23 ديسمبر، 2024 12:30 م

دراسة تحليلية: خطوط الميتافيزيقيا المبهمة علی الأطلس الشعري

دراسة تحليلية: خطوط الميتافيزيقيا المبهمة علی الأطلس الشعري

کما يقول دوستويفسكي فان القيام بخطوة جديدة أو التلفظ بكلمة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس، ومع هذا و کما قيل فأنه ليس هناك أكثر من خمسة ألوان أساسية، و لكن مزجها يعطينا ألواناً أكثر مما يمكن رؤيتها، وهكذا يتحرك عنصر الخيال داخل النصوص الابداعية لغرض الأتيان بالجديد، وهنا يتبلور الابداع الحقيقي و يبدأ حيثما يتوقف الناس عن الحديث حسب ما أفاد بە الناقد المجري أرثر كوستلر.
قصيدة الشاعر الحداثي سوران محمد (موسم من الطقوس الأبدية) تستدعي و تتطلب أكثر من قراءة تحليلية لسبر أغوارها و الاحاطة بمستويات الخطاب فيها، فهي عبارة عن مقطعين؛ الاول: مجريات أمور قد يحصل داخل قصر، والثاني: طقوس سرمدية خارجه، لكن كلما تعمقنا في أجوائها المريبة تارة و مقشعرة تارة أخری نكتشف المزيد من الاستاتيکا المبطنة، أي تجرد النص عن العالم السفلي المادي و العروج بالروح الی أعلی نقطة في برج الضمير والشفافية عند الانسان ومن ثم النظر الی الماضي القريب والبعيد من هذا المنطلق، و لا يعتبر هذا الشعر كتابة جديدة للتأريخ بأسلوب شعري فحسب ولا يختزل دلالاته بالاشارات والرموز المنسية فقط، بل نستنبط منه ما ينير لنا طريق حياة محشوة بالتناغم والألفة عندما تفكرنا في عواقب الامور والافعال بشکل منطقي.
في ظاهر هذه الصور الشعرية و باديء الامر نستلهم قضية تجارة العبيد و اشکالات تحرره، لكن هنا وفي سبيل نيل هذه الاهداف السامية يجب ان نقدم التضحية و لاتخلو الحياة من الصراعات منذ الازل، وهكذا علينا الحيطة والحذر مع أول خطوة نخطوها داخل أجواء هذه القصيدة المشحونة و نأخذ في الحسبان المعسکر المناهض للحقوق والحريات، حيث ينتهي المقطع بنهاية مأساوية ويری القاريء نفسه مع البطل المضحي أمام نعش و هنالك ملك شاب راقد داخل صندوق في مشهد كئيب، ولو أن التباعد الزمني يفرق الشخصيات في هذا المشهد، الا ان هنالك أكثر من نقطة مشتركة تجمعهم، فکلاهما قتلا غدرا حينما أرادا أن يسيرا في الاتجاه الصحيح لتعديل الأعوجاج، لكن سواد قطرة حبر يضمحل بياض ماء ناصع داخل قدر کبير، و‌هكذا دواليك ما بناه جيل يمكن أن يهدمه غافل شرير في لحظات، حيث نلاحظ في وسط نفس المقطع شخصية ذات مظهر خارجي قبيح و تربط نهاية هذا المقطع ببدايته، وهي ممثلة السيرك الکوميدي (ماري آن بيفان) الجديدة علی مسامعنا، أهي موناليزا المشهورة أم امرأة يناديها الناس بالوحشة المخيفة؟ حيث تصبح رمزا لمعاناة الانسانية في زمن سيطر الغباء والتهور علی دفة الامور العامة و روتين الحياة اليومي و أحيان اخری يخلقوا الأزمات بأيديهم ليشغلوا الناس بها وفي النهاية هم من ينالوا ألقاب منقذين الناس من الازمات.
‌ ان استعانة الشاعر في هذا النص بقوة الخيال بارزة وكما قيل فأن الخيال هو قوة تتصرف في المعاني لتنتزع منها صوراً بديعة وهذه القوة أيضاً تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها عن طريق الحس والوجدان ولعل المخيلة هنا تعتمد على قوة التذكر لدى الشاعر، فلربما وقعت صورة ماري آن بيفان في ذاكرة الشاعر منذ أمد بعيد لکنها هنا هي ليست قبيحة، بل رسلة للسلام و رمزا لجمال سرمدي، هي تفهم لغة المعاناة لذا نراها في هذا المشهد الشعري من بين الصفوف الأولی داخل قصر الرٶساء والملوك، وربما هذه هي التفاتة ضمنية الی عوالم کل من يعاني من أمثال ماري آن بيفان بشكل من الاشکال و نوعا من الثواب الشعري لكل من انقهر، لكن الاهم من کل ذلك هي الاسلوب السحري لهذا الشعر بحيث استعمل الشاعر تقنية فريدة جدا وهي العمل علی الأحلام والرٶی الصادقة لقراءة و أثبات ما يحدث في الواقع، لكن الأحلام هنا قد تغيرت تماما ولم يرويها الشاعر كما قيل أو سمعه، بل يقوم بمزجه بالواقع و حذف الخصوصيات منها ثم تصويرها بأسلوب شعري داخل مشهد معبر و مبدع. ان صيرورة الصراعات بين الخير والشر علی مدی الدهر جعل من البطل أيقونة حية وهو ما يزال يتحدق و يتحدق الی مأساة الانسانية كما يری جثته راقد أمام عينه، وكأنما هي جثة کل بطل يقتل غدرا، فلم لا؟ ان العدل هو العدل أينما کان وأن الظلم کذلك ولو تغيرت الاماكن والاسماء والازمنة، اذن هذه الصورة الشعرية مستوحاة من عالم الروح و الخيال أو ما يسمی بعالم ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) لکنه تتصل بالواقع بروابط حية أثبته لنا التأريخ والاحداث و وثقته المستندات، وهنا يحس القاريء بدغدغة الضمير و ايقاظه من السبات كي يكون الرقيب علی الذات علی أمل من عدم تكرار تلك المآسي مجددا، كما تعتبر هذه الانطلاقة رسالة لخطاب النص وأبعاده الدلالية.
والمقطع الثاني تأتي کحصيلة للمقطع الاول، أي ربط ثنائية السبب والنتيجة معا داخل تلك الصور الشعرية، لكن من دون أن يلمس العالم المادي، فكما سبق وان ذكرنا بأن الشاعر قد وظف حلما داخل المقطع الاول و من ثم تحوله الی مشهد واقعي بتغير الشخصيات و زج الاخرين فيها أيضا، و هذا بعکس ما أشار اليه رائد الاوبرا النمساوي رودولف بينغ حين قال: نحن أشبه بالمتحف، إذ يتعين علينا أن نقدم للناس تحفاً قديمة في اطار عصري. حيث لا يصح هذه المقولة مع أكثر الحقول الادبية.
اذ نری الشاعر في المقطع الثاني يبني جذور الفكرة علی أرضية جوهر النقطة السابقة الا وهي ثيمة عالم الروح و المولد للطاقة الحقيقية و لحرکة الانسان و حياته، فيبدء الشاعر المقطع الثاني بمقارنة طائر مكروه کالغراب مع الانسان، فبغض النظر عن شٶم و سواد الغراب و نعيقه المنبوذ کما تعودنا عليه، الا انه يوقر موتاه و يدفنه في طقوس رزينة، في حين ان هنالك من بني جلدة البشر من يتمثل بجثة الموتی و ينبش القبور بعد موت أصحابها، و هنالك قائمة طويلة من أمثال هوءلاء الذين أصبحوا رمزا للجور والعذاب السرمدي، مع أن کلتا الطائفتين قد قضوا حتفهم لكن اللعنة الدائمة متلازمة مع الفئة الثانية، والذي ذكر الشاعر من أوصافهم والاسباب التي أدت بهم الی هذه الهاوية والنهاية الوخيمة والعذاب المهين، ومن بين تلك الصفات: الخيانة، الحسد، الظلم، الاحتيال و يتجسد هنا في شخصيات رمزية کالقابيل و يهوذا و سيزيف وغيرهم، و قد يجرنا هذا البحث الی التعمق الاكثڕ في موضوع السوسيولوجيا وعلوم الاخلاق و تأثيره علی نوايا و أفعال الانسان، لكن من هو الملك الشاب وما قصته؟ حينما أشار اليه الشاعر في منتصف المقطع الاول، فلربما هو يمثل العدالة الغالبة في الكون والتي تسير عليها الكائنات الضخمة والمجهرية علی السواء، وهنا يلاحق الملك الشاب قاتله في عالم علوي حيث لا نهاية لهذه الملاحقة وهل کل هذه الاشارات ليست الا وازعا تلوح بأهمية ارادة الانسان و خيار الصلاح والافساد في داخله؟ وقد ذكره الشاعر في هامش النص بأن الملك الشاب هو من قال کلمته المشهورة لقاتله بعد مقتله: ” أتعلم أنك فتحت أبواب الجحيم على العراق بفعلتك هذه؟”.
***
نص القصيدة:
(موسم من الطقوس الأبدية)

لقد تم
إعلان تحرير العبيد
لكن البطل ما زال(١)
يحدق في الجثة التي
لفت بالكَفن
يسأل: من هو؟
– امرأة، تبدو وكأنها
ماري آن بيفان (2)
ترثي بکاءا من بين جموع،
ترد بأبتسامتها المعذبة:
إنه الملك الشاب (3)
والراية البيضاء التي رفعها
قد وضعت علی جبينه
*
خارج القصر
هنالك طقوس أبدية:
يدفن الغربان موتاها بوقار،
لا ينام قابيل (4) قرير العين
كلما وضع رأسه علی المخدة
يری الذئاب يطاردهما هو و يهوذا، (5)
بينما يدحرج سيزيف (6)
صخرة کبيرة الی أعلى الجبل …
وهكذا لن ينتهي
هذا الموسم من الطقوس الأبدية
***

الهوامش:
(١) أبراهام لنكولن: رئيس الولايات المتحدة السادس عشر ومحرر العبيد فيها 1809-1865 . وفقاً لصديق لنکولن وكاتب سيرة حياته، فإنه قبل ثلاثة أيام من عملية الاغتيال، ذكر لينكولن لصديقه عن حلم راوده، قائلا: قرابة عشرة أيام، خلدت للنوم متأخراً جداً، لقد كنت أنتظر برقيات من الجبهة، لقد دخلت في نوم عميق بسرعة لأنني كنت متعباً، ثم بدأت أحلم، كان هناك سكون طويل، ثم سمعت تنهدات ضعيفة، وكأن هنالك عدداً من الناس يبكون. اعتقدت أنني تركت سريري وتجولت في الطابق السفلي، كان هناك سكون تكسره بعض الصرخات، لكن الباكين لم يكونوا ظاهرين، لقد تفقدت كل غرفة، لم أجد شخصاً، لكن الصرخات كانت تشتدّ كلما مررت، رأيت ضوءاً في كل غرفة، كل شيء كان مألوفاً بالنسبة لي، لكن أين كل هؤلاء الذين كانوا يبكون وكأن قلوبهم ستتحطم؟ لقد كنت حائراً ومذعوراً، ما معنى كل هذا؟ كنت مصمماً على معرفة سبب أمورٍ غامضة جدّاً ومروِّعة، بقيت على هذا الحال حتى وصلت إلى الغرفة الشرقية ودخلتها، هناك وجدت مفاجأةً مقززة، كان أمامي نعش داخله جثة محاطة بملابس جنازة، وحول النعش جنود موضوعة كالحراس، وكان هناك تجمع من الناس مغطاة وجوههم يحدقون بشكل حزين على الجثة، وآخرون يبكون. “من الميت في البيت الأبيض؟” سألت أحد الجنود، “الرئيس، لقد اغتاله قاتل” كانت إجابته، بعدها بدأ الحشد في البكاء بصوت عال، مما أيقظني من حلمي، لم أعد للنوم في تلك الليلة، وعلى الرغم من أنه مجرد حلم فقد صرت منزعجاً بشكل غريب منذ ذلك الوقت.
(٢) ماري آن بيفان 1874-1933 . كانت شابة جميلة تعمل مُمرضة بإحدى مستشفيات بريطانيا وتزوجت وأنجبت بعد زواجها أربعة أطفال قبل ظهور المرض عليها. وحينما بلغت عامها الثاني والثلاثين أصيبت بمرض ضخامة الأطراف و طردت من وظفتها. بالرغم من كل السخرية والألم التي عانت منها ماري، استطاعت أن تربي أبنائها وتعلمهم، وكانت تقول لأبنائها وسط البكاء الليلي هل استحق أن أكون أم صالحة أم الجمال ما يصنع الأم الصالحة. وكان الأطفال يقومون برمي الحجارة والأوراق عليها في السيرك لأنها مُخيفة، وينادونها بالوحش المُخيف. وهكذا قتلتها السخرية والاستهزاء وهي علی خشبة السيرك مغميا عليها ولم تنهض من جديد، لقد استعملت هنا کرمز.
(٣) في صباح يوم 14 يوليو/ تموز 1958 استيقظ الملك فيصل الثاني١٩٣٢-١٩٥٨/ آخر ملوك العراق على أصوات طلقات ناريّة, أعلن الملك استسلامه وطُلب منه الخروج و من معه، وبعد تجمّع الأسرة في باحة صغيرة في الحديقة فتح النار عبد الستار العبوسي من دون أي أوامر وقد أصاب الملك برصاصتين في رأسه ورقبته. ويروي البعض ممن كان حاضراً في تلك الفاجعة المؤلمة أن الملك فيصل الثاني حمل المصحف فوق رأسه ورفع الراية البيضاء بيده وخرج ليسلم نفسه بطريقة سلمية حفاظاً على عائلته من الفناء ولكن حدث ما حدث.
(٤) قابيل: أحد أبناء آدم، أول من شرع في جريمة القتل علی وجه الارض غيرة و حسدا علی أخوه هابيل..
(٥) النقيب عبدالستار العبوسي: قاتل العائلة المالكة يوم ١٤ تموز ١٩٥٨. أول ليلة بعد قتله الملك رجع الی البيت وبينما هو مستغرقا في نومه، رأى نفسه واقفا على باب نفق مظلم وعميق وكأن قوة ما تسحبه الى الداخل، ووجها بعيدا يناديه من مؤخرة النفق يكبر كلما تقدم منه حتى أتضحت معالمه جيدا، أنه وجه الملك فيصل مخضبا بدمائه كما رآه صباح اليوم . كان الوجه يناديه: ستار.. لماذا قتلتني يا ستار؟ سأبقى ألاحقك حتى ألاقيك يا ستار.. أتعلم أنك فتحت أبواب الجحيم على العراق بفعلتك هذه؟.. وبينما هو كذلك، دفعه ذلك الوجه الى بئر عميق مملوء بالدماء، فسقط فيه وهو يصرخ: أغيثوني.. أدركوني، حتى أستفاق من نومه على يد زوجته توقظه وتهدأ من روعه.
وصف العقيد الركن المظلي عدنان محمد نوري مشاعر النقيب (العقيد الركن فيما بعد – عبدالستار العبوسي) نحو الملك والعائلة المالكة ونهايتهم المأساوية بما يلي:- بالرغم من ان العقيد الركن عبد الستار العبوسي لن يخفى على احد دوره في القضاء على العائلة المالكة الاّ ان الكثير لا يعلم ماذا كان في خلجات المومئ اليه من انفعالات نفسية قادت المومأ اليه الى الانتحار في شهر شباط من عام ١٩٧٢. وفي احدى الامسيات قال لي:- عدنان انك لم تعلم بأنني لم اذق النوم منذ قتلي الملك، وانه يأتي اليّ في المنام كنت اراه لابسا ابيض ويقول لي:- لماذا قتلتني؟ هل اصابك ضرر مني؟ هل قمت بخطأ ما؟ لماذا حرمتني لذة الحياة وانا في ريعان الصبا ؟ ويتكرر عليّ الكلام كل ليلة ولم اذق طعم النوم طيلة هذه الفترة فيا ليتني اموت واتخلص من معاناتي.
(٥) يهوذا الإسخريوطي، هو واحد من تلاميذ المسيح الإثني عشر ويسمى أيضا بيهوذا سمعان الإسخريوطي، وكان كتبة الأناجيل يركزون على ذكر لقبه لتمييزه عن يهوذا تدَّاوس. بحسب الأناجيل القانونية فإن يهوذا الإسخريوطي هو التلميذ الذي خان يسوع وسلمه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة.
(٦) سيزيف أو سيسيفوس كان أحد أكثر الشخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية، فعوقب بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.