين ذابلتين أخذني نورهما بعيداً عن نفسي نحو عالم رحب و نسيت كل ما قيل حين صيرني سحر عينيها حدثاً في مدرسة إبتدائية نسى درسه، ووقف مرتعشاً أمام معلمته ينتظر العقاب……وفي الحال ، تبدل الرعب عندي ، سكينة واطمئناناً وهدوءً، وشعرت بنسمات منتجع أسكنه ولا أسكنه من الاسترخاء لا يجاريه أرحب منتجعات العالم الأرضي……
أطلقت العنان لحواسي لتستقبل عهداً جديداً مورقاً في قلبي وعقلي و مرة أولى يتفق هذان الثنائيان المتناقضان فوق عقارب الساعة على شيء واحد…. استهل التغيير مساحاتي بصفاقة : قيل أن مغناطيساً يحتل مقلها وهو السبب في تشقق جدران البيوت القديمة في المحلة وليس تعاقب السنين وعوامل الطبيعة وصافحت هذا الاعتقاد بحرارة ، وتمسكت به بنتائج معكوسة تماماً ، فجمال عينها قد يكون سبباً للشروخ فعلاً وليس الحسد المفترض…. فهم لم ينتبهوا للسحر المحمل فيهما ، فلو أبحروا كما أبحرت ، وأصابهم ما أصابني لانقلب حقدهم عشقاً…
ومنذ تلك اللحظة صرت خاتماً يحتل أصبعها، توجهه ما أرادت وأدافع عنها بشراسة…!…لم ألتقيها شخصاً أو أحدثها لحد الآن …….أنظر بوجهها بقدر ما يجود زجاج نافذتها وأبحر في عينيها من بعيد بصمت، وهي تحدق بي بتركيز واندهاش …….تبدو أحياناً وكأنها خائفة مني قليلا….!؟ استمر الحال هذا شهوراً حتى خدمتني الصدفة يوماً وابتسم لي القدر وقابلتها عند خضار المحلة ….. تحاملت على نفسي كثيراً و بادرتها التحية بصوت مرتعش ، ردتها سمفونية فيروزية تسلب اللب وتثلج الأسارير ، تمنيت أن يطول سفري في هذا الأثير المهلك… أوقعت تلك المقابلة بين مخالب خليط غريب عجيب من صراع بين الاحترام والإعجاب والخوف والشك في دواخلي ولم أهتدِ بعد إلى ملجأ أمين أضعها فيه.
بدأت أبحث عن حدود أحاسيسي باتجاه واحد هو تحسين صورة هذه المخلوقة الرائعة بعيون الناس فهي مثار جدل غريب لا ينتهي……هي مدار خوف للبعض، وراحة واسترخاء لي ، أمست قضيتها مدار نقاش مع بعض المثقفين من الجيران، وبدأ الشد يرتخي قليلاً تحت حماسي المطرد حتى بادر البعض بالتفاعل معها إيجابياً وصارت عيناها الحاسدتين تأخذهم قسراً وسحراً نحو الجمال حتى كسر الطوق ونعتت أخيراً – بالمرأة ذات العيون الجميلة- وتعدل مسار التفكير المنحرف تحت مطرقتي المستمرة وسندان صمتها باتجاه تفكير مهذب تملؤها الإنسانية والاحترام .
انحسر الهاجس السلبي عند أهل المحلة تماماً وانقلب احتراماً، شجعها هذا المنحى الجديد على الخروج إلى الشارع ثم الاختلاط والزيارات وحضور المناسبات و تجاذب الأحاديث الشيقة مع نساء ورجال المحلة، ولم يعلن العام نهايته حتى عادت إلى حياتها الاجتماعية الطبيعية…ومسح الماضي من قاموس حياتها نهائياً…..
يوم أمس ، طرق مسامعي صوت زغاريد واتضح أنه يخص ملكة الرعب ، سألت وجاد الرد فرحاً ……..هتفت بصوت مسموع :
“يا الله….!”
نظرت نحو شباكها المغلق دوماً…..اندهشت حين وجدته مفتوحاً على مصراعيه…….