23 ديسمبر، 2024 5:10 ص

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ ج19

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ ج19

ونجد هذا الأمر واضحاً حتى في نصوص كتاب الزرادشتية المقدس (= الآفستا )، فقد ورد في(أحكام روح العقل) من نصوص(الأفستا) في إجابة سؤال من الحكيم لروح العقل، عن أكبر وأفضل عمل خير؟ فعدد أعمالاً، فذكر رابعها: “زواج الأقرباء بالدم”. الأفستا، أحكام روح العقل، ص 761. ولما سأله عن أكثر الآثام التي يقترفها، عدّد أعمالاً، وذكر من أهمها: “المخلّ في زواج أقرباء الدم “. المصدر السابق، ص 777. وكذلك أجاب عن سؤال حول الأسباب والمآثر التي يبلغ بها البشر الجنة، فقال روح العقل: ” يبلغ الجنة، ذلك الذي يتزوج من قرابة الدم، انطلاقاً من محبته للروح “. زند أفستا، أحكام روح العقل، ص778. وورد أيضاً:” لو أن أحداً جامع زوجته في قربى الدم أربعة مرات، فإنه لن يكون منفصلاً عن القربى مع (أهورمازد)، و(الآماهراسباندايين)”. زند أفستا، شاياست (المباح والمحرم) فصل18، ص838. “وهذا يعني أن روحه لن تكون ملكاً للشيطان (أهريمان)، والأبالسة”.
على حسب التقاليد الزردشتية قديما وفي المجتمع الساساني بالأخص أدى إلى ظهور الزواج من أقارب فقد سمح للرجال بالزواج من بناتهم، وأخواتهم وأمهاتهم، وكان هذا الأمر ليس لمجرد الإباحة، لكن على حسب التقليد الزرادشتي فيعتبر مثل هذا من أعمال التقوى وميزة كبيرة، وأشياء مضادة للقوى الشيطانية. ينظر: موقع واي باك مشين.
وكان الزعماء الدينيين في العصر الساساني يشجعون على الزواج من داخل الأسرة، مدعين أنه تقليد ديني الزامي، وعلاوة على ذلك، ادعى الكهنة أن الزواج بين المحارم ينتج أقوى الذكور، واناث ذات خصال حميدة، ويأتي بأكبر عدد من الأطفال، وأنه محمية لنقاء الجنس. ينظر: خان رحيم ، حكم كوشانو الساساني في قاندهار، دليل نقدي من جانجودر، يوليو عام2009م، مجلة الحضارات الآسيوية.
وعلى صعيد المصادر الإسلامية بشقيها السني والشيعي، يذكرالمؤرخ اليعقوبي (المتوفى سنة292هـ/905م) في تاريخه: “وكانت الفرس تعظّم النيران، ولا تستنجي بالماء، إنما تستنجي بالدهن… ولا تأكل إلا بزمزمة، وهو الكلام الخفي، وتنكح الأمهات والأخوات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن، وبرّ بهن، وتقربُ إلى اللهِ فيهنَ”. تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبدالامير مهنا، مج1، ص219.

بينما يذكر البلخي المقدسي (المتوفى سنة 322هـ/933م) أن المجوس: “يستحلّون نكاح الأخوات والبنات، ويحتجّون على من خالفهم بفعل آدم عليه السلام ذلك”. ينظر: كتاب البدء والتاريخ، ص 329. ويشير المستشـرق إدوارد براون إلى أن المستشرق الهولندي (ميخيل دي خويه Michael Jan de Goeje) (المتوفى سنة1909م) يقول: بأن دين زرادشت يوافق على زواج المحارم، ويستصوبه، ينظر: تاريخ الأدب في إيران، الجزء الأول، البابان الثالث والرابع، ص158، هامش (2).
وكان إحدى التعديلات التي أدخلها الثائر والمصلح المجوسي بهافريد(= قتل سنة 131هـ/ 749م على يد زعيم الدعوة العباسية – أبو مسلم الخراساني) ضد الخلافة الاموية في أواخر أيامها في منطقة خراسان، وهي: النهي عن الزواج من الأمّهات والبنات والأخوات وبنات الأخ، باعتبارها كانت شائعة بين المجوس في تلك الحقبة. ينظر: فرست مرعي، البهافريدية بين إصلاح الزرادشتية ومعارضة الإسلام، مجلة جامعة زاخو، العدد- 1، 2013م، اﻟﻌﺪد:1، ص 307-317.
ويذكر الفقيه الحنفي أبو يوسف قاضي قضاة الخلافة العباسية(المتوفى سنة 182هـ/ 798م) في هذا الشأن ما نصه: “وفي خلافة علي بن أبي طالب حدثت مناقشة بين الصحابة حول أمر المجوس، ورفع الأمر إلى الخليفة علي بن أبي طالب، فقال لهم: “فقال: سأحدثكما بحديث ترضيانه جميعاً عن المجوس: إن المجوس كانوا أمة لهم كتاب يقرأونه، وإن ملكاً لهم شرب حتى سكر، فأخذ بيد أخته، فأخرجها من القرية، وأتبعه أربعة رهط، فوقع عليها، وهم ينظرون إليه، فلما أفاق من سكره قالت له أخته: إنك صنعت كذا وكذا، وفلان وفلان وفلان وفلان ينظرون اليك. فقال: ما علمت بذلك. فقالت: فإنك مقتول ولا نجاة لك إلا أن تطيعني، قال فإني أطيعك، قالت: فاجعل هذا ديناً، وقل: هذا دين آدم، وقل: حواء من آدم، وادع الناس إليه، وأعرضهم على السيف، فمن تابعك فدعه، ومن أبى فاقتله، ففعل، فلم يتابعه أحد، فقتلهم يومئذ حتى الليل. فقالت له: إني أرى الناس قد اجترؤا على السيف، وهم على النار لُكع، فأوقد لهم ناراً ثم أعرضهم عليها، ففعل، فهاب الناس النار فتابعوه. فأخذ رسول الله الخراج لأجل كتابهم، وحرّم مناكحتهم وذبائحهم لشركهم. قاتلوا الذين خالفوه، فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم، فهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر الجزية منهم”. ينظر: كتاب الخراج، ص260 – 261.
ويذكر المؤرخ الايوبي أبو الفدا(المتوفى سنة732هـ/ :”وكان (بهمن) متزوجاً بابنته (خماني)”، ينظر:المختصر في تاريخ البشر، ج1، ص44.
ويروي الراغب الأصفهاني (المتوفى سنة 502هـ/1108م) أن :” زرادشت شرع زواج الأمهات”، كما يروي القلقشندي( المتوفى سنة 821هـ/ 1418م):” أن المجوس يستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين”. ينظر: صبح الاعشى في صناعة الإنشا.
أما الجاحظ ( المتوفى سنة255هـ/ 868م) فقد روى في كتابه (أخبارالحمقى والمغفلين) أن ابن عوانة الكلبي:” قال: استعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم! والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي! فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله! أترونه لو زاده على مائة ألف فعل! فعزله”.
ويستنتج العالم الاشعري عبد القاهر البغدادي (المتوفى سنة 429هـ/1037م) المختص بالملل والنِحل، تأثير المجوسية على بعض الفرق الاسلامية المتطرفة كالباطنية والخوارج من ناحية احلال الزواج بالمحارم: كزواج بنات الاولاد من الاجداد، وبنات أولاد الاخوة والاخوات، وبنات البنات، وبنات البنين، ومن إستحل بعض ذوات المحارم. ينظر: الفرق بين الفرق، تحقيق: محي الدين عبدالحميد، ص210.
وقد ظلت ضروب الزواج هذه شائعة بين المجوس حتى بعد فتح المسلمين لبلاد إيران، وظل المسلمون يعيبونهم بها، وينكرونها عليهم.
وبخصوص المصادر الشيعية، فقد وروى الشيخ الصدوق (المتوفى سنة381هـ/ 991م) في كتابه (التوحيد):”… عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: أن الأشعث قال له: كيف يؤخذ من المجوس الجزية، ولم ينزل عليهم كتاب، ولم يبعث إليهم نبـي؟!فقال عليه السلام: ” بلى يا أشعث: قد أنزل الله عليهم كتاباً، وبعث إليهم نبياً. وكان لهم ملك، سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها. فلما أصبح تسامع به قومه، فاجتمعوا إلى بابه وقالوا: أخرج نُطَهِرك ونقم عليك الحد! فقال: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقاً أكرم من أبينا آدم وحوَاء؟ قالوا: صدقت، قال: أليس قد زوَج بنيه من بناته، وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت، هذا هو الدين!فتعاقدوا على ذلك. فمحا الله العلم من صدورهم، ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب… والمنافقون أسوأ حالاً منهم.”
نعم يجوز لوليِّ الأمر في ظلِّ دولة الإسلام منعهم من مثل هذا الزواج، وإذا خالفوا انتقض بمخالفتهم عقدُ الذمَّة كما نصَّت على ذلك صحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: “إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبل الجزية من أهل الذمّة على أن لا يأكلوا الربا، ولا يأكلوا لحم الخنزير، ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمَن فعلَ ذلك منهم برئتْ منه ذمّةُ اللّهِ وذمّة رسولَه (ص)”. الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2 ، ص50؛ الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج6 ، ص158؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج97 ، ص65.
ولقد كان هذا الأمر رائجاً بين المجوس في صدر الإسلام. وجاء في (كتاب تفصيل وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (المتوفى 1104هـ/ 1693م) ما يلي: “فقد روي أن رجلاً سبّ مجوسياً بحضرة أبي عبدالله (= جعفر الصادق (المتوفى سنة 148هـ/ 765م)، فقال: أما علمت أن ذلك عندهم النكاح”.ينظر: ج17، ص596.
وجاء في روايات أبواب الحدود: “عن أبي الحسن الحذاء، قال كنت عند أبي عبدالله عليه السلام، فسألني رجلُ: ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة! فنظر إليَ أبو عبدالله عليه السلام نظراً شديداً، قال: قلت: جُعلت فداك! إنه مجوسي أمه أخته! فقال: عليه السلام: أو ليس ذلك في دينهم نكاحاً؟!” . ينظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشيعة، المصدر السابق، ج18، ص430؛ ج3، باب عن فروع الكافي، ج7، ص240؛ والتهذيب، ج10، ص75.
ويفهم من هذه الروايات أن المجوس كانوا يفعلون هذا في صدر الإسلام، ولهذا فقد أصبحت هذه المسألة مورداً للبحث والنقاش في الفقه الإسلامي، وعرضها وبحث حولها فقهاء الإسلام من أهل السنة والشيعة الإمامية الاثنا عشرية، في مختلف أبواب الفقه، كمسألة حيّة، لها مصاديق واقعية خارجية، ولقد كان أكثر هؤلاء الفقهاء إيرانيين من القومية الفارسية؛ ولو لم يكن هذا الأمر رائجاً بين المجوس الزرادشتيين، لم تكن تطرح هذه المسألة في كتب الفقه الإسلامي لذلك العهد. إن إنكار وجود هذه السنّة المجوسية بين الزرادشتيين المجوس اليوم، من قبيل إنكار البديهيات، إلا أن الزرادشتيين المتأخرين، وخاصة بارسيي الهند، وزرادشتيي إيران، يحاولون أن يعيدو النظر مرة أخرى في تاريخ هذا الدين، فيجددوا بعض نظرياتهم ويصلحوها، في أصول دينهم وفروعها، تبعاً للنظام الاجتماعي الإسلامي، باعتبارهم أقليّة صغيرة، ولذلك فهم قد أباحوا لأنفسهم الكذب المصلحي الكثير.