وعلى الصعيد نفسه فقد شاركت شخصيات ايرانية من غيرالزرادشتيين في دعم الجهود الزرادشتية من أجل احياء تاريخ إيران القديم وبعث التراث الزرادشتي من جديد، وكان على رأس هؤلاء الدكتور إبراهيم پورداود ( 1886-1968م) الذي بدأ بترجمة كتاب (الآفستا) بأجزائه المتعددة من اللغة البهلوية الى اللغتين الفارسية والانكليزية معاً بدعم سخي من المجلس الزرادشتي في ايران ومدينة بومباي الهندية.
وكانت الآبستا – الافستا مكتوبة في البدء باللسان الآفستي، ثم نقلت الى اللسان البهلوي على عهد الساسانيين. وتوجد أقسام منها باللغة السنسكريتية يقرأها البارسي الزرادشتي في الهند، وتوجد لها ترجمة باللغة الكجراتية الهندية.
أما الترجمة الفارسية فقد صدرت لغالبية أجزاء (= كتب) الافستا بالتوالي طيلة أكثر من (38) عاماً على يد إبراهيم پورداود كما أسلفنا، ولم ينتهي طبع جميع أجزائه، فطبع كتاب ( الكاتا- الكاثا – وهي أناشيد مجوسية أنشئت في مبدأ القرن السادس ق.م، أدرجت في اليسنا) في مدينة بومباي الهندية عام1926م، أما كتاب يشتها (وهي مجموعة مدائح وتضرعات وعبادات وقرابين)، فقد صدرت الطبعة الاولى عام1928م في بومباي باللغة الانكليزية، فيما صدرت طبعة ثانية عام1931م باللغة الفارسية في مدينة بومباي أيضاً. أما كتاب ( خرده آفيستا) أي الآفستا المختصرة أوالصغرى، فقد صدرت طبعتها عام1931م، بينما صدر كتاب يسنا ( وهي أدعية تقرأ عند تقديم القرابين) في بومباي عام1933م، أما طبعة طهران فقد صدر منها عام1958م – الجزء الثاني من مجموعة يسنا وتتضمن خطابات تخص موضوعات تاريخية تتعلق بالتاريخ الايراني القديم، أما كتاب ( الكاتا) فقد طبع في مدينة بومباي عام1950م في طبعة ثانية، فيما طبع كتاب (الكاتا) في طهران عام1957م مع معجم لكلمات الآفستا. وطبع كتاب الويسبرد (كتاب خاص بالمراسيم الدينية وترتيبها)، في طهران عام1964م مع جزء آخر من كتاب آفستا الذي نشره بهرام فرخوشى، حيث اكتمل الكتاب، ما عدا كتاب الونديداد أو العقيدة المضادة للشياطين، فهو أحد أعمال ( إبراهيم پورداود) غير المنشورة. وكان المستشرق الفرنسي جيمس دار مشتاتر قد ترجمه الى اللغة الفرنسية، ثم قام العالم العراقي الدكتور داوود الجلبي الموصلي(1879-1961م) بترجمته من الفرنسية الى اللغة العربية عام1955م ونشر في بغداد.
تعتبر ترجمة الآفستا Avesta من أبرزأعمال الدكتورإبراهيم پورداود بالنظر إلى سياق تعبيرات الآفستا وبُعدها عن أسلوب اللغة الفارسية اليوم، بالإضافة إلى النص الصعب والغامض للآفستا الأولى المدونة باللغة البهلوية، تتضح أهمية عمل پورداود، أنه حاول تقديم ترجمة بطلاقة للأفستا، ودون الانحراف عن قواعد اللغة الفارسية، وابتكر مؤلفات معبرة وشغوفة باستخدام الكلمات القديمة. ميزة أخرى لعمله هي المقدمة والتوضيحات المكتوبة لكل قسم من الآفستا بالإضافة إلى التفسير والترجمة، تعد هذه المجموعة قاموسًا رائعًا في أصل الكلمات الإيرانية وهي واحدة من أفضل المصادر لفهم ثقافة إيران القديمة.
لقد استخدم إبراهيم پور داود في بحثه أسلوب المستشرقين الألمان وتأثر بهم بشكل خاص من حيث إظهار العديد من المراجع والهوامش العديدة، واحتل مكانة عالية بين علماء إيران حول العالم. لم يسبق له مثيل بين معاصريه بسبب معرفته الشاملة بالألمانية والفرنسية، ومعرفته باللغتين العربية والإنكليزية، وأسلوبه البحثي الأوروبي، والحرص الشديد في الاستشهاد بالمصادر، واستخدام جمل قصيرة وكاملة، وتجنب المصطنعة، والبساطة، وإدخال العديد من المعاني في جمل قصيرة، وتجنب التكرار، وتجنب پور داود علامات الترقيم من السمات المهمة لعمله في الكتابة والترجمة. وتجنب تراكيب الكلمات غير الطبيعية وغير ذات الصلة ولم يصر على استخدام الكلمات العربية، معتبرةً إياها من صنع الإيرانيين وتعتبر كنزًا دفينًا للغة الفارسية.
وفي سنة1938م أصبح الدكتورابراهيم پورداود أحد أساتذة جامعة طهران، وفي يوم الثلاثاء الموافق 8 سبتمبر/ ايلول عام 1942م أشرف پورداود على الاطروحة التي قدمها ( محمد معين) لنيل درجة الدكتوراه بعنوان (مازديسنا وتأثيرها في الأدب الفارسي)، ومعناها (تأثير ديانة عباد مزدا على الادب الفارسي)، وتم قبول أطروحته على أنها (جيدة جدًا)، وكان من ضمن المناقشين: العالم الايراني محمد تقي بهار( ملك الشعراء)، وتم الاعتراف بمحمد معين كأول خريج لدورة الدكتوراه في الأدب الفارسي في إيران، ومنذ ذلك الحين انتخب أستاذاً مشاركاً ثم أستاذاً لمادة (البحث في النصوص الأدبية) في كلية الآداب- جامعة طهران.
تعرض پور داود للهجوم بسبب أبحاثه حول الدين والثقافة الزرادشتية، وأشاع البعض أنه تحول إلى الزرادشتية، ورد المؤرخ الايراني (محمود نقوي) مؤلف كتاب (پور داود باحث في العصور القديمة)، على هذا النوع من الهجوم في مقال كتبه، نقلاً عن پور داود نفسه، قوله: ” لقد أمضيت حوالي 40 عامًا من حياتي في البلدان الأوروبية، وخاصة ألمانيا، لكنني لم أر أبدًا شعب ذلك البلد فضوليًا للغاية بشأن الشؤون الشخصية لأي شخص”. لكن مرة أخرى أكرر لأولئك السادة الذين يكتبون سيرتي الذاتية، ” أقول إنني لست زرادشتيًا واسمي إبراهيم وأنا ملتزم بدين آبائي، ومجرد الدراسة في دين الزرادشتية ليس سببًا لكوني زرادشتياً”.
ويظهر أن الدكتور محمد معين كان خاضعاً لتأثير استاذه، وهذا ما يبدو واضحاً في المقدمة التي دبجها المشرف الدكتور إبراهيم پور داود، بالقول: ” أنّ الروح الإيرانيّة علی امتداد تأريخ إيران لعدّة آلاف من السنين، حتّي في العصر الإسلاميّ، هي الروح الزرادشتيّة. وأنّ أيّ عامل لم يستطع إخضاع هذه الروح لتأثيره ونفوذه، بلعلی العكس، فإنّ هذه الروح قد أثّرت في ذلك العامل”. وعلي سبيل المثال فـ :” إنّ الدين الذي جاء به الفاتحون العرب إلی الإيرانيّين قد اكتسب هنا صبغة وواجهة إيرانيّة فصار يُدعي تشيّعاً، وامتاز بذلك عن مذاهب أهل السنّة (التي تمثّل الإسلام الصحيح حسب عقيدة پورداود)”.
ويعلق المفكرالايراني الشيعي مرتضى مطهري( 1919-1979م)على جهود العالمين الايرانيين (إبراهيم پورداود) وتلميذه (محمد معين) في الترويج للزرادشتية، ومحاولة زعزعة الإسلام في نفوس الطلبة الإيرانيين بالقول:” ومن الواضح أنّ أحداً منهم لن يصبح زرادشتيّاً، بَيدَ أنّ فتوراً وضعفاً سيطرأعلی إيمانهم وثباتهم علی الإسلام، وفي جهادهم. وهذا هو هدف الاستشراق من تربية أمثال: إبراهيم پور داود، والدكتور محمد مُعين، حيث إنّهم يحطّون من المستوي العلميّ للقرآن في الاذهان عن طريق الثقافة والادبيّات، ويصرفون أذهان الشباب إلیهم من خلال لفت أنظارهم إلی مفردات الزرادشتيّة القديمة الميّتة وأدبها، ويصدّونهم عن ماء القرآن المعين وكلماته وتفسيره، وعن السير العمليّ والفعليّ في نهجه وطريقه في نهاية المطاف”. ينظر: الاسلام وإيران عطاء واسهام.
وبخصوص پورداود يستطرد السيد المطهري بالقول:” وإبراهيم پور داود من الملحدين المعاصرين. ونهجه وكلامه وكتاباته الكثيرة تجلّي هذا الامر. ومع أ نّه لم يدّعِ رسميّاً بأنّه من الزرادشتيّة، لكنّ له عملاً ونيّةً وفعلاً نزعة قويّة إلي هذا الدين. وكان الدكتور محمّد معين علي هذه الشاكلة خلال مدّة خضوعه لإشرافه وتأثيره؛ فقد كان يدافع عن الزرادشتيّة بصراحة. إلاّ أنّه شارك بعد ذلك في جلسات آية الله العلاّمة الطباطبائيّ( المفسر والفيلسوف محمد حسين الطباطبائي – 1904 – 1981م) في ترجمة وتبادل مباحثاته مع المستشرق الفرنسي هنري كوربان(المتوفى سنة1978م) حول القرآن والاسلام والتشيّع، فمال إلي الاسلام. والله تبارك وتعالي هو أرحم الراحمين. والامل أنّه سبحانه اكتفي بعقوبته في الدنيا، وطهّره بذلك عن تحمّل العقاب الاُخرويّ. فقد أُصيب آخر حياته بالجُلطة الدماغيّة فأجريت له عمليّة جراحيّة، لكنّه لم يَعُدْ إلي الوعي بعد انتهاء العمليّة الجراحيّة. واستمرّ فاقد الوعي مدّة أربع أو خمس سنوات، وكان بدنه مطروحاً علي الارض كالميّت، وأعينه مغمضة، إلاّ أنّ حواسّه كانت صحيحة. وكان عاجزاً عن تناول الطعام، فكانوا يصبّون في فمه السوائل خلال هذه المدّة المديدة، ثمّ أُعيد من المستشفي’ إلي بيته، فعيل صبر أهل بيته من استقبال الزائرين، وكان تنظيفه يتمّ بصعوبة، حتّي وُضع جسده أخيراً في غرفة مجاورة لباب المنزل، وكانوا ـ من شدّة الكراهيّة يتمنّون موته باستمرار، حتّي أسلم الروح بعد سنواتٍ من فقدان الوعي بهذه الكيفيّة، فاعْتَبِرُوا يَـ’´أُولِي الاْبْصَـ’رِ!”. مرتضى مطهري، الاسلام وإيران، المرجع السابق.
وعلى صعيد الأدب والفكر برزعلى السطح مجموعة من المفكرين والأدباء حملوا لواء التنظير للقومية الفارسية العلمانية، وكان من أبرزهم المؤرخ عبد الحسين زرين كوب ( 1923 – 1999م)، ومن أعماله: (الاحتلال العربي لإيران وآثاره)، و(قرنان من الصمت)، و(لا شرقي ولا غربي… بل إنساني).
وبحسب أحد الباحثين فإنّه يمكن بلورة أفكار زرين كوب من كتابه (قرنان من الصمت)، روَّج فيه أثر الإيرانيين على الخلافة الإسلامية بعد الفتوحات الاسلامية، في المقابل يزعم أن العرب لا حضارة لهم، ولا يملكون شيئا من السُّلْطة أو التهذيب.
إن المآخذ التي رصدها أحد الباحثين العرب على منهج ( زرين كوب)، هو أنَّ المنهج الذي اعتمده زرين كوب برفضه روايات الطبري وابن الأثير انتقائي، واعتمد على ثناء الفرس أو الحطّ من شأن العرب في رواياته دون أي معايير علمية ومنهجية، إلا أن الكاتب عاد إلى التحليل الواقعي والمحايد للتاريخ بعد تراجع الموجة القومية، فكتب كتاب: تاريخ إيران بعد الإسلام، ثم كارنامه إسلام.