-1-
كان ظهورها الفجائي بهذا الحجم الكبير الخارق للسلطة القبلية والطائفية الهشة ، هو الثمرة الطبيعية المتوقعة لحجم الخراب والخلل والفساد الذي بلغه ليس العراق وحده بل الشرق برمته ، عربه وعجمه وأقلياته.
كل الفتوحات التاريخية الكبرى قام بها متطرفون ردا على قمع مفرط وفساد كبير وخراب اجتماعي واقتصادي وظلم فادح واقع على أقليات مقهورة .
ودائما بل غالبا يفسد المتطرفون أكثر مما يصلحون ، ويضرون أكثر مما ينفعون.
وتكرّ مسبحة الظلم لتصيب الظالم وتشمل بريئه ومذنبه بذات الآن .
-2-
ليست داعش شرٌ مطلق ، هي مرض خبيث بلا شك .. مرض خبيث يدفع للحمية .. للبحث والابتكار .. لقراءة جغرافيا الجسد العليل وميكانيكية … لإعمال الفكر وشحذه … لترويض الجسد بالحركة وتغيير نظام العيش… لتنشيط التلاحم بين أعضاء الجسد وتكامل آليات عملها بشكل خلاق مبتكر.
ليست داعش شرٌ مطلق .. بل خير عميم لو تمعنا الأمر بحدب وثقة وشجاعة.
-3-
مع ميلاد الثورة الإيرانية بهويتها الدينية الطائفية المتميزة وطموحاتها التوسعية ، ولد على الضفة الأخرى أسلام سياسي آخر مغاير.
انتشر الحجاب وعجّت المساجد بالمصلين وانتشر الخطاب الديني بقوة وبدأت وفود الحجيج الإرهابي الدعووي بالتنقل في الشرق والغرب لنشر دعوة طائفية سياسية ذات صبغة مغايرة لصبغة المنافس الإيراني .
ظهرت السلفية السنية ، وبدأ الناس يفكرون بعقلية أقصائية لم تكن موجودة حتى إبان الاحتلال العثماني للشرق.
-4-
قرابة السبعون مليار دولار سعودي ذهب إلى أفغانستان والعراق والمغرب العربي وأوروبا لنشر الدعوة الوهابية .
مليارات هائلة الحجم ذهبت إلى حزب الله والبعث السوري وحوثيو اليمن ووووو .. ناهيك عن مليارات إنتاج الذرًة وتطوير السلاح الروسي والصيني ليبلغ مديات اكبر…!
-5-
كل المؤشرات وعبر ما يفوق الثلاثين عاما من عمر الثورة الإيرانية وعدوها السلفي السعودي ، كانت توحي بانفجار هائل كبير .
الفساد بلغ أقصى مدياته ، في كامل الشرق ، الكراهية بلغت أوجها ، الناس لم تعد تطيق بعضها ، الافتراق الشيعي السني تجذر بقوة بفعل التحريض المستمر المتدفق من قبل زعامات الطوائف مع مباركة الأمريكان لما في ذلك من مصلحة لحليفتهم إسرائيل.
ثقافة التكفير واللعن والشتم والسب والتحريض على القتل وتفجير النفس بالأبرياء وأحلام الجنّة والعشاء الرباني ، تزهر للمرة الأولى في هذا الشرق منذ ما يفوق الألف عام .
منذ غزوات المسلمين الأولى على الشعوب والحضارات والدول التي بلغت طور الاضمحلال بعد دهر من الرقي والنبوغ والقوة.
-6-
في كل مراحل الاضمحلال الحضاري ، يلد فكر متطرف .
قد يكون فاتحة لعصر جديد وقد يكون لا أكثر من موجة عابرة يتم امتصاصها بسرعة .
الثورة المحمدية ، كانت فاتحة عصر جديد .. أخرجت العرب من خانق الجزيرة إلى فضاءات الشرق الفسيحة وبلغت أوج عظمتها في عصور الظلام الأوروبي.
لا شك أن عرب الفتح ارتكبوا حماقات ومظالم كثيرة ، لكنهم تأثروا بقوة بالبلدان المفتوحة والشعوب التي سبقت العرب في التحضر ، أخذوا منهم الكثير وأعطوهم الكثير.
الثورة الفرنسية كانت فتحا حضاريا عظيما لا زالت آثاره ماثلة بقوة في كامل التراب الأوربي.. الثورة الفرنسية استلهمت المسيحية وفكر عظماء أهل الفكر في فرنسا ، مونتسيكو وروسو وووو… !
رغم أن الثورة أكلت أبنائها ، لكنها أكلت ملوك أوروبا واحدا اثر الآخر وبدأت عصر جديد جميل.
قبائل (الهون) الذين اسقطوا الإمبراطورية الرومانية التي بلغت أوج فسادها ، لم ينجحوا في أن يخلقوا البديل الحضاري المؤثر.
المغول الذين اسقطوا الحضارة العربية الإسلامية لم ينجحوا في أن يخلقوا بديلا أفضل بالنتيجة اعتنقوا دين أهل البلدان المُحتلة وتثقفوا بحصاره تلك البلدان لأنهم لم يكونوا يمتلكون بديلا يستحق الحياة.
ثورة اكنوبر الإشنراكية العظمى ، جاءت بفلاحين وبروليناريا مقهورة تطرفت بقوة لكنها نجحت في بناء دولة حررت العالم من المد النازي العنصري وبلغت القمر وأنتجت القنبلة النووية وخلقت قيما أخلاقية وحضارية نبيلة وسادت لقرابة السبعون عاما قبل أن تبلغ دورة اضمحلالها .
-7-
حسنا … اضمحلال الشرق عامة في يومنا هذا أو لنقل بلوغه حضيض اضمحلاله ، هل سيطول ؟
هل يمكن أن ننجح في أن نخرج من حمأنه العفنة بمخرج مشرف نظيف تُسعد به أجيالنا القادمة ؟
هل من خلاص قريب يا ترى ، أم سنستغرق في تجرع الوحل حتى الثمالة ؟
الأمر لنا … الأمر بأيدينا … بأيدينا فيما لو شحذنا همتنا وقدحنا زناد الفكر للخروج بحلول عقلانية ناجعة سريعة المفعول.
تلك في رأيي مسؤولية القوى ذات التأثير البالغ في الحراك الاجتماعي والسياسي ، أعني رجال الدين ورجال السياسة.
لأول مرّة تستشعر إيران والسعودية والعرب والكورد والمسيحيين واليهود حجم الخطر القادم … لأول مرة يحصد الجميع ثمار ما جنت أيديهم بجهلهم وغبائهم وجشعهم .
لأول مرة يمكن أن يجتمعوا من جديد على مشترك واحد وهو الخلاص من داعش وليتهم يبدءون الأمر بأنفسهم فيتخلصوا من داعش التي هي فيهم .. في قلوبهم وعقولهم وضمائرهم .