23 ديسمبر، 2024 7:29 ص

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج5

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج5

وفي سنة1834م أخذت الحكومة البريطانية على عاتقها زمام إدارة ممتلكات شركة الهند الغربية، وبدأت تديرها على أغلب أراضي الهند الواسعة، ومع أن منطقة (نافساري) الهندية من بين كل المراكز الزرادشتية لم تدخل ضمن التاج البريطاني إلا أن التلاميذ الهنود بمختلف أديانهم تعرفوا على التعليم المسيحي حتماً من خلال دراستهم للادب الانكليزي، وناهض العلم الغربي في ذلك الوقت الكثيرمن العقائد التقليدية الهندوسية والزرادشتية. وكان المبشر الاسكتلندي (جون ويلسون) قد وصل الى بومباي في عام1829م، ووجد أن البارسيون الزرادشتيون يشكلون جزءاً كبيراً من سكانها، لذا وضع لنفسه هدفاً واضحاً تجلى رغبته بنقلهم من حضن الزرادشتية الى حضن المسيحية. وبعد دراسته للآفستا التي ترجمها الفرنسي أنكيتا دي بيرون وكتاب (البندهشن) ومؤلفات أوروبية أخرى، هاجم المبشر ويلسون الزرادشتية على صفحات الجرائد بالمواعظ والاحاجي مستخدماً اسلوباً دعائياً جديداً. انتقد ويلسون من خلالها الثنوية الزرادشتية واستهزأ بشدة من معلومات ( كتاب ( البندهشن) عن علم نشأة الكون والاساطير القديمة، واستهزأ أيضاً من كتاب ( الفنديداد) وقوانين طهارته، وقارنها مع العهد الجديد المسيحي.
أثارت انتقادات ويلسون للزرادشتية وكتبها المقدسة اندهاش البارسيين الزرادشتيين وهلعهم، كاندهاش مسيحي من القرن العشرين عندما يتعرف لاول مرة الى بعض مقاطع ( العهد القديم)، التي تروي عن بداية خلق الكون بشكل أسطوري؟، كما وصل الامر بأحد البارسيين الى اعتبار(البندهشن) ككتاب كاذب تماماً. ينظر: ماري بويس، تأريخ الزرادشتية، المرجع السابق، ص221 – 222.
وفيما بعد قام المستشرق الالماني مارتين هاوك (1827- 1876م) باكتشاف غيرَّ أشياء كثيرة منها أن كتاب (الكاتها – الكاثات – الكات – الاناشيد) تعد أقدم أجزاء الآفستا بدائيتين أساستين، كما أن الكاتا تعد كلمات زرادشت الحقيقية، وعلى ضوء هذا الاكتشاف تَرجم من جديد نصوصاً صعبةً جداً ومحاولاً وجدان البرهاني الحقيقي على عقيدة التوحيد الواضحة عند زرادشت، فوجد دليلاً على ذلك في أحكام (الكات) المتكررة عن الشياطين (= الديفات)، وفسرها كرفض لكل الموجودات الالهية ما عدا آهورامزدا، وهذا كان خطأً بالنسبة الى عالم عرف (الفيدات) التي تعني فيها كلمة ( ديفا – الإله). كما أن الثنوية واضحة للعيان في ( الكات) ففسرها ( هاوك) قائلاً بأنه أظهر الاختلاف الدقيق بين علم لاهوت زرادشت، الذي اعترف فيه فقط بإله واحد (= آهورامزدا)، وبين مذهبه الفلسفي الخالص) عن وجود عِلتين بدائيتين أساسيتين (أي سبينتاماينيو وأنكراماينيو)، وأعلن هاوك أن ( أميشاسبينتا عبارة عن أسماء وأفكار مجردة)
وخلال سنة 1859-1866م زارهاوك Haug الهند، حيث شغل منصب المشرف وأستاذ اللغة السنسكريتية في الكلية الحكومية في بونا، كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية لقبول التعيين: التعرف على تعلم الكهنة الزرادشتيين والهندوس، ورفع مستوى التعليم والمنح الدراسية الهندية التقليدية وتغييرها من خلال إدخال الأساليب الغربية ، وجمع المخطوطات. إن طريقته الحميمة والودية والودودة في التواصل مع البراهمة الهندوس والكهنة البارسيين (dasturs) مكنته من الحصول على المعلومات الأكثر شمولاً ودقة فيما يتعلق بمعتقداتهم وطقوسهم وعاداتهم الممنوحة لأي أوروبي ، فضلاً عن ذلك، ومن خلال محاضراته ألهم الجيل الأصغر من البراهمة والبارسيس الزرادشتيين بالاهتمام بكتابهم المقدس. كان (راماكريشنا جوبال بهانداركار) من أشهر تلاميذه من بين النقاد الذي أصبح فيما بعد مؤسس الدراسات الشرقية في الهند.
في 1863-1864 سافر هاوك الى ولاية كوجارات الهندية لمدة ثلاثة أشهر، بحثًا عن المخطوطات القديمة. قفام بشراء العديد من المخطوطات القيمة نيابة عن الحكومة البريطانية، كما اشترى مخطوطات Avesta و Pahlavi و Vedic لمجموعته الخاصة، والتي حصلت عليها مكتبة الدولة الملكية (Königliche Staatsbibliothek) في ميونيخ بعد وفاته. وأثناء وجوده في الهند، تعاون هاوك مع رجل الدين الزرادشتي (الدَستور هوشنك جماسبي) ومع الباحث البريطاني إدوارد ويليام ويست (1824 – 1905م) الذي عمل كمهندس رئيسي في أحد خطوط السكك الحديدية الهندية. وقام بإعداد خمسة مجلدات من النصوص البهلوية لسلسلة كتب البروفيسور ماكس مولر المقدسة الضخمة للشرق، ونُشرت هذه الترجمة بين عامي 1880 و 1897 كجزء من سلسلة كتب الشرق المقدسة لماكس مولر، وكانت هذه الترجمة المكونة من خمسة مجلدات لنصوص بهلوي من عمل إدوارد ويليام ويست، الذي قام بالتعليم الذاتي إلى حد كبير ، حيث طور معرفته باللغات الشرقية القديمة في الهند ، حيث عمل كمهندس مدني. وبعد عودته إلى أوروبا ، ركز ويست على دراسة النصوص الزرادشتية المقدسة وأعد هذه الترجمات للمخطوطات البهلوية. كتاباته وطبعاته لا تزال مذكورة حتى اليوم في الدراسات الهندية الإيرانية. إن Nasks (= النَسك)هي محور المجلد 4 حيث يجمع West ويترجم ويحلل أجزاء مثل الأسماء والملخصات والاقتباسات الضالة من الكتب الأخرى من أجل تقديم كل ما هو معروف من الأطروحات الأصلية الواحد والعشرين التي تحتوي على الأدب الساساني الزرادشتي. كانت الرسائل نفسها عبارة عن سجلات لما تم فقده بشكل أسطوري بعد غزو الإسكندر الأكبر لبلاد إيران في القرن الرابع قبل الميلاد. وقدر المستشرق ويست مجموع كلمات الافستا بخمسة وأربعين وثلاثمائة الف وسبعمائة ( 345700) كلمة. ينظر: آرثر كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص497.
لم تكن الهند جيدة لصحة المستشرق هاوك، والتي تدهورت لدرجة أنه في عام 1866م عاد إلى ألمانيا للتعافي. وفي البداية عاش في ريوتلنجن وشتوتغارت كعالم خاص وأكمل مسرد مصطلحات Zend-Pahlavi ، وهو عمل تم تنفيذه في الهند بالتعاون مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (الدَستورهوشنك جماسبي)، وفي عام 1868م تم تعيينه في منصب رئيس قسم اللغة السنسكريتية وعلم فقه اللغة المقارن الذي تم إنشاؤه حديثًا في جامعة ميونيخ، وشغل هذا المنصب حتى وفاته المبكرة في يونيو 1876م في سويسرا، حيث ذهب للحصول على مزيد من الرعاية الطبية من مرض أصابه مما أثر على الأعصاب والرئتين.
وتجدر الاشارة الى أنه حضر محاضراته حول فقه اللغة الهندية الإيرانية واللغويات والدراسات الشرقية، ليس فقط طلاب جامعة ميونيخ وأجزاء مختلفة من ألمانيا، ولكن أيضًا من قبل علماء شباب من الهند وإنكلترا وأمريكا الشمالية وروسيا وإسبانيا والبرتغال واليونان .
وأثناء وجوده في الهند نشر هاوك الى جانب أطروحته (معالم بارزة في دراسة البهلوية)، نشر مقالات عن اللغة المقدسة (=الآفستية) وكتابات حول دين الفرس في مدينة بومباي عام 1862م، والتي قدمت أول وصف نحوي للغة الأفستا مقارنة باللغة السنسكريتية، تمثل ترجمته للكاتات (= الاناشيد) أحد أقسام الآفستا المهمة والتي نُشرت في مجلدين 1858-1860م وهي أول ترجمة علمية غربية لهذه الترانيم الصعبة.
كانت مساهمات هاوك في المنح الدراسية، والتي ظلت مؤثرة في القرن العشرين، في الغالب في مجال الدراسات الإيرانية القديمة والوسطى. كانت الموضوعات الرئيسية لبحثه هي فقه اللغة الإيرانية والأدب الزرادشتي، على حد سواء أفستا واللغة البهلوية. تشمل أهم أعماله مسرد Zend-Pahlavi القديم و An Old Pahlavi-Pazand Glossary ، وكلاهما نُشر عام 1870م في لندن وبومباي بالتعاون مع رجل الدين البارسي الزرادشتي الدَستور هوشنك جماسبي Dastur Hoshang Jamaspji Asa و E.W West ، كما نشر كتاب (أردا فيراف) في بومباي ولندن بين عامي1871-1874م.
تلي تلك المرحلة التمهيدية أو الأولى من دراسة هذه اللغة، مرحلة جديدة تطورت فيها معرفة اللغة البهلوية حيث جُمعت فيها الكتب الدينية وغير الدينية المدونة بهذه اللغة مما كان يخفيه علماء الدين الزردشتي (البارسيون) طوال قرون عديدة، حتى أظهر هناك علم جديد يعرف بتاريخ الأدب البهلوي، ومن أهم من قاموا بتلك الدراسات المستشرق الالماني مولر M.j Muller الذي استطاع أن يوفق إلى قراءة وتصحيح نسخة من الأفستا، تلك التي جلبها معه المستشرق الفرنسي، أنكيتل دي ديبرون من الهند، في حين تمكن بعض المستشرقين منهم: مولر، ووست، وهاوك، وآندرياس FR.muller,West,M.houng,Andereas ، في نفس الفترة تمكنوا من دراسة النقوش الساسانية وإخراج بحوث قيمة عن اللغة البهلوية .ينظر: رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو، تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثالثة، ج1، ص14.
وكان المستشرق الالماني وليم جيجر(1856- 1943م) المتخصص في الايرانيات والهنديات قد حصل على الدكتوراه الاولى في عام1877م برسالة عنوانها ( الترجمة البهلوية للفصل الاول من كتاب الونديداد)، والونديداد إحدى الاقسم المهمة للآفستا مختص بطرد الشياطين، والفصل الاول يحتوي على ذكر لستة عشر إقليماً في شمال شرق إيران. في وقت لاحق من عام 1880م نشر ترجمة مع شرح للفصل الثالث. وفي سنة1882م أصدر أهم كتبه وأكبرها حجماً، وعنوانه: ( حضارة شرقي إيران في العصر القديم)، نشره في مدينة إيرلنجن الالمانية، وترجمه إلى الإنجليزية داراب داستور بيشوتان سانجانا، وظهر في مجلدين في جامعة أكسفورد بين عامي 1885 –1887م وفي هذا الكتاب الممتاز استند جيجر الى كتابات الآفستا في عرض الاحوال الحضارية في شرقي أيران، وهو كان يؤمن بأن كتب الآفستا صدرت عن منطقة شرقي أيران (= باكتريا -– خوارزم) في الزمان السابق على قيام الامبراطورية الميدية والامبراطورية الأخمينية الفارسية. وكان هناك رأي مخالف، كان من أنصاره Fr. Siegel وCh. Deharly و F.Justi (وكان أستاذاً لجيجر) -– يقول إن الكتابات الخاصة بالافستا نشأت في شمال غربي إيران (= أتروباتين – أذربيجان الحالية) وفي وقت متأخر. وقد أيد البحث الحديث فيما بعد ما ذهب إليه جيجر، ولم يعد يأخذ برأي هؤلاء الثلاثة أحد، وإنما بقي السؤال مفتوحاً عن : أين ومتى حررت المجموعة التي وصلت إلينا من الكتابات الآفستائية الحديثة؟ ينظر: عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص224 – 225.