نظام الزواج بالمحارم في المجوسية الزرادشتية
لقد اتبع المجوس الزرادشتيون نظام الزواج من الأقارب الأدنين (= خويذ وكدس)، فقد أباح لهم (زرادشت) أن يتزوج الأب من ابنته، والأبن أمه، والأخ أخته… وهكذا، وكان زواج المحارم هذا شائعاً بنوع خاص في الطبقات الحاكمة والمثقفة.
وقد ورد في كتاب الزرادشتيين المقدس (دينكرت – الذي كتب في القرنين الأول والثاني بعد الإسلام )، ” أن الزواج بين الأخ وأخته منور بمجد إلهي، وله فضيلة طرد الشيطان”.
وقال الموبذان موبذ (نرسي مهر)، وهو أحد شراح الآفستا): “إن زواج المحارم يمحو الكبائر”.
وقد تزوج الحكيم الإيراني (أرداك فيراز) أخواته السبع، وتزوج (بهرام جوبين) أخته (كردية)، التي حيك حولها قصص كثير.
وإذا كان البارسيون (= الزرادشتيون الجدد)، المستقرين في (الهند)، يرون في هذا النظام عيباً قبيحاً، ويحاولون أن ينفوا وجوده كنظام اجتماعي ديني عند الزرادشتيين قبل الإسلام، وينسبونه إلى المزدكية، فإن الواقع أن هذا النوع من الزواج كان شائعاً لدى أمم أخرى غير الإيرانيين مثل الفراعنة في مصر، وأن الإيرانيين الزرادشتيين كانوا يعدونه عملاً صالحاً يثاب عليه صاحبه.
وقد اقتضت العناية بنقاوة دم الأسرة – التي كانت من الصفات البارزة في عادات الجماعة الإيرانية – جواز الزواج بين المحارم: بين الأب والبنت، والأم والابن، والأخ والأخت، ويسمى هذا النوع من الزواج (خويذ وكدس)، وفي الآوستا يسمى: (خَوِيث وَدَثه).
وعادة زواج المحارم قديمة عند الفرس؛ ويمدّنا تاريخ الإخمينيين (= الهخامنشيين)، كأول دولة فارسية، بأمثلة كثيرة منه. وقد مجد آل- (خويذ وكدس) في النسكين: (باغ) و(وَرشتمان سَر)، حيث قيل إن الزواج بيين الأخ وأخته منور بمجد إلهي، وله فضيلة طرد الشيطان. وقد ادعى الشارح (نرسي بُرزمِهر) أن زواج المحارم (خويذ وكدس) يمحو الكبائر.
ثم إن العادة الإيرانية، عادة الزواج من الأخت أو البنت أو الأم، لم يشهد بها في العصر الساساني الكتاب المعاصرون، أمثال (أجاثياس) و(ابن ديصان)، بل إن تاريخ العصر نفسه يمدّنا بكثير من أمثلة من هذا النوع من الزواج. ومن الجائز أن يكون الولي (أرداك ويراز) – الذي اتخذ من أخواته السبع زوجات له – شخصاً خيالياً؛ ولكن ها هو ذا المغتصب العرش من الملك كسرى أبرويز الثاني (بهرام جوبين)، قد اتخذ أخته (كردية – كورديك) زوجاً له، وها هو ذا (مهران – كُشنَسب) الذي كان قد تزوج أخته قبل أن يدخل في المسيحية” عملاً بالعادة القبيحة النجسة التي يبيحها هؤلاء الضالون (= على حدّ تعبير الكتاب المسيحيون)”.
وأخيراً نجد في كتاب قانون سرياني (خاص بالزواج)، من تأليف البطريرك (مار أبها)، الذي عاش أيام كسرى – خسروالأول(531-579م)، الفقرة الآتية: “إن العدالة العجيبة عند عباد أوهرمزدا تقضي بأن يكون الرجل على صلات شهوانية مع أمه وبنته وأخته”. ويروي الزرادشتيون أمثلة من القصص الخرافي، يثبتون قداسة هذا العمل. ينظر: (آرثر كريستنسن: إيران في عهد الساسانيين، ترجمة: يحيى الخشاب، راجعه: عبدالوهاب عزام، ص309-310).
يقول أبو الريحان البيروني (المتوفى سنة 440هـ/1048م)، في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ): “عقد قرآن الأم، والذي ينسب إلى الزرادشتية، بأنه سمع ذلك من (سوبه هيوودي مرزه بايي بن رستم) بأن زرادشت منع هذا العمل، وأن كوشتاسب(= ويشتاسب) جمع العقلاء والمشايخ والمسنين ليتباحثوا مع زرادشت في مجلس، وكانت إحدى الأسئلة هي: إذا اضطر رجل في حالة جهل، وخوفاً من (عدم الإنجاب)، أن يضاجع والدته، فما العمل؟ أجاب زرادشت: (ليضاجعها، لتبقى الذرية)”.
مسألة عقد قران المحارم (= الأخوة بالرضاعة)، كانت من العادات والتقاليد العشائرية البدائية منذ قديم الزمان. وكان هذا الزواج شائعاَ في المجتمعات الأسرية، ومن أسباب ذلك، الأصالة العرقية والدم، والفوائد الاقتصادية، والتي دفعت بتلك العشائر لسلوك مثل هذه العادات والتقاليد القديمة.
المصادر التاريخية، تبيّن بأن الزواج بين الأقارب، وزواج الأخوة من الرضاعة، كانت شائعة ومنتشرة بين بعض سلسلة الملوك الإيرانيين. فالمؤرخون اليونانيون يظهرون عصر الإخمنيين(529-331 ق.م)، في أن الموغ (= رجال الدين المجوس) في هذا العصر كانوا يتزوجون من أمهاتهم.
وفي العصر الإشكاني- الفرثي- ملوك الطوائف (247 ق.م – 226م)، كان هذا العمل اعتيادياً، وبعض ملوكهم كانوا يرون عقد قرآن الأخوة من الرضاعة، كان – فحسب – لحماية الأصالة والعرق ونقاء الدم.
ويذكر المؤرخ الدانمركي (آرثر كريستنسن المتوفى سنة1945م)، في كتابه القيم (إيران في عهد الساسانيين) الصفحة 309- 311، نماذج كثيرة من زواج الملوك الإخمينيين والساسانيين من محارمهم، على سبيل المثال لا الحصر:
فقد تزوج الملك قمبيز الثاني(529-522 ق.م) ابن كورش الثاني، مؤسس الدولة، من أخته (أتوسا)، كما تزوج من أخت أخرى، ويذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت حيثيات هذه القضية بالتفصيل:”… أما الجريمة الثانية التي أقترفها (= قمبيز) بحق أهله فهي قتله لأخته التي قدمت معه الى مصر، والتي كانت زوجه أيضاً، بالرغم من أن زواج الأخوة لم يكن من عادات الفرس على الاطلاق؛ إلا أن قمبيز تغلب على هذه الصعوبة، وتفصيل ذلك كالتالي: بعد أن أحب أخته وأراد الزواج بها وهو أمر يتنافى مع القانون، استدعى القضاة الملكيين وسألهم عن وجود قانون في البلاد يبيح للمرء الزواج من أخته إذا ما أراد ذلك. والقضاة الملكيون هم أشخاص يتم اختيارهم بعناية ويستمرون في مناصبهم مدى الحياة أو إلى أن يحكم عليهم بإساءة التصرف، ومهمتهم الفصل في القضايا الشائكة وتفسير القوانين والعقائد الدينية، ولذلك تحال إليهم جميع المسائل المتنازع عليها. ولما طرح قمبيز عليهم هذا السؤال، استطاعوا العثور على جواب لا يحيد عن الحق ولا يعرضهم للخطر في آنٍ واحد، وقالوا له:” إننا لم نتمكن من العثور على قانون يبيح زواج الأخ من أخته، لكن ثمة قانوناً لا شك فيه يبيح لملك فارس فعل ما يشاء”. وبذلك تجنبوا انتهاك أي قانون راسخ في البلاد، كما حافظو على أنفسهم، فلخوفهم من غضب قمبيز قدموا له قانوناً يساعد الملك على تحقيق رغباته. وهكذا تزوج قمبيز أخته التي أحبها، وبعد فترة ليست بالطويلة تزوج أخته الثانية والتي اصطحبها الى مصر ثم قتلها”. ينظر: هيرودوت، تاريخ هيرودوت، ترجمة: عبدالإله الملاح، مراجعة: احمد السقاف وحمد بن صراي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث- المجمع الثقافي، ابوظبي – الامارات العربية المتحدة، الطبعة الثانية، ص231.
و تزوج الملك الإخميني داريوش الثاني(423-405 ق.م) من خالته (به ريزاد) الفاتنة الجمال، وكان لتلك الملكة اليد الطولى في كل ما حدث بالبلاط من خداع ودسائس، بعدها تزوج من أخته (باريساتس).
كما أن نجل الملك الإخميني أردشير الثاني- أرتحشتا الثاني(402-359ق.م) تزوج من ابنته (ئاتوسا) التي كان يراودها، لذلك طلبت منه والدته (به ريزاد) الزواج من ابنته، وتزوج من ابنته الأخرى (وامستريس).
وتزوج الملك دارا الثالث (داريوش- 335-331 ق.م) من ابنته (تاتيرا).
وإزاء هذه الأدلة الصحيحة، التي نجدها في المصادر الزرادشتية والايرانية على حدٍ سواء، وعند الكتاب الأجانب المعاصرين، على السواء، نرى الجهود التي بذلها بعض البارسيين المحدثين (= بارسيو الهند تحديداً)، لنفي وجود زواج المحارم في إيران الزرادشتية، لغواً من القول على حد تعبير (كريستنسن) . ينظر: المرجع السابق، الصفحة (311).
أما بشأن التأويل الذي يقترحه (بلسار)، إذ يقول: “إنه يظهر أن (خويذو كدس) تعني العلاقات بين الله والإنسان عن طريق حياة مقدسة”، “فإنه هذا ينبغي أن ينسب جملة إلى الفلاسفة الشيوعيين مثل مزدك، وليس إلى الزرادشتية”.
والواقع أن زواج المحارم كان لا يعتبر سفاحاً، بين الأقارب، ولكنه عمل صالح يثاب عليه صاحبه من الناحية الدينية. ولعل السائح الصيني (هيون تسيانج HiuenTsiang ) يشير إلى هذا النوع من الزواج، إذ يقول إن عادات الزواج عند الإيرانيين في زمانه كانت الاختلاط المطلق. (كريستنسن، ص311).
وإن الزواج بالمحارم، الذي كان شائعاً في ذلك العهد، كان مبنيّاً على هذا الأساس أيضاً، أيْ أن الاُسَر في سبيل منع امتزاج دمها بالدم الأجنبـي، وتوارث أموالها بين الأجانب، كانت تسعى أن تتزوج بأقربائها مهما أمكن. وحيث كان هذا العمل على خلاف الطبع والفطرة، كانوا يحملون الناس عليه بقدرة الدين والدولة ومواعيد الثواب في الآخرة ووعيد العذاب لمن يمتنع عنه.