23 ديسمبر، 2024 10:19 ص

“دبكة ” في طريق الأبديّة

“دبكة ” في طريق الأبديّة

مهما بلغت قناعاتنا مرتبة عالية في الموت، كحقيقة حتميّة ، فأبسط تعريف للكائن الحي “هو الصائت المائت”، ويخاطب الخالق الإنسان في كتابه “إِنَّكَ مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ ” ، غير أن للموت  تظل هيبة ، ووقار ، وتظلّ للجنائز حرمتها ، وفي الأثر “إكرام الميّت دفنه “، مثلما في الدساتير الأخلاقيّة ، والأعراف كلّها ، حتى لو أوصى الميّت بغير ذلك، وكانت الحيرة الأولى لقابيل هي ملامته لنفسه ليس على فعل القتل، بل لحيرته في كيفيّة مواراة “سوأة ” أخيه “هابيل” ، ودفن جثمانه ، فوجد الجواب لدى الغراب الذي أعطى أوّل درس للإنسان ،فحقّ أن يكون المعلّم الأوّل ، كما يتجلّى هذا المعنى في الآية الكريمة 31من سورة المائدة ” فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين “

وقد تطرّق شاعر العرب محمد مهدي الجواهري في مرثيته للرصافي ، إلى فلسفة الموت ،إذ وقف حائرا أمام المصير المؤلم للإنسان:

لغز الحياة وحيرة الألباب

أن يستحيل الفكر محض تراب

وحين بلغ قوله:

أنا أبغض الموت اللئيم وطيفه

بغضي نيوب مخاتل نصّاب

يهب الردى شيخوختي ويقيتها

بكهولتي ويقيتها بشبابي

ذئب ترصّدني وفوق نيوبه

دم أخوتي وأقاربي وصحابي

وقفت القاعة، وطلب مَن فيها  من الجواهري اعادة قراءة القصيدة وهم وقوف !

ويظلّ سؤال الموت ،والمصير الذي يؤول إليه الجسد يثير الألم ، والحزن ، هذا السؤال عرفناه منذ الأزل، حينما رأى جلجامش في الملحمة السومريّة الخالدة جسد صاحبه “أنكيدو” مستسلما للمصير المحتوم  ، فرفض دفن الجثة إلى أن بدأت الديدان تخرج منها ، فقام بدفنها  بنفسه ، ثمّ تخلى عن ثيابه الفاخرة، اشارة للحزن على الميّت ، لدى السومريين ،ولم يجد “جلجامش ” العزاء في البكاء والنواح، فدعا النحّاسين، والنحاتين لصنع  تمثال لـ”إنكيدو” الذي مضى :

” إلى البيت الذي لايرجع منه من دخله

 إلى الطريق الذي لارجعة لسالكه

إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور

حيث التراب طعامهم والطين قوتهم

وهم مكسوون كالطير بأجنحة من الريش

ويعيشون في ظلام لا يرون نوراً “

دارت في نفسي هذه الخواطر، وأنا أشاهد مقطعا وصلني عبر “الواتس أب” لمجموعة تؤدّي “الدبكة” على صوت أغنية للمطربة الراحلة صباح ، حتى يخال للرائي إنّ المقطع لعرس ، لكنّ ظهور الفنّانة لبلبة ، وهي تضع على عينيها نظّارة سوداء ، وترتدي ملابس سوداء ذكّرتني بلقائي الأوّل بها في مهرجان “أبوظبي” السينمائي، وكانت متوشّحة بالسواد حزنا على وفاة والدتها، أثار استغرابي، وجعلني في حيرة من أمري:فهل أنا في مشهد فرح؟ أم حزن؟

حين صعدت الكاميرا إلى الأعلى ظهر نعش أنيق ،كان يهتزّ فوق أيدي الراقصين، والراقصات صعودا، وهبوطا ، ثم استدارت  الكاميرا، ليتمّ تثبيتها على صورة كبيرة للمطربة صباح، عندها اتّضح أن المقطع ليس سوى جزء من مراسم تشييع الفنانة اللبنانية صباح ، وكان الجثمان في طريقه لكنيسة مارجرجس المارونية وسط بيروت ليوارى الثرى في بلدتها بدادون ،تنفيذا لوصيّتها التي أرادت لها أن تكون مناسبة فرح ، في دلالة على إنّها أخذت من الحياة نصيبها ، وعاشت حياتها طولا وعرضا ، وظلّت مهيمنة على المشهد الإعلامي لستّة عقود، غنّت خلالها ما يزيد عن 3000 أغنية ،وشاركت في تمثيل   83 فيلماً ، و27 مسرحية فعاشت حياتها بفرح ، فأسلمت الروح ” راضية مرضيّة ” ،وزفّت إلى القبر زفّا !

هذه الوصيّة راقت للكثيرين ، وحازت على اعجابهم ، لكن أي ّقلوب تلك التي ترقص، وهي ترى مصيرها في المستقبل !

خصوصا إن مع انتشار وسائل الإتصال الحديثة ظهرت صرعات عجيبة ، منها تصوير الجنازات بالفيديو، وكاميرات الهواتف النقّالة ،وحتى طقوس الدفن ، ونشرها ، بدلا من الدعاء للميّت ، وذكر مناقبه ، وقد حدث أن كنت حاضرا مراسم دفن قريبة لي ، وفي غمرة حزني ، زقزق هاتفي ،نظرت لشاشته ،فوجدت مقطع ادخال الراحلة بالقبر ، بعثته  إحدى بناتها المقيمات في الخارج، بعد أن وصلها من أحد المشيّعين !!!

وفي هذا انتهاك لحرمة الموتى ، واقلال من مهابة الموقف ، واعتداء على مصير مشترك ،أجد ليس من المنطقي، مع احترامي لوصيّة الفنّانة صباح ،  أن يعبّد بـ”دبكة” !