19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

خُـرافـــة أوربـــا

خُـرافـــة أوربـــا

غاريث هاردنغ
ترجمة/غسـان نامق
أزمة اليورو ليست في الحقيقة أزمة مال، بل تدور حول فرضية وجود الأوربيين.
عندما دخل اليورو في التداول الرسمي مع دقات منتصف ليل 1 كانون الثاني / يناير 2002، أضاءت الألعابُ النارية سماءَ الليل في كافة أنحاء أوربا احتفالاً بنَبْذِ الفرنك الفرنسي والمارك الألماني والدراخما اليونانية وحفنةٍ من العملات القديمة الأخرى. وقد استضافت بروكسل عرضاً صوتياً وضوئياً باذخاً، في حين كَشَفَت فرانكفورت النقابَ عن نصبٍ ذي خمسة أدوار يمثل اليورو الجديد مع قيام فرقةٍ غنائيةٍ بأداء أغنية “بأذرعٍ مفتوحة (أغنية اليورو العالمية)”. وأعلن “ويم دويزنبيرغ” رئيس المصرف المركزي الأوربي أنه مقتنعٌ بأن إطلاقَ عُملة اليورو المعدنية والورقية “ستظهر في كتب التاريخ في كافة بلداننا وما وراءها كبدايةٍ لعصرٍ جديدٍ في أوربا.”

كانت أوائلُ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تبدو اللحظة الأوربية فعلاً. فراح خبراء السياسات المتنورون على جانبي المحيط الأطلسي يتحدثون بإسهاب عن المولود الجديد الساحر على المسرح العالمي. وفي هذه المجلة عام 2004، وصف “باراغ خانا” الاتحاد الأوربي “الأنيق” بأنه “قوة عظمى شابة وأنيقة ومستقيمة” تتبختر في درب الدبلوماسية العالمية لتتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية الجلفة والمدفوعة بفعل التستوستيرون. وفي وقت لاحق في تلك السنة كتب عالم الاقتصاد “جيريمي ريفكن” كتاباً مدحياً طويلاً بعنوان “الحلم الأمريكي: كيف تطغى الرؤية الأوربية للمستقبل على الحلم الأمريكي بهدوء” والذي تبعه كتاب مراسل صحيفة الواشنطن بوست “تي آر ريد” بعنوان “الولايات المتحدة الأوربية: القوة العظمى الجديدة ونهاية التفوق الأمريكي”. وفي عام 2005 قام خبير مجلة السياسة الخارجية “مارك ليونارد” بتوضيح “لماذا ستقود أوربا القرن الحادي والعشرين”.

ويتساءل المرء عن مقدار مبيعات هذه الكتب اليوم حيث أصبح الحلم الأوربي كابوساً للكثيرين مع ترنح اليورو ووقوفه على شفير الانهيار ومع غوص الاتحاد الذي أتى به في أزمة ثلاثية الجوانب سيستغرق حلها سنين إن لم نقل عشرات السنين.

أولاً، هناك الفاجعة الاقتصادية. فكما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية، تمر أوربا بأشد أزماتها المالية منذ ثلاثينيات القرن العشرين. فالبطالة مرتفعة – أكثر من 20 في المائة في إسبانيا – بينما ليس هناك وجود للنمو تقريباً، كما إن الحكومات المدينة تستنفذ أموالها. وتواجه بعض البلدان، مثل بريطانيا واليونان وأيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، إمكانية وجود جيل من المشقات.

ثانياً، تأتي الأزمة الاقتصادية على رأس أعمق أزمة سياسية واجهها الاتحاد الأوربي. فأكثر مشروعاته طموحاً، وهو إيجاد عملة واحدة، يتعرض لخطر الانهيار. كما إن مبدأ حرية انتقال الناس، وهو معلم آخر من معالم التكامل الأوربي، يواجه تحديات مع قيام بعض الدول بإعادة فرض السيطرات الحدودية. كما إن القيادة المثالية غير قادرة على التحقق. في حين ينقلب جمهور الناخبين المستائين بأعداد كبيرة ضد المهاجرين. وفي خطابه السنوي في شهر أيلول / سبتمبر الماضي اعترف رئيس المفوضية الأوربية “خوزيه مانويل باروسو” بقوله “إننا نواجه أكبر تحدٍ في تاريخ اتحادنا”. وبعد مرور شهر واحد وصفت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” التحدي الذي يواجهه اليورو بأنه “أسوأ أزمة تواجه أوربا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”. وللمرة الأولى في عشرين سنة في بروكسل نجد أن تشظي الاتحاد الأوربي لم يعد مجرد خيال علمي، بل غدا احتمالاً واقعياً، وإن كان غيرَ محتملٍ نوعاً ما.

لقد قام الاتحاد الأوربي على خُرافة تقول بأننا شعبٌ واحد يجمعنا مصيرٌ واحدٌ مشترك – “إتحادٌ أوثق”، وفقاً لمعاهدة روما عام 1957 والتي أسست ما أُطلق عليه حينها السوق الأوربية المشتركة. والآن نكتشف بأن الاختلافات الإقليمية والقومية مستعصيةٌ على الحل وأن الأوربيين يفكرون ويتصرفون بشكل مختلف بين فرد وآخر. رأي بريطانيا في دور الدولة يختلف كثيراً عن رأي فرنسا. والمفهوم اليوناني أو الإيطالي للقانون يختلف كثيراً عن المفهوم السويدي أو الدنماركي. وينظر شعب لاتفيا إلى روسيا بشكل مختلف تماماً عن نظرة الشعب الألماني. والضرائب التي نجد الأيرلندي على استعداد لدفعها تختلف تماماً عن ما يسمح به الدنماركي أو البلجيكي.

إنعدام الوحدة هذا هو الأزمة الثالثة التي تعاني منها أوربا، وهي الأعمق، حيث أنها تنطوي على الويلات الاقتصادية والسياسية في القارة. فليس لدى معظم الأوربيين إلا فكرة طفيفة عن ما يعنيه الاتحاد الأوربي في العالم، وعن ما يربط شعوبه بعضهم ببعض، ومن أين جاؤوا في الماضي، وإلى أين سيذهبون في المستقبل. فبعد أكثر من 60 سنة من اندماج الاتحاد الأوربي، و200,000 صفحة من التشريعات، وكومة ثقيلة (وما تزال تنمو) من المعاهدات، نجحنا في إقامة اتحاد أوربي بدون أوربيين.

“نعم، ولكن ما هو الأوربي؟”

السؤالُ الذي طَرَحَهُ عَلَيَّ أحدُ طلبتي كان ينبغي أن تكون إجابتُه سهلة عليّ. على أي حال، لقد ولدتُ في ويلز وعشتُ في القارة الأوربية – أوسلو وبراغ وبروكسل – معظم السنين الـ 25 الأخيرة. ولقد سافرتُ إلى كافة بلدان الاتحاد الأوربي باستثناء مالطا. وأتحدث بعددٍ من اللغات الأوربية ودرستُ التاريخ الأوربي والسياسة الأوربية في الجامعة. ولقد عملتُ في المفوضية الأوربية والبرلمان الأوربي. وأفضل أصدقائي هم من الهولنديين والألمان والسلوفاك والسويديين. وشريكتي في الحياة فرنسية، وأطفالي ثنائيو اللغة. وخلافاً لبعض الرؤساء الأمريكان في الآونة الأخيرة، فإنني أعرف الفرق بين سلوفينيا وسلوفاكيا. وإن كان لشخصٍ أن يكون أوربياً، أو على الأقل أن يعرف ما هي الأمور التي تجعله أوربياً، فإنه أنا.

ومع ذلك فقد وجدتُ نفسي أتمتم وأتلعثم حين بحثي عن جواب. تحدثتُ قليلاً بشكل متردد حول القيم الأوربية – الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون – ولكني لم أقنع نفسي، ناهيك عن عدم إقناع الصف الدراسي.

قال “يان بيتر بالكينينده” رئيس الوزراء الهولندي عام 2004: “القيمُ الأوربيةُ الأساسيةُ مقدسة”. ولكن حين قام بتحديد تلك القيم فعلياً، كان مبهماً، فقال معترفاً: “إننا نناقش فكرة أوربا طوال السنين الـ 1,200 الماضية، لكننا لا نستطيع أن نعرف معناها.” تلك هي المشكلة: القيمُ هامة لأنها هي الآصرة التي تربط البلدان والشعوب بعضها ببعض. وهي تساعد على تحديد الأمور التي يؤمن بها المجتمع وتلك التي لا يؤمن بها.

لقد تم تحديد القيم الأمريكية بوضوح وإحكام في وثيقة الحقوق وفي الدستور الأمريكي اللذين يجب على كافة طلبة المدارس الأمريكان دراستها، كما يحملها بعضُ أعضاء مجلس الشيوخ في جيوبهم الخلفية. ومن ناحية أخرى، ليس للاتحاد الأوربي دستور، أما وثيقته الخاصة بالحقوق الأساسية فلم تصبح ملزمة قانونياً إلا في عام 2009. وأقرب ما لدى الاتحاد الأوربي إلى وثيقة التأسيس هي معاهدة قانونية مستغلقة على الأفهام تم تعديلها ست مرات منذ توقيع معاهدة روما عام 1957. وأحدثُ تجسيدٍ لكتاب أحكام الاتحاد الأوربي، وهو معاهدة لشبونة 2007، يُلزم الاتحاد بقيمٍ مثل حرية التعبير والديمقراطية والتنمية المستدامة. فلا عجب من صعوبة الاختلاف مع الصحفي الأمريكي “كرستوفر كالدويل” الذي كتب في كتابه الاستفزازي عام 2009 “تأملات في الثورة في أوربا” قائلاً: “ليس ثمة إجماع، ولا حتى بداية إجماع، على ماهية القيم الأوربية.”

كيف وصلنا هنا؟ في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت الأمور التي تؤمن بها أوربا واضحة: الازدهار لقارة مزقتها الحرب والتحرر من الاستبداد – على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في النصف الغربي – والسلام بين الأمم بعد قرون من إراقة الدماء. (بين وقت وآخر نلاحظ نفحة من الخشية المتأصلة بأن هذه الشروط ليست دائمية، كما حدث مع ملاحظة “هوبز” التي جاءت في صحيفة “إنترناشنال هيرالد تربيون” قبل قمة أزمة اليورو في أواخر شهر تشرين الأول / أكتوبر: “ما الذي ينقذ أوربا من الجحيم؟ الاتحاد الأوربي.”) من الصعب الجدال حول السلم والازدهار والحرية – ولكن هل هناك سوى ذلك؟ وقد قام الكاتب البريطاني “تيموثي غارتون” بمحاولة تحديد القيم الأوربية في مقالة كتبها عام 2007 مضيفاً القانون والتنوع والتضامن إلى القائمة. إلا أن هذه الأمور لا تقتصر على أوربا. كما إنها تغطي مجموعة من الاختلافات في ما بين دول الاتحاد الأوربي.

يمكن أن يكون حكم القانون، على سبيل المثال، شرطاً مسبقاً للانضمام إلى الاتحاد الأوربي. إلا أنه من الأفضل لبعض الدول، مثل بلجيكا وفرنسا، أن تدعو إلى تشريعات جديدة بدلاً من الالتزام بقوانين قد تم سنها مسبقاً. وفي بلدان أخرى، مثل بلغاريا ورومانيا، نجد الفساد متفشياً. أما في إيطاليا فنجد المافيا تسخر من العدالة في جنوب البلاد.

إلا أن مسائل التنوع والتضامن هي التي تترنح فيها قصة عموم أوربا أكثر من أي مسألة أخرى. فالاتحاد الأوربي يفتخر باختلافاته، حتى لو حاول إصدار تشريعات تخرج هذه الاختلافات من حيز الوجود. فشعار الاتحاد الأوربي هو “متحدون في التنوع”، ولا توجد إلا أماكن قليلة فوق سطح الأرض تتمتع بمثل هذا الخليط الرائع من الثقافات واللغات والمناظر الطبيعية والشعوب المتعايشة في مساحة صغيرة كأوربا. غير أن التنوع لا يساوي التسامح، كما إن وجود الاختلافات لا يعني قبولها – وهي حقيقة أخذت بالسطوع مع تزايد غوص أوربا في أعماق الأزمة ومع توتر العلاقات في ما بين أعضاء الاتحاد الأوربي.

عندما اقترح السياسي الشعبي الهولندي “غيرت فلدرز” اندماج الفلاندرز وهولندا عام 2008، أرسل أحد قراء جريدة فلمنكية تعليقه الغاضب على الخط المباشر قائلاً: “إذا اندمجت الفلاندرز مع ذلك الشعب المتكون من الفضوليين والهمج العنيفين والشباب القتلة والمعتوهين، فإنني عندذاك سأنضم إلى تمرد مسلح! فمن السئ أن نكون مع الهولنديين في المعسكر نفسه!” وكتب آخر قائلاً: “سيكون الاتحاد مع المغرب أو منغوليا أفضل. فهناك لا يتبول الناس على جدران الكنائس، كما إنهم لا يأكلون الكروكيت [كتل من لحم السمك – المترجم] المقلي من ماكنات بيع الوجبات الخفيفة.” ربما تكون هذه إجابات غاضبة على نحو خاص، غير أنها إجابات لها دلالتها: فعلى الرغم من مرور 60 سنة من التكامل والتفاعل الوثيقين في ما بين الأوربيين، إلا أن الصور النمطية ما تزال حية، كما إن حالات التحيز في أعمق ما يمكن أن تكون عليه، بينما نجد الأحزاب السياسية التي تتبنى القليل من التنوع والمزيد من عدم التسامح تكتسب الشعبية. وفي الانتخابات الأخيرة في فرنسا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وهنغاريا، وحتى في السويد وفنلندا التقدميتين، عبّر الناخبون عن نوعية المخاوف وحالات الهلع التي لا يمكن وصفها إلا بأنها الجانب الآخر من حلم “ريفكين” الأوربي [إشارة إلى الكتاب المذكور أعلاه والذي يحمل عنوان “الحلم الأوربي: كيف تطغى الرؤية الأوربية للمستقبل على الحلم الأمريكي بهدوء”، وهو من تأليف الاقتصادي والكاتب والمستشار والناشط السياسي الأمريكي “جيريمي ريفكين” والمنشور عام 2004 – المترجم].

إن كان هناك أي حلم أوربي، فإنه يقوم على حس بالتضامن في ما بين أعضاء نادٍ يضم 27 بلد. ولكن حاولوا أن تقولوا ذلك للفرنسيين الذين خرجوا في مسيرات ضد السباكين البولنديين الأسطوريين الذين سرقوا أعمالهم أثناء النقاش حول دستور الاتحاد الأوربي المحكوم بالسقوط عام 2005. أو حاولوا أن تقولونه للهولنديين الذين يعوقون تحويل مبالغ كبيرة من المال إلى الأعضاء الأكثر فقراً ضمن التكتل. أو حاولوا قوله للألمان والسلوفاك والفنلنديين الذين توجَّبَ سحبُهم، وهم يرفسون بأرجلهم ويصرخون، من أجل إلقاء حبل النجاة إلى اليونان المفلسة.

في مؤتمر أوربا عام 1948 يشتهر عن رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” أنه قال: “نأمل أن نرى قارة أوربية يفكر فيها الناس من كل بلد بأنهم أوربيون وكأنهم ينتمون إلى بلدهم الأصلي، و … أينما يذهبون في هذا المجال الفسيح … فإنهم سيشعرون بـ ‘ها أنا في وطني‘ بحق.”

البعض يأمل. واليوم ليست هناك حرية حركة بالقدر الذي كانت عليه حين ألقى “تشرشل” خطابه – إثنان في المائة تقريباً من الأوربيين يعيشون في دولة من دول الاتحاد الأوربي ليست هي الدولة التي يحملون جنسيتها. وبدلاً من إلغاء الحدود – وهو هدف الاتفاقية التي وقعتها بلدان أوربا الغربية في شينغن، لوكسمبورغ، عام 1985 – يبدو أن هذه الحدود تعود إلى حالتها. فقد وضعت فرنسا مؤخراً نقاط سيطرة حدودية على حدودها مع إيطاليا لمنع موجة من المهاجرين القادمين من ليبيا التي دخلت حرباً من أجل تحريرها، كما أغضبت الدنمارك جيرانها حين ألغت بعض أحكام السفر بدون جوازات سفر والتي أقرتها إتفاقية الشنغن. فلا تبدو أوربا كلها مستعدة لقبول كافة الأوربيين بعد.

قال “ريد” في كتاب “الولايات المتحدة الأوربية” [إشارة إلى “تي آر ريد” T. R. Reid وكتابه المذكور أعلاه “الولايات المتحدة الأوربية: القوة العظمى الجديدة ونهاية التفوق الأمريكي” الصادر عن “بنغوين عام 2004 – المترجم] إن جيلاً جديداً قد ظهر، وهو “الجيل هـ” Generation E: أفرادٌ يتجاوزون الجنسيات يشربون الكوكتيل ذاته ويهتفون لفرق كرة القدم ذاتها ويرتدون الملابس ذاتها ويحتفلون بيوم أوربا بتاريخ 9 أيار / مايو ويحتفون بمسابقة يوروفزيون Eurovision للأغاني. وكتب قائلاً: “يتجه الناس في أوربا الجديدة – وخصوصاً أفراد الجيل “هـ” – نحو ثقافة أوربية مشتركة.”

ومن ناحية أخرى، ففي استطلاعات الرأي يقوم الناخبون اليوم بالتماهي مع دولهم القومية أكثر من تماهيهم مع أوربا. وكما كان “كريس باتن”، المفوض الأوربي السابق للشؤون الخارجية، قد قال: “الأمة حية وبحالة جيدة – أكثر قوة من أي وقت مضى من بعض النواحي…. وربما تكون أكبر وحدة يمنحها الناس ولاءاً عاطفياً بملء إرادتهم.” وفي الحقيقة، فحتى الدول القومية تعد أكثر مما يستحقه الكثير من الأوربيين. ففي أوربا اليوم هناك 16 بلداً أكثر مما كان في عام 1988، ويعود الفضل في ذلك إلى تمزيق الدول الاصطناعية – الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. وفي بلجيكا، وهي بلدٌ أصغر من ولاية مريلاند [الأمريكية – المترجم]، هناك انقسام شديد بين الفلاندرز ووالونيا حيث لم تكن هناك حكومة لمدة 500 يوم حتى شهر كانون الأول / ديسمبر – رقم قياسي عالمي.

وبالطبع، بإمكان المرء أن يمتلك عدة هويات. فنجد بعض الأوربيين كاتلانيين وإسبان، فضلاً عن كونهم أوربيين. وآخرون مسلمون وفرنسيون. ولكن لا يمكن خلق الهويات بطريقة اصطناعية؛ فهي تتشكل في وقت مبكر ولا تزول أبداً. فلقد عشتُ حتى الآن في بروكسل لفترة أطول مما عشتُها في وطني ويلز. وعلى الرغم من بطاقة هويتي ورخصة قيادتي البلجيكيتين، فإنني لا أحس بأنني “بلجيكي ولا حتى بمقدار 1 في المائة. يقول جواز سفري بأنني مواطن في الاتحاد الأوربي، غير أن هذا انتماء إداري وليس ارتباطاً عاطفياً. طعام المارمايت والمربى والكريكيت والجعة الدافئة ولعبة السنوكر ولعبة الأسهم وحالات الصمت المحرج والمستنقعات والقطارات البطيئة والوجوه الشاحبة – تلك هي بريطانيا. ذلك ما أستطيع الانتساب إليه. ذلك ما جعلني مَنْ أنا. أما شاطئ أوستند والحلزون وسمك الأنقليس والملك “ألبرت الثاني” والستائر المخرمة وتقبيل خدود الرجال وتماثيل الأقزام في الحدائق والضرائب بمقدار 55 في المائة وسباق الحمام وكعك الزنجبيل – تلك هي بلجيكا. وذلك ما لا أستطيع الانتساب إليه.

قد تكون ابنتي التي تبلغ 8 سنوات من العمر – والتي أعلنتْ مرة أنها “نصفُ بلجيكية ونصفُ فرنسية ونصفُ ويلزية” – واحدة من أوائل أفراد الجيل “هـ”. ولكن في الوقت الحاضر لا أعرف أحداً، ولا حتى في بركسل، يحتفل بيوم أوربا. فإن ارتدى الأوربيون الملابس نفسها، فمن المحتمل أن تكون ملابس أمريكية. وكل ما موجود من الثقافة الأوربية المشتركة هو الحفاظ على مجموعة صغيرة جداً من الكوزموبوليتانيين [العالميين] حَسَني الثقافة وعديمي الجذور: مسؤولو الاتحاد الأوربي الصغار ورحالة يوروستار وطلبة السوق المالية.

صحيح أن الأوربيين يتجمعون ببطء بطرق أخرى. فمعظم الأوربيين يهتمون بنهائي دوري أبطال كرة القدم أكثر من اهتمامهم بانتخابات البرلمان الأوربي. وبفضل الخطوط الجوية منخفضة القيمة مثل “ريانير” و”إيزيجيت” يتمكن الأوربيون من التنقل عبر قارتهم بسعر وجبة جاهزة. كما إن البريطانيين غير المولعين كثيراً بالاتحاد الأوربي يبتهجون من نجوم كرة القدم الفرنسيين والاسبان والبرتغاليين الذي يلعبون في نواديهم المحلية ثم يذهبون إلى الحانات ليحتسون الجعة البلجيكية والألمانية. ويوظف الأيرلنديون بنائين بولنديين يستأجرون بدورهم عمالاً أوكرانيين لبناء بيوت أحلامهم في وطنهم. ويعود الفضل في الكثير من هذه الأمور إلى الاتحاد الأوربي الذي قام بتفكيك الاحتكارات الوطنية للخطوط الجوية وأنهى الحصص الخاصة بلاعبي كرة القدم الأجانب ومنح الأوربيين حق الحياة والعمل والترشح للانتخابات في أي دولة عضو. وفي نهاية الأمر سيتم بناء أوربا بأيدي الأوربيين وليس بالأوامر البلجيكية. ولا شك في أن الفضل في التكامل الأوربي يعود إلى المقاولين المتهورين مثل “ستيليوس هاجي-يوانو” مالك “إيزيجيت” و”مايكل أوليري” مالك “ريانير”، كما يعود بنفس القدر إلى الآباء السياسيين المؤسسين مثل “روبرت شومان” و”جون مونيه”.

ومن الأمور التي لا تنكر كذلك أن الأوربيين يمتلكون بعض الأمور المشتركة فعلاً، وذلك بالمقارنة مع الأمريكان أو الآسيويين أو الأفارقة. وكما يبين التصويت على “صندوق مارشال الألماني” [“صندوق مارشال الألماني الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية” هو مؤسسة أمريكية غير منحازة خاصة بالسياسات العامة وتقديم المنح، وهو مكرس لتشجيع المزيد من التعاون والتفاهم بين أمريكا الشمالية وأوربا – المترجم]، نجد الأوربيين متعبين من الحرب التي عاشوا في ظلها لعدة قرون. فهم يقبلون الضرائب المرتفعة على مضض بوصفها السعر الذي يتوجب عليهم دفعه لقاء خدمات الرفاهية المقدمة من المهد إلى اللحد. وهم يتمتعون بعطلاتهم السخية واستراحات الغداء الطويلة. كما يتوقعون نقلاً عاما جيداً ويهتمون بالبيئة. ولمعظمهم إرثٌ مشترك يقوم أساسُه على الفكر والحضارة الإغريقيين الرومانيين وعلى الديانة المسيحية وعلى قيم التسامح والعلمانية التنويرية – حتى لو لم يكن ذلك بوعي منهم.

وفي مقال للكاتبة الروائية البريطانية “أي إس بايات” عام 2002 بعنوان “ما هو الأوربي؟”، سألت الكاتبة الكاتب الألماني “هانز ماغنوس إينتسينزبيرغر” فيما إذا كان يشعر بأنه أوربي أم ألماني. أجاب بأنه لا وجود لأناس باسم الآوربيين ولكنه أضاف بعد وقفة قصيرة: “من جهة أخرى … إذا رفعتِني في بالون وأنا معصوب العينين ثم أنزلتِني في أية مدينة أوربية، فإنني سأعرف أنها أوربا، وسأعرف كيف أجد حانة ومحطة السكك الحديدية ومطعماً.” هناك شئ من هذا القبيل. فإذا وقفتَ فوق جسر تشارلز في براغ أو أمضيتَ الوقت على شاطئ لا كونتشا في سان سيباستيان أو تلذذتَ بجبنة الماعز الطرية في سوق الفلاحين في ريف فرنسا فإنك تعرف أنك في القارة ذاتها. أما الوقوفُ على شارع مرتفع فوق طريق عام ذي 12 مسار في لوس أنجيليس وانتظارُ الحافلة التي لم يعد لها وجود فهي من الأوقات القليلة في حياتي التي أحسستُ فيها بالحنين إلى الوطن، أوربا.

لكن هذا لا يعني أن أهالي براغ والباسك وبورغوندي على وشك نبذ صِلاتهم المحلية أو الإقليمية أو القومية والبدء بعصر الإنسان الأوربي. فقد كتب “غيرت ماك” في كتابه الكبير “في أوربا” عام 2007 قائلاً: “لا يوجد شعبٌ أوربي.” ثم أضاف: “لا توجد لغةٌ واحدة، بل العشرات من اللغات. شعور الإيطاليين حيال كلمة ‘دولة‘ مختلف تمام الاختلاف عن شعور السويديين. ولا توجد حتى الآن أحزاب سياسية أوربية بحق. أما صحف ومحطات تلفزيون عموم أوربا فما تزال ذات وجود هامشي. وفوق كل هذا وذاك: لا يوجد في أوربا إلا النزر اليسير من الأمور التي تسير باتجاه التجربة التاريخية المشتركة.”

يصل بنا هذا إلى جوهر الموضوع. فقد كتب “ماك” قائلاً” “يحتاج الناس إلى قصص من أجل الوصول إلى ما لا يمكن تفسيره، من أجل الانسجام مع مصيرهم.” ثم أضاف: “الأمة الواحدة، بلغتها وصورها المشتركة، تستطيع دائماً أن تصيغ تلك التجارب الشخصية في قصة كبيرة متماسكة واحدة. غير أن أوربا لا تستطيع فعل ذلك. فلا تزال تفتقر إلى القصة المشتركة خلافاً للولايات المتحدة الأمريكية.”

قد تكون هناك اختلافات هائلة في ما بين الولايات الأمريكية الخمسين، ولكن في نهاية الأمر يشعر الأمريكان بأنهم أمريكان، وهم فخورون بهذا. وقلوبهم تخفق بإيقاع أسرع عندما ينشدون “الراية المرصعة بالنجوم” [النشيد الوطني الأمريكي – المترجم] أو يشاهدون رياضييهم يفوزون بالميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية. والعديد منهم يرغب في الموت من أجل بلادهم في حروب بعيدة عن الوطن. ومعظمهم يعرف دستورهم، أو على الأقل يستحضرونه بصوت مرتفع، وعلى الأقل لديهم فكرة عامة عن الكيفية التي يعمل بها نظامهم السياسي. وهم يتحدثون باللغة ذاتها ويهتمون بالألعاب الرياضية ذاتها.

وَضَعَ الاتحاد الأوربي مؤسسات وقوانين مشتركة، بل حتى عُملة مشتركة. وَضَعَ كافة رموز الدولة القومية، بما فيها جواز سفر ذي لون أحمر داكن يضع عبارة “الاتحاد الأوربي” فوق جنسية حامل الجواز. كما وضع علماً، وإن كان لا يُرفع طوعاً إلا في بطولات “كأس رايدر” للغولف. وحتى وضع نشيداً وطنياً: معزوفة “أغنية للبهجة” من تأليف “بيتهوفن”، على الرغم من أن هذه المعزوفة بدون كلمات وأن معظم الأوربيين لا يعرفون أنها نشيدهم الوطني. غير أن ما يفتقر إليه الاتحاد الأوربي هو الشعب الذي يشترك بثقافة ولغة وقصة مشتركة – أو على الأقل يتمكن من التماهي مع البنية السياسية التي تمت إقامتها باسمه.

قال وزير الخارجية البولندي السابق “برونسلاف غيريميك”: “لدينا أوربا. والآن نحتاج إلى الأوربيين.” والمشكلة هي أنك لا تستطيع أن تصنع الأوربيين مثلما تصنع جنود الألعاب، كما إن فرضَ بنىً سياسية مصطنعة على شعوب مختلفة أشد الاختلاف يندر أن تنتهي بصورة حسنة. الاتحاد الأوربي يختلف عن إمبراطورية النمسا والمجر وعن الامبراطورية العثمانية وعن الاتحاد السوفيتي وعن يوغسلافيا السابقة في أن تلك كلها لم يتم فرضها بالقوة. ولكن هناك بعض أوجه الشبه: الاستياء من النخبة السياسية في العاصمة، والهويات القومية المسحوقة، والرغبة في تقرير المصير في “الأقاليم”.

بهذا نصل إلى صميم مشقات منطقة اليورو. عندما تم تصور العُملة الموحدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، كان هناك اعتقاد ساذج بأن وجود العملة الواحدة سيجعل أمم منطقة اليورو تتقارب بشكلٍ ما. وباختصار، فإن اليورو سيجعل اليونانيين المبذرين أشبه بالألمان الشحيحين. ولكن بدلاً من ذلك، فإن الاقتصادات الضعيفة إتكأت ببساطة على قوة اليورو، وراحت تقترض مبالغ مذهلة من المال بأسعار فائدة منخفضة وذلك لدعم نظم رفاهية غير قابلة للبقاء وأسواق عقارية متضخمة بشكل غريب. أما الإصلاحات اللازمة – مثل تسهيل تشغيل العمال وطردهم، ووضع قيود على الأجور، وتشذيب القطاع العام المنتفخ – فقد وُضعت على الرف ببساطة.

يعد الاتحاد الأوربي وسيلة لمعالجة الفوارق بين البلدان بسلام لكي تحل التسويات التلفيقية في قاعات المؤتمرات الكئيبة في بروكسل محل المناوشات في جبهات القتال. وقد قام بهذه المهمة بشكل جيد. غير أن التوصل إلى تسوية حول تشريعات تعليب المواد الغذائية والقوانين الخاصة بتقوس الخيار ليس كمثل التوصل إلى تسوية حول حماية الحدود والسياسة الدفاعية والضرائب. فالبريطانيون ببساطة لن يقبلوا مستويات الضرائب البلجيكية، والفرنسيون لن يوافقوا أبداً على إيقاف معونات الاتحاد الأوربي الزراعية السخية، ولن يرسل أي بلد أبناءه وبناته للقتال من أجل القيم الأوربية إن كانت تتعارض مع العمل العسكري – مثلما أظهرت ألمانيا في غيابها عن ليبيا.

كتب “غارتون آش” [مؤرخ وكاتب بريطاني – المترجم] قائلاً: “تبقى الصفة الأوربية هوية ثانوية ومقبولة.” وأضاف: “ليس مطلوباً من الأوربيين اليوم أن يموتوا من أجل أوربا. بل أن معظمنا ليس مطلوباً منه أن يعيش من أجل أوربا.” هذا هو جوهر المسألة. لن يكون الأمر ذا أهمية فيما لو بقي الاتحاد الأوربي كتلة تجارية مثل “نافتا” NAFTA [نافتا هي مختصر لاتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية – المترجم] كما كان حاله حتى أوائل تسعينيات القرن العشرين. ولكن حين تفقد الدولة حقها في نقض قوانين تعارضها ويتم اتخاذ القرارات بالأغلبية، فإنها تفقد سلطتها السيادية على جوانب كبيرة من الحياة العامة. حين تتجمع البلدان لخلق عملة مشتركة بقوانين مشتركة، يجب أن تكون هذه البلدان قادرة على الثقة ببعضها البعض من أجل الالتزام بهذه القوانين. وحين تسلّم البلدان السيطرة على حدودها الخارجية لبلدان أخرى، كما فعل الأوربيون في “شينغن”، فيجب أن يشعروا بالثقة من أن تلك البلدان الأخرى قادرة على القيام بالمهمة.

والأمر له أهميته بالنسبة للمواطنين العاديين أيضاً. فالبريطاني الفقير في مجمّع سكني عام يمتلك كل الحق ليسأل عن السبب الذي يجعله يقدم المعونات للمزارعين الفرنسيين الأغنياء من خلال ضرائبه. وإذا تقاعدت عاملة ألمانية بعد خمس سنوات من تقاعد عاملة يونانية، فلتلك الألمانية كل الحق في أن تسأل عن السبب الذي يجعلها تدفع جزءاً من دخلها الذي نالته بمشقة لليونانيين لكي يعمل اليونانيون سنين أقل. ولا شك في أن الاقتراعات تبين أن معظم الألمان يعارضون بشدة إنقاذ اليونان، وهو مزاج يظهر في الصحف القومية. وفي عام 2010 صرخ أحد العناوين الرئيسية في صحيفة “بيلت” الأكثر رواجاً: “يريد اليونانيون المزيد من ملياراتنا!” – وكان ذلك قبل موجة عمليات الإنقاذ المتعاقبة في السنة الماضية.

المشكلة، جزئياً على الأقل، هي أزمة ثقة. فالهولنديون لا يثقون في أن يحرس البلغاريون والرومانيون حدودهم، لذا فقد تم إبعادهم عن إتفاقية الشينغن. والألمان لا يثقون في أن ينفق اليونانيون أموالهم على النحو الصحيح، لذا فإنهم يسلمونها بكميات صغيرة جداً وعلى مراحل. والبولنديون وسكان دول بحر البلطيق لا يثقون في أن يدافع الاتحاد الأوربي عنهم في وجه أي عدوان من الشرق، لذا فإنهم يعتمدون على حلف الناتو [حلف شمال الأطلسي – المترجم] وعلى الأمريكان بدلاً من ذلك. والبريطانيون لا يثقون في أن يفعل الأوربيون أي شئ أفضل مما يستطيعون هم فعله، ربما باستثناء أن يلبسوا بأناقة أكثر منهم وأن يطهوا طعاماً ألذ من طعامهم.

وهي أزمة شرعية أيضاً. فقد جمّع الاتحاد الأوربي سلطات استثنائية، ولكنه فعل ذلك وإلى حد كبير بدون التشاور مع الشعب وبدون العديد من صمامات الأمان الأساسية التي نأخذها كأمر مسلّم به في الديمقراطية. على سبيل المثال، لم يسأل أحد الشعب الألماني فيما إذا كان راغباً في التخلي عن ماركه الألماني المحبوب. فالحكومة اتخذت ذلك القرار بالنيابة عنهم ببساطة، وذلك على أساس أن العملة الواحدة ستكون مقيّدة بقوانين صارمة – والتي مزّقتها باريس وبرلين لاحقاً – وأن الوحدة النقدية لن تؤدي إلى نقل الثروة من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة – والتي أثبتت خطأها.

في معظم الديمقراطيات بإمكانك التصويت ضد الحكومة إن كنتَ غير راغب فيها. ولكن هذا مستحيل في نظام الاتحاد الأوربي. فلا المفوضية الأوربية ولا رئيسها – وهو أقرب ما لدى الاتحاد الأوربي إلى الذراع التنفيذي – يتم انتخابهما بصورة مباشرة. فرئيس المجلس الأوربي، وهو حالياً السياسي البلجيكي “هيرمان فان رومبوي”، لم يتم انتخابه لمنصبه بصورة شعبية. والهيئتان التشريعيتان للاتحاد الأوربي، وهما البرلمان الأوربي ومجلس الاتحاد الأوربي، يتشكلان إلى درجة كبيرة من موظفين منتخبين، غير أن القليل من الأوربيين يهتمون بالتصويت للهيئة الأولى، ومن غير المحتمل أن يكون لتغيير ممثلك الخاص في الهيئة الثانية تأثير كبير على السياسة الجماعية لـ 27 دولة قومية.

وربما أكثر الأمور خطورة هو أن الاتحاد الأوربي قد فشل في إقناع الناخبين بأن له قيمة مضافة في عالم العولمة. ففي استطلاعات الرأي الأخيرة نجد أن أقل من نصف المجيبين عن الأسئلة في التكتل قالوا أن العضوية في الاتحاد أمر حسن. كما إن ثلاثاً وخمسين في المائة من الأوربيين لا يعتقدون أن لأصواتهم تأثيراً في الاتحاد الأوربي، وذلك إستناداً لاستطلاع “يوروباروميتر” للرأي في عام 2009، في حين يرى ثمان وثلاثون في المائة أن لأصواتهم تأثير. وكان ذلك قبل انهيار العام الماضي.

إستجاب الاتحاد الأوربي إلى هذه الموجة من نزعة الشك الأوربية بطلب المزيد من السلطات من أجل السيطرة على الشؤون السياسية والاقتصادية للدول. ففي قمةٍ عُقدت في بروكسل في شهر كانون الأول / ديسمبر وقّع 26 بلداً من الـ 27 بلد الأعضاء في الاتحاد الأوربي (مع ترك بريطانيا في عزلة رائعة) على ميثاق مالي يغطي حالات عجز الدول ويعاقب تلك الدول التي تتجاوز تلك الحالات، ويمنح بروكسل المزيد من السلطات لمحاولة إصلاح الميزانيات القومية وربما يؤدي إلى معدلات ضريبية متناغمة في أنحاء التكتل. ثمة شئ من المنطق هنا. وعلى أي حال فإن بلايا اليورو الحالية يمكن أن تعود إلى القرار المتخذ في “ماسترخت” قبل 20 سنة بُغية إقامة اتحاد نقدي بدون اتحاد مالي أو اقتصادي أو سياسي. وكان هذا يعني أن أعضاء الاتحاد الأوربي قد وافقوا على أسعار فائدةٍ وأهداف تضخمٍ ومستويات دينٍ عامة ولكن لديهم حرية تقرير مقدار الضريبة التي يفرضونها على مواطنيهم وأية دفعاتٍ يقدمونها للرفاهية والتقاعد وأية سياسات تشغيلٍ يجري إتّباعها. وعاجلاً أم آجلاً كانت عيوب النظام ستنكشف وكان رد فعل الأسواق سيظهر كما حدث بشكل قاسٍ. والآن يواجه الاتحاد الأوربي خياراً مروعاً: إما تبنّي إجراءاتٍ تدريجيةٍ لمنع العدوى المالية من الانتشار، أو خلق نوعٍ من الولايات المتحدة الأوربية ذات سياسات مالية واقتصادية مشتركة وحكومة فدرالية بحكم الأمر الواقع في بروكسل.

لا يتمتع أيٌّ من الخيارين بجاذبية متفردة. فالخيار الأول سيؤدي إلى الانهيار المحتمل للعملة الموحدة وإلى تصفية العديد من المصارف الأوربية الكبرى وإلى ركودٍ طويل المدى في أوربا والعالم ككل. أما الخيار الثاني فقد ينقذ اليورو ولكنه سيزيد من بُعد الاتحاد الأوربي عن الشعب الذي ينبغي أن يمثّله. وبالطبع فإن الإنقاذ سيكلّف دافعي الضرائب مئات المليارات من اليورو.

غالباً ما قارن مؤيدو الاتحاد الأوربي هذا النادي بسمك القرش: إذا توقف عن التحرك إلى الأمام فإنه سيغوص. إن هدف “الإتحاد الأوثق” في ما بين الشعوب والدول مدوّن في معاهدة تأسيس الاتحاد الأوربي، وذلك كأنها حتمية تاريخية. فلمدة تزيد على نصف قرن من الزمن، ومع نمو الاتحاد من ست دول مؤسسة إلى 27 دولة، عَهَدَ أعضاء الاتحاد طوعاً بالمزيد من السلطات إلى بروكسل، ولم يتوقف التكتل عن التحرك إلى الأمام أبداً. ويمكن أن تنتهي الأزمة الاقتصادية بتعجيل عملية التكامل هذه، ولكن الثمن سيكون شرعية الاتحاد الأوربي بعيدة المدى.

قال “جو بورغ” حين كان مفوض الاتحاد الأوربي عام 2005: “مع تقدّم الاتحاد الأوربي، يبدو أننا نفقد المواطن الأوربي في مكانٍ ما في الطريق.” فإن كان هذا الكلام صحيحاً قبل سبع سنوات فإنه يكون أكثر صحة اليوم مع حلول التكنوقراط محل السياسيين المنتخَبين في قيادة اليونان وإيطاليا اللتين دمّرتهما الأزمة ومع ذهاب فِرَقٍ من مسؤولي الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي إلى أثينا وروما ومدريد ولشبونة بغرض تملّق السياسيين من أجل إجراء إقتطاعات مؤلمة.

في الماضي، كان زعماء الاتحاد الأوربي نادراً ما يُقلِقون أنفسهم بشأن العمل المُمِل المتمثّل في خَطْبِ ود الرأي العام. لكن هذا لم يعد ينطبق الآن. فإمكانية توسيع الاتحاد تقع في أيدي الناخبين في النمسا وفرنسا اللتين يملي دستوراهما إجراء استفتاء حول هذا الأمر – وهو شرط له فعاليته في إفساد فُرَص تركيا في الانضمام إلى التكتل، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار العداء تجاه أنقرة في كلا البلدين. أما تغيير معاهدة الاتحاد الأوربي لجَعل قوانين منطقة اليورو أكثر صرامة فيمكن أن يؤدي إلى إجراء اقتراع عام في أيرلندا التي رفض ناخبوها مبدئياً محاولتي الاتحاد الأوربي الأخيرتين لتغيير معاهدة الاتحاد.

قبل وقت قصير من إطلاق عملة اليورو المعدنية والورقية في كانون الثاني / يناير 2002، قال “دويزنبيرغ”، رئيس المصرف المركزي الأوربي، متأملاً: “اليورو أكثر كثيراً من مجرد كونه عملة، فهو رمز التكامل الأوربي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.” كان محقاً، ولكن ليس بالطريقة التي ربما كان يأملها. فبعد مرور عشر سنوات تبدو ورطة اليورو المحاصَر بأنها تنطوي على إنهيارٍ أوسع للحلم الأوربي بمستقبل موحد. فبدلاً من أن تقوم العملة بتقريب الاتحاد الأوربي إلى مواطنيه أكثر فأكثر، نجد أنها قد وسّعت الهوّة بين الحكام والمحكومين. وبدلاً من أن يعلن اليورو بداية عهد جديد من الازدهار، نجده قد ألقى ملايين الأوربيين إلى عشرات السنين من الفقر المدقع. وبدلاً من أن يقوم بتوحيد الشعوب الأوربية، نجده على وشك أن يشتت شملها.

عن: مجلة “السياسة الخارجية”
كانون الثاني / يناير 2012
كاتب المقال “غاريث هاردنغ” هو مدير برنامج بروكسل لمدرسة ميزوري للصحافة.
http://www.foreignpolicy.com/articles/2012/01/03/the_myth_of_europe