منذ زمن ليس بالقليل بدأ التنظير لمنهجين تتبعهما القيادات الدينية في حوزاتنا العلمية في النجف الأشرف وغيرها من حواضر العلم والدين .
وربما لم يكن السيد الخميني أول من أشار الى هذين المنهجين المتقاطعين في التعاطي مع الشؤون السياسية والاجتماعية والدينية بين منهجين احدهما يقتصر شؤون الدين والدنيا على الامور العبادية والشخصية ضمن ما يعرف بالولاية الخاصة التي يرى المنظرون لها أن مهمة المرجع والفقيه في زمن غيبة الامام المهدي تقتصر على الأمور العبادية الأساسية كالفتوى واقامة صلاة الجماعة واستلام الحقوق الشرعية ولا تتعداها الى الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى لأنه ليس من وظيفتها ، بينما يذهب أتباع المنهج الاخر ( الولاية العامة ) للقول ان من اهم وظائف المرجع المجتهد التصدي للشؤون السياسية والاجتماعية والسعي لتمهيد الأجواء لتأسيس الحكومة الاسلامية والتهيئة لدولة العدل الالهي .
وبين هذين المنهجين اختلاف كبير في التعاطي مع ما يجري من مستجدات وتباين كبير في اليات التفاعل مع الأحداث والمتغيرات التي تهم مصالح الناس حتى وصل الأمر بالمرجع الشهيد محمد الصدر الى وصف الحوزة المنكفئة على نفسها المنعزلة عن هموم الشارع البعيدة عن الامه ومعاناته ومشاكله بالحوزة الصامتة الساكتة ، فيما وصف الحوزة المتحركة الفاعلة التي كان – قدس سره – ابرز مصاديقها بالحوزة الناطقة .
واستمر هذا التباين بين المنهجين ليعود مرة أخرى ويطفو على السطح مع مستجدات الأحداث السياسية والأمنية التي شهدها العراق بعد سقوط صنم الطاغية وبروز المطالبات الشعبية بالتدخل المباشر من قبل المرجعية الدينية في رسم ملامح العراق الجديد لنجد أنفسنا امام المنهجين ذاتهما مع تغير طفيف في المشهد سنشير له لاحقاً ، فمرجعية حذرة محتاطة مقيدة لا تحب الاعلام ولا يراها الناس ولا يسمعون لها حسيسا ولا نجوى ، بعيدة عن السياسة والمجتمع ، و كل ما صدر عنها من بيانات منذ اكثر من 10 سنين لا يعدو عشرين بيانا بعضها تناول موضوعات روتينية ليست مهمة ، ومرجعية اخرى تنوعت أدوارها بين التصدي للشأن السياسي وتقديم المقترحات العملية المفصلة لبناء الدولة وتثبيت الملاحظات على سير العملية السياسية الناشئة ودعمها وتقويمها والمشاركة فيها من خلال رعاية عدد من الكفاءات الوطنية وزجها في العمل السياسي الى جانب ظهورها الاعلامي المستمر وخطاباتها التي تجاوزت الثلاثمئة خطاب في شتى الموضوعات والشؤون السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
أمام هذا المشهد ظهر تغيير طفيف في الصورة عبر خلق صورة نمطية غير حقيقة عن المرجعية الأولى واجبارها على بيان الرأي في بعض المنعطفات السياسية والذي عادة ما يكون خجولا ومقتضبا وسطحيا لا يمس المشكلة في جوهرها ولا يقدم الحلول الناجعة وانما يتسم بالعموميات والمواعظ والنصائح التي لا تغير شيئا في معادلة الواقع ، بينما سعت الأدوات الخفية – الظاهرة للواعين – الى تحجيم دور المرجعية الثانية والتعتيم اعلاميا وسياسيا عليه لتوجه زخم المرجعية الأولى بالاتجاه الذي تريده وبما يحقق مصالحها وأهدافها .
وأمامنا اليوم نموذج عملي لخطابين موضوعهما واحد ( أحداث الموصل ) ومضمونهما مفترق تماما ، الخطاب الأول تبنته المرجعية المنعزلة او ( الصامتة ) كما سماها الصدر والتي اضطرها الشارع بضغوطه للخروج عن صمتها احيانا ، تناول هذا الخطاب الذي ننقل لكم نصه :
(( تتابع المرجعية الدينية العليا بقلق بالغ التطورات الأمنية الأخيرة في محافظة نينوى والمناطق المجاورة لها , وهي إذ تشدد على الحكومة العراقية وسائر القيادات السياسية في البلد ضرورة توحيد كلمتها وتعزيز جهودها في سبيل الوقوف بوجه الإرهابيين وتوفير الحماية للمواطنين من شرورهم تؤكد على دعمها وإسنادها لأبناءها في القوات المسلحة وتحثهم على الصبر والثبات في مواجهة المعتدين . رحم الله شهداءهم الأبرار ومن على جرحاهم بالشفاء العاجل انه سميع مجيب” ))
تناول نقطتين أساسيتين ضمن منهج العمومية والوعظ الذي أشرنا اليه انفاً : النقطة الأولى : التأكيد على ضرورة توحيد كلمة السياسيين بوجه الارهاب واهمية حماية المواطنين ، والنقطة الثانية : دعم القوات المسلحة في حربها ضد الارهاب .
ويبدو جليا خلو هذا الخطاب من اي عمق وبعد استراتيجي فهو لم يشخص أس المشكلة ولم يضع أي حلول لمواجهتها ولم يبين كيف يمكن أن تتوحد كلمة السياسيين وكيف يمكن اسناد قواتنا الأمنية في حربها المقدسة ضد داعش واخواتها .
ولننتقل الى الخطاب الاخر خطاب الحوزة الحركية الواعية والتي سماها الصدر الحوزة الناطقة لنجد خطاب المرجع اليعقوبي الذي نشر على موقعه الرسمي بعنوان (رُبَّ ضارة نافعة.. سقوط الموصل ) خطابا شموليا واضحا مفصلا بدأه بالاشارة الى منهج افتعال الازمات وترحيلها والهروب الى الامام فلا يكاد الشعب ينتهي من أزمة حتى يقع في أزمة أكبر تنسيه الأزمة الأولى وتشغله عنها بهم الأزمة الجديدة وكيفية الخروج منها .
ثم ينتقل الخطاب لتحليل أزمة الموصل ليبين ملامحها ويرسم صورة واضحة عنها فهي ليست جديدة وانما لها خلفياتها التأريخية ولم يكن السبب فيها قوة العدو كما يعتقد البعض ولا ضعف جيشنا البطل انما تقف وراءها عدة أسباب أبرزها ( الأخطاء المتراكمة وتخلّي أغلب الكتل السياسية الحاكمة وغير الحاكمة عن أخلاقيات المهنة والشعور بمسؤولية المواقع التي ائتمنهم الشعب عليها، وعدم مهنية وإخلاص الكثير من القادة العسكريين ) نعم هذا هو التشخيص الدقيق لمرضنا الأمني ، أخطاء سياسية متراكمة ، سياسيون لا ضمير لهم ولا يشعرون بثقل المسؤولية التي حملهم الشعب اياها ، يتصفون بالاهمال واللا مبالاة لهموم شعبهم ، وفي الشأن الأمني لدينا قادة أمنيون لا مهنيون ولا مخلصون ولا وطنيون ولا هم يحزنون .
ويرى الخطاب ( اليعقوبي ) أن الحل له وجهان : استراتيجي ومرحلي ، لكنه يعرض عن الحل الاستراتيجي ويرجأه الى وقت اخر لأن الوقت عصيب الان ، لينتقل الى حلول الأزمة ومعالجاتها ، فيوجزها باتجاهين : نظري وعملي ، النظري يتمثل في الدعوة الى توحد جهود الجميع واتفاق كلمتهم على مواجهة الارهاب واستئصاله وحماية الوطن والمقدسات .
وعملي يلخصه المرجع في الدعوة الى (( تشكيل جيش رديف للقوات المسلّحة وساندٍ لها في عملياتها، يكون له قادة مهنيون وأكفاء ويزوّد بتجهيزات متطوّرة ويحظى بتدريب عالٍ ويستوعب الشباب العقائديين المتحمسين للدفاع عن أهلهم ووطنهم ومقدّساتهم ويوفّر لهم البديل عن الانخراط في الميليشيات والمجاميع المسلّحة التي تريد الدفاع عن مقدساتها ولكن وجودها خارج إطار الدولة ومجهولية قادتها وتنظيماتها يجعل احتمال الخطركبيراً. ويُكلَّف هذا الجيش بحماية المراكز الحيوية ويشارك مع القوات المسلّحة في العمليات الساخنة وسيحظى هذا الجيش بتأييد كل فئات الشعب، وينحلّ حالَ تحقيق الأغراض المرجوّة من تشكيله. ))
وكما ترون سادتي انه يضع أصبعه على الجرح مرة أخرى ، فمع إشادته بالجيش وقدرته على حماية أمن الوطن يرى التحديات كبيرة تستدعي جهدا ساندا له ، وبدل أن يلجأ البعض لاحياء الميليشيات من جديد اضطراراً مع كثرة الملاحظات عليها من ناحية التمويل والقيادة والأهداف والارتباط . يقترح المرجع تشكيل جيش نظامي شعبي ساند للجيش العراقي الباسل معاون له في حربه ضد الارهاب يرتكز على الشباب المتحمس للدفاع عن وطنه ومقدساته .
ومع كل ذلك لا ينسى سماحته الحل الأنجح والأفضل والأسرع وهو اللجوء الى السماء ومد يد العون والاستغاثة بها لنصرة المرابطين والمدافعين عن أهليهم ووطنهم ، فيوصي برفع اكف الدعاء لنصرة جيشنا وتوفيقه في مهمته العظيمة ، في صورة مكتملة من التحام الدعاء بالعمل والعطاء( فالداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر ) .
دمتم بخير أيها العراقيون وتذكروا ان ارض علي والحسين لن تكون لقمة سائغة لداعش أبدا وستنجلي سحابة حقدهم الأسود قريبا عن سماء وطن تعلوه قباب ال محمد .