27 ديسمبر، 2024 10:12 ص

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج16

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج16

من أجل أن نرى مدى تأثير الإسلام في إيران، يجب علينا أن ننظر في النظام الاجتماعي الإيراني يومذاك، الذي غيّره الإسلام، وساد بنظامه في إيران بدلاً من ذلك النظام الفاسد.
إن مجتمع إيران الساساني (224-651م) كان مجتمعاً طبقيا صنفيا (= مهنياً)، تجري فيه أصول النظام الطبقي على أشد الوجوه. ولم يكن الساسانيون هم الذين اخترعوا هذا النظام الطبقي، بل كان جارياً في إيران منذ عهد الهخامنشيين (= الإخمينيين-529-331ق.م)، والإشكانيين (الفرثيين – ملوك الطوائف في المصادر الإسلامية- 247ق.م – 226م)، وإنما أيده الساسانيون.
وقد سلط المؤرخ المسعودي (المتوفى سنة346هـ/957م) في كتابه ( مروج الذهب ومعادن الجوهر)، الضوء على هذا الموضوع، بقوله: ” ورتب أردشير (224-241م- مؤسس الدولة الساسانية) المراتب فجعلها سبعة أقسام”.
وكتب في كتابه الآخر: (تنبيه الأشراف)، يقول: “وكانت للفرس مراتب، أعظمها خمس، هم وسائط بين الملك وسائر رعيته، فأولها وأعلاها الموبد (= طبقة رجال الدين)… والثاني الوزير… والثالث الاسبهبذ (= القادة العسكريين)… والرابع دبيربد (= طبقة الكتاب)… والخامس هو ته خشه بد… وكان هؤلاء المدبرين للملك، والقوام به، والوسائط بين الملك ورعيته… وللفرس كتاب يقال له (كهنامه)، فيه مراتب مملكة فارس، وأنها ستمائة مرتبة، على حسب ترتيبهم لها. وهذا الكتاب من جملة (آئين نامه)، وتفسيره: كتاب الرسوم، وهو عظيم، في الألوف من الأوراق”.
وإذا كان نظام الطبقات، الذي أوجده (زرادشت)، فاسداً؛ فإن نظام الأسرة كان أشد فساداً، وذلك لأن (الزواج) عندهم خلا من فكرة (حرمة الأسرة)، كما أن النسب لم يبن على صلة الدم بين الأب والأبن.
رابطة النسب
لم تقم نسبة الأبن إلى أبيه على أساس الدم عند الإيرانيين، ولكنهم كي يكثروا من المؤمنين بدين زرادشت في الأسرة، فقد أجاز لهم دينهم القديم ألواناً من البنوة الاصطناعية، التي لا رباط فيها بين الولد ومن يُدعى أبوه. ثم أن صلة الدم لم تكن ذات وزن في النسب. فالزوج السيدة وحدها هي التي ينسب ما تنجبهم من بنين وبنات إلى الأب، أما الزوج الخادمة فأبناؤها الذكور وحدهم يلحقون بأبيهم، أما البنات فيعتبرن رقيقاً لا يعرف له نسب. وكان زواج الأبدال شائعاً، وهو كما يقول زعيم الدين الزرادشتي الهربدان (هربد تنسر) في عهد الملك الفارسي الساساني الاول أردشير الاول بن بابك بن ساسان(224-242م)، الذي نقل عنه العالم الاسلامي أبو الريحان البيروني (المتوفى سنة440هـ) في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) : ” إذا مات الرجل ولم يخلف ولداً، أن ينظروا فإن كانت له امرأة زوجوها من أقرب عصبة له باسمه، وإن لم تكن له امرأة فابنة المتوفى، أو ذات قرابته، فإن لم توجد، خطبوا على العصبية من مال المتوفى، فما كان من ولد فهو له”.
وكانت عقوبة من يغفل هذا العقد صارمة، لأنه ” قتل ما لا يحصى من الأنفس، بقطع نسل المتوفى وذكره إلى آخر الدهر”. وفي العقد الذي أشرنا اليه في الفقرة السابقة، والذي يتنازل بمقتضاه الرجل عن زوجه إلى أخٍ له في الدين، كان الأطفال الذين يولدون من هذه (المعاشرة) ينسبون للزوج الأول، ويعتبرون أولاده؛ وعلى هذا ضمّت الأسرة خليطاً من الأبناء، أكثرهم لا يربطه بالأب غير حمل اسمه، وأدى هذا إلى تفكك الروابط بين أفراد الأسرة التي تكونت على هذا النحو من سلالات مختلفة.
الزواج
قام الزواج عند الزرادشتيين على أساس تعدد الزوجات، مع التفريق بين نوعين من النساء: الزوجة السيدة، والزوجة الخادمة، كما رأينا في طبقات المجتمع، وينبغي أن تتزوج الفتاة في الخامسة عشرة من عمرها.
والزوجة – عند الزرادشتيين – سواءً أكانت سيدة أو خادمة، كانت أقرب ما تكون إلى الرقيق؛ ليس لها مكانة ولا كرامة، فقد أجاز الدين الزرادشتي للرجل أن يتنازل عن زوجته، ولو كانت سيدة (= ممتازة)، لرجل آخر قد وقع في الفاقة (= الفقر) لكي تعينه بعملها على الحياة؛ وهذا العقد محمود جداً عند زرادشت،” لأنه إحسان على أخ في الدين معوز”.
تعدّد الزوجات
إن الموضوع الذي كان الموابذة والهرابذة (= رجال الدين المجوس) يتصرفون فيه كثيراً بالنسخ والجرح والتعديل، هو موضوع الحقوق الشخصية، أو قل قانون الأحوال الشخصية، ولا سيما أحكام النكاح والإرث، فإنها كانت مهمة ومعقدة إلى درجة كان الموابذة يتصرفون فيها كيفما يشاؤون، وكان لهم في هذا الموضوع صلاحيات مخولة لم تكن لأي رجال دين من الأديان.
أما تعدد الزوجات، فقد كان أمراً شائعاً في العهد الساساني، وإن كان أكثر الزرادشتيين الآن يحاولون إنكاره إذ ذاك، إلا أنه لا مجال لإنكاره قطعاً، فقد كتبه كل من كتب عن هذا الموضوع من المؤرخين: هيرودوت اليوناني(484-425ق.م)، واسترابون اليوناني(63،64-20،23ق.م)، في العصر الإخميني (=الهخامنشي)، وحتى المؤرخين المعاصرين.
فمثلاً كتب المؤرخ اليوناني (هيرودوت) عن طبقة الأشراف في العهد الإخميني –الهخامنشي، يقول: “لكل واحد منهم عدة نساء رسميات، ولهم أزواج كثيرة غير معقودات…”.
وكتب المؤرخ اليوناني (استرابون) عن نفس هذه الطبقة يقول: ” إنهم يتزوجون كثيراً، ولهم أزواج كثيرة غير معقودات أيضاً”.
ويقول (زوستن) (161-138م)، من مؤرخي العهد الإشكاني ( = ملوك الطوائف) عن الاشكانيين- الفرثيين: “إن كثرة الأزواج كان معمولاً لديهم منذ أن توصلوا إلى ثروة وقدرة ومكنة، ولا سيما الأسرة المالكة، وإنما كانت عيشة البداوة الصحراوية تمنعهم من قبل أن يتزوجوا كثيراً”.
بل إن الذي كان شائعاً بين طبقة الأشراف في إيران القديمة، كان أمراً أكثر من تعدد الزوجات، فإنه لم يكن محدداً بحدّ كالأربعة أو أقل أو أكثر، ولا مشروطاً بشروط: كالعدالة، وتساوي حقوق الأزواج، أو القدرة الجنسية، أو المالية، بل كما كان النظام الاجتماعي إذ ذاك نظاماً طبقياً، كذلك كان نظام العائلة أو الأسرة.
الزواج في العصر الساساني
كان الزواج في هذا العصر على خمسة أنواع، يتحدد بمقتضاه وضع المرأة نفسها في المجتمع، ووضع أبنائها أيضاً، وهذه الأنواع هي:
الزوجة الممتازة: وتعدّ زوجة ممتازة المرأة التي تتزوج بموافقة أبويها ورضاهما. وينسب الأبناء الذي تنجبهم إلى زوجها. ومن البديهي أن تكون موافقة الوالدين وفق شروط معينة.
الزوجة التي تكون خاصة لزوج واحد: ويكون زوجها مجبراً على تقديم أول بنت ينجبها من زوجته إلى أهل الزوجة، تعويضاً عن ابنتهم التي أخذها منهم.
زوجة الميت: إذا مات رجل قبل أن يتزوج، يمكن أن يخطب له أهله فتاة، ويزّوجوها من رجل حي، فينسب نصف الأبناء الذين تنجبهم هذه المرأة من هذا الزوج للرجل المتوفى، وينسب النصف الآخر إلى الزوج الحقيقي (= الحي).
الأرملة المتزوجة: إذا مات رجل عن زوجته دون أن ينجب منها، وتزوجت أرملته من رجل آخر، ينسب نصف الأبناء الذين تنجبهم إلى زوجها الأول، والنصف الثاني إلى زوجها الثاني.
المرأة الوضيعة: تعدّ المرأة التي تتزوج دون موافقة أبويها (زوجة وضيعة)، وتخضع لكثير من الشروط.