كان كثيرون من السياسيين والكتاب العراقيين والعرب، وحتى الأجانب، حتى يوم أمس، معذورين حين يعتبرون العراق دولة، فيستنكرون بعض سلوك رئيس أو وزير أو رئيس برلمان أو نائب أو مدير أو سفير، ويحتجون على صدور قانون، وعلى عدم صدور آخر، ويطالبون بمعاقبة خائن أو قاتل أو مختلس. ولكن الأوامر والإرشادات التي أملاها الولي الفقيه على (أولاده) المخلصين، عمار الحكيم ورفاقه في طهران، لم تُبق لهم عذرا ولا ذريعة. فهي إعلان مُجسَّد ومعلن وصريح عن زوال الدولة الوطنية العراقية، شرعا وقانونا، وعن ضم العراق، نهائيا، إلى أملاك الجمهورية الإسلامية، ولو كره الكارهون. ألم تروهم في حضرته واجمين خاشعين، يستمعون إليه وهو يبشرهم بأن “مستقبل العراق مشرقٌ للغاية”، ويبارك لهم تحالفهم الذي اعتبره “حدثا مهما”، ويُبلغهم بأن الحشدَ الشعبي” ثروة عظيمة، وذخرٌ لليوم والغد في العراق، وينبغي دعمُه وتعزيزه “.؟ ألم تسمعوه وهو يُعلن أنه يقدر أداء حيدر العبادي فقط بسبب تضامنه مع الحشد، وليس لأي شيء آخر؟. أما عمار الحكيم فقد ثمن (وصايا) المرشد الأعلى، واستعرض أمام جنابه تقريرا عن مسيرة التحالف الوطني، والتدابير المتخذة لتعزيز مسيرته، مؤكدا أن أهم منجزات ذلك التحالف هو المصادقة على قانون الحشد الشعبي. إذن فالولي الفقيه، في هذه المقابلة التاريخية الفاصلة، أمَر، شرعا، وقانونا، وعُرفا، بتعيين الحشد الشعبي حاكما وحيدا لمستعمرة العراق، وعلى من يعنيهم الأمر أن يُنفذوا دون شقاق ولا نفاق. بعبارة أخرى، لقد انتهت صلاحيات فؤاد معصوم، ونوابه الثلاثة، نوري المالكي، وأياد علاوي، وأسامة النجيفي، وتم إلحاق حيدر العبادي وإبراهيم الجعفري وسليم الجبوري وجميع نواب البرلمان، سواءٌ منهم التابعون لأحزاب التحالف (الوطني) أو المعارضون السنة والكورد والمسيحيون، بالقيادة العليا للحشد الشعبي، وأصبحوا جميعا (ندّابات)، و(لطّامات) مُستأجرات لدى هادي العامري وأبي مهدي المهندس، القائديْن المخلصيْن المعتمديْن الوحيدين لدى المندوب السامي الإيراني قاسم سليماني. وكما ترون، لقد ألقى الإيرانيون القبض على العراق الموغل في التاريخ، والمُتخم، على مر القرون، بكل عظيم من القادة والمفكرين والمبدعين، شعرا وفنونا وفلسلفة وثورات وانتصارات، وأذلوه، وأخذوه أسيرا ملفوفاً على رقبته وعلى يديه وقدميه حديدُ الذل والمهانة، ورموا به تحت أقدام من لا يرحم، ولا يفهم، ولا يخاف من يوم حساب. أما نحن، ففي كل مرة كنا نكتب فيها أن العراق مستعمرة إيرانية كانت تهب علينا عواصف الشتائم ورياح الضغينة وأفانين الاتهامات بالطائفية والعمالة من جيوش مجيشة من كتاب ومعلقين تنضح تعليقاتهم وردودهم بطعم واحد هو طعم الغرور المتعالي، والناظر إلينا بعين السيد إلى المَسود، والقوي إلى الضعيف، والمحتل إلى أسراه وعبيده ورعاياه.
حتى جاء هذا اليوم الأسود الرديء ليعلن الولي الفقيه، في لقائه بعمار الحكيم ورفاقه في طهران، بعظمة لسانه، أن زمن الدولة التي تحكمها القوانين، ويديرها الخبراء والمتخصصون في السياسة والمال والاقتصاد والديبلوماسية والتربية والتعليم وشؤون الماء والكهرباء والري والزراعة والعمارة والمجاري قد ولى إلى غير رجعة، وأصبح المسلح المستورَد من حسينية أو مقهى أو مضافة شيخ عشيرة قائدا ومشيرا ومُنظرا ومُخططا ومٌبرمجا وآمرا وناهيا، ولا يملك (أثخن) رئيس أو وزير أو مدير إلا أن ينحني أمامه، ويأخذ له السلام، أو أن يجد نفسه سجينا أو متهما بوهابية أو داعشية أو بعثية. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والمحزن أن العراق ليس الوحيد الذي أدخلوه في عصر العصابة. بل إن إيران ذاتها تحكمها عصابة، بثياب الحرس الثوري، وفيلق ولي الأمر، وقوات التعبئة الشعبية، وفيلق القدس، وكتائب الاستخبارات والأمن الوطني. وفي سوريا الحكمُ لعصابة. وفي اليمن عصابة. وفي لبنان عصابة. والنية (ماشية) على تعميم حكم العصابة في السعودية والبحرين والكويت وفلسطين، بعد إزالة إسرائيل من الوجود، عن قريب. ففي كلمة أمام مؤتمر طهران للأمن في غرب آسيا، يوم الأحد، قال وزير الدفاع وإسناد القوات المسلحة الإيرانية العميد حسين دهقان ” إن إيران مستعدة لأي احتمالات في ما يخص شن عدوان أميركي ـ “صهيوني” ضدها. وحذر من تداعيات شن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني عدوانًا ضد إيران، مؤكدًا أن “إحدى تداعيات هذه الحرب ستكون نهاية الكيان الصهيوني”. والآن، وبعد كل هذه المقدمات المتلاحقة، نصل إلى خلاصة القول. إن داعش عصابة. وثابتٌ أنها واحدة من أبشع أنواع العصابات التي شهدها التاريخ العربي الإسلامي الهمجية الموغلة في الحيوانية والتوحش. ولكنها محاصرة، وملاحقة، ومستهدفة من أشد جيوش العالم خبرة وعلما وسلاحا وتمويلا، لا في العراق وحده، ولا في سوريا وحدها، بل في جميع أرجاء العالم. فخلاياها النائمة مطاردة في أوربا والدول العربية والآسيوية والإفريقية، كافة، ولا يمر يوم إلا ونقرأ أو نسمع أخبار سقوط مجنديها وجواسيسها في أيدي هذه الحكومة أو تلك. وها هي تقترب من نهايتها، يوما بعد يوم، ولن يطول الزمن حتى نرى قادتها وأفرادها وأنصارها قتلى أو في السجون، ولكن لن يتنفس أحدٌ في العالم الصعداء. فهناك عصابة أخرى مطلقة السراح، تبسط هيمنتها، مباشرة أو بواسطة طوابيرها الخامسة ووكلائها وجواسيسها، على دولة العراق، ودولة سوريا، ودولة ولبنان، ودولة اليمن، وعلى نصف فلسطين، وتهدد دولا أخرى عديدة، وتفعل في كل هذه الأرض الواسعة الواقعة تحت سطوتها نفس ما تفعله داعش، وزيادة، ولا نجد دولة واحدة من الدول التي تتغنى بمحاربة الإرهاب (الإسلامي) ترسل جنديا واحدا لمعاقبتها، أو علي الأقل، لإقناعها بتخيف احتقارها لقيم حقوق الإنسان وآدمية البشر وسيادة الدول وكرامة الشعوب. بل إن العالم كله يرى ويسمع دولة كبرى تجاهر برعاية العصابات الإيرانية (المجاهدة)، وتسلحها، وتحميها من أي عقاب، بل تشاركها القتلَ والحرق، من الجو ومن البحر، وعلى الأرض، ثم يحرص هذا العالم المنافق على صداقتها، ولا يقطع تجارته معها، ولا يدعو إلى إدانة إرهابها. ألم يعلن الرئيس المنتخب ترامب، مرارا، أن أولى أولوياته القضاء على محاربة الإرهاب
والقضاء على داعش، وأن إيران أصل كل خراب، ثم يعلن، في الوقت نفسه، حبه وإعجابه بالرئيس الروسي بوتين، حليف إيران، حتى وهو يرى طائراته وصواريخه تدك المنازل على رؤوس أصحابها المدنيين، وتحرق المدارس والملاجيء والمستشفيات وأسواق الخضار؟ ترى لو جاء اليوم المبارك السعيد وكُنست داعش من نينوى والرقة، وتحرر آخر شبر عراقي وسوري من شرورها، هل سنرى العالم الذي قهَرها بطائراته وصواريخه وأقماره الصناعية وبوارجه الحربية ومخابراته وجيوشه الجرارة، يستدير، بصدق وجدية وشرف، ليخلص البشرية من داعش الأخرى التي لا تختلف عن الأولى في التخلف والهمجية وانتهاك الحرمات؟ أم إن داعش البغدادي إرهاب وداعش الولي الفقيه جهاد؟