ترحيل المشروع !!
من الواضح أن أمريكا لا تعتمد على مصالحها فقط في تعاملها مع الأحداث , فهناك محددات كثيرة تطرأ من شأنها ان تجعل البيت الأبيض يغير من مواقفه التي يعلنها أو أحيانا يشوبها شيء من الإبهام ناتج عدم أكتمال الصورة لدى اللاعب الأهم في المعادلة الدولية .
الموقف الأمريكي من الأزمة السورية يخضع لصراع الإيدلوجيا من جهة , ومن جهة أخرى يعتبر عنصراً مهماً من عناصر تكوين الشرق الأوسط الجديد . ولا شك أن مركز القرار الأمريكي أعلن موقفه الداعم للحراك المسلح تحت يافطة (حقوق الأنسان والحرية ) , متجاهلا كل المؤشرات التي تدل على وجود نزاع (طائفي ) مدعوم من دول أصبح لها باع في تغذية أنواع الفتن المذهبية والدينية والعرقية في المنطقة , والأهم من ذلك كله , أن هوية المسلحين في دمشق منبثقة من تنظيم القاعدة وعلى صلة أكيدة بالتنظيم الذي يتصدر قائمة المنظمات الإرهابية لدى أمريكيا , ورغم هذا فأن الوضع لم يتغير بل أصبح هناك تبني معلن ووعود (تحقق بعضها ) بدعم الإرهاب في سوريا بالسلاح , وضمن تلك الأجواء الملتهبة حدثت أزمة جديدة في العراق , متولدة من أزمات سبقتها , والجديد في هذه الأزمة أن الولايات المتحدة لم تتدخل وبقيت متفرجة رغم كونها مرتبطة بأتفاقية أستراتيجية مع العراق !
ما أفرزته الأحداث الاخيرة في سوريا جعل اللاعب الامريكي يتراجع فعلياً عن جديته في أي تغيير مرتقب للنظام , ويبدو ان الرهان ( الروسي – الإيراني – الصيني – واللبناني المتمثل بحزب الله) هو الرابح لدرجة وضع الولايات المتحدة في زاوية المؤتمر الدولي حول الوضع السوري والذي من المؤمل أن يجمع الفرقاء في حزيران المقبل بجنيف , وحلفاء البيت الابيض (قطر , تركيا , والمعارضة المسلحة ) أحسوا بخيبة كبيرة , رغم الأستعدادات التي تبديها بعض الأطراف بتسليح تلك المعارضة , بيد أن الأمريكي قال كلمته فليس بوسعهم إلا أن يصغوا , سيما وأن ذلك الموقف نابع من معطيات ومحددات فرضت نفسها على الواقع وأهمها معركة (القصير) .
المعركة تحسم الخيار !!
من المعلوم ان أمريكيا لم تغير قناعاتها ومشاريعها , لكنها تمتلك مرونة كبيرة في ترحيل المصالح لحين توفر الظروف المناسبة لتطبيقها , وقد تعرّضت الفرصة الأمريكية لإعاقات ومحددات كثيرة جعلت المسار يتغير كثيراً , لعل من أهم تلك المحددات هو تمادي القوى التكفيرية المسلحة بأجرامها الذي ظهر جلياً في التمثيل بالأجساد وظهور (فصيلة أكلة لحوم البشر ) , هذا الأمر أحرج الأمريكان أمام الرأي العام الداخلي والخارجي وأمام منظمات حقوق الانسان , أضافة إلى أن عملية الدعم لتك القوى الظلامية تعد دعماً أمريكياً لتنظيم القاعدة ولو بشكل غير مباشر .
المحدد الثاني والمهم جداً هو : من المعروف أن امريكيا تتعامل مع الأحداث بواقعية وحسب المعادلات المفروضة على الميدان ووفق مبدأ (البقاء للأقوى ) , وكان للميدان كلمة مغايرة لما تشتهيه سفينة الطموح الأمريكي من جانب والإرادة المشتركة ل( تركيا , الكيان الصهيوني , وقطر) .. القوات السورية حققت أنتصارات كبيرة جداً وفي مواقع مهمة الأمر الذي أدى إلى أنهيار كبير في البنية التحتية والبشرية للإرهاب , ومن أبرز الهزائم التي منيت بها قوى المعارضة المسلحة في منطقة ( القصير ) والتي تمثل أهم أوكارهم وأقدمها . كان لهذا الأنجاز في (القصير ) أثر واضح على تراجع العمليات المسلحة لصالح النظام في عموم الجمهورية السورية , حيث أن تلك المنطقة تعتبر عمق المعارضة وحصنها ومركزاً أساسياً لعملياتها المسلحة , أضافة إلى كونها محاذية للحدود اللبنانية من جهة ( البقاع ) الأمر الذي يجعل الخطوط مفتوحة أمام الجيش السوري بينما يشكل محاصرة لقوى المعارضة المسلحة .. الضربة الناجحة التي حققتها القوات السورية شكلت أنطباع لدى الداخل السوري والخارج , أن الحكومة السورية أستدرجت المعارضة إلى فخ المصيدة . التقدم العسكري السوري أثبت قدرة الحكومة العالية على مواصلة التصدي للمسلحين , ما أجبر الولايات المتحدة على محاولة فتح قنوات الأتصال مع الحكومة السورية .
بايدن والعراق !!
الإدارة الأمريكية بدورها سارعت ولوج الأجواء الجديدة , التدخل الأمريكي جاء عبر بوابة الأزمة العراقية التي تجاهلتها الولايات المتحدة بطريقة ملفتة للنظر , ولعل تغييب تلك الأزمة جاء نتيجة لمعرفتها حقيقة مهمة , وهي أن الجزء الأهم فيها هو أمتداد للصراع المحتدم في سوريا .. جاء ذلك بأتصال نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن ) برئيس الوزراء العراقي (نوري المالكي ) لبحث تداعيات الازمة وتأكيده على إلتزام الولايات المتحدة بدعم جهود العراق في محاربة الإرهاب وتأصيل الديمقراطية الفتية في البلد , أي أن أمريكا التي تعرف جيداً بالروابط الوثيقة بين (جبهة النصرة ) وأعتصامات العراق , أعلنت أن الجزء المرتبط بتلك الجبهة ما هو إلا إرهاب , وتأكيداً لهذا الرأي , فأن المعضلة السورية كانت حاضرة في ذلك الأتصال .. لم تمضي ثمانية وأربعون ساعة إلا ووزير الخارجية السوري (وليد المعلم ) في بغداد بزيارة سريعة أعلن خلالها موافقة حكومة بلاده على حضور (جنيف 2) , وهذا يعني أن أسقاط النظام في دمشق غادر سلم الأولويات الأمريكية على الأقل في المستقبل المنظور .
لافروف يحذّر !!
بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط هذه المرة .. وزير الخارجية الروسي (لافروف ) يعقد مؤتمراً صحفياً ويدعو للعمل بنزاهة على التحضير لمؤتمر جنيف , محذراً من أزدواجية الأتحاد الأوربي بالتعامل ونقضه للقوانين , بأشارة إلى موقف دول الأتحاد بعدم تمديد حظر توريد الأسلحة إلى المعارضة بأعتبارها جهة غير شرعية .
وحول النزاع الدائر في سوريا قال ” النزاع السوري يتحول إلى نزاع طائفي ما يهدد بتعميق التناقضات داخل العالم الإسلامي وبالتالي يشكل مخاطر جدية على المجموعات غير المسلمة التي تعيش في هذه المنطقة”، مؤكداً أن حل ذلك النزاع لا يمكن إلا بانعقاد مؤتمر “جنيف 2” للتسوية السلمية. وفي وقت لاحق من نفس اليوم , نائب الرئيس الامريكي (بايدن ) يهاتف الوزير الروسي وتدور مباحثاتهما حول التحضير للمؤتمر الذي من المرجح أن يعقد في منتصف حزيران المقبل. وهذا يؤكد جدية المساعي الأمريكية بأنهاء حالة الأقتتال وبمناغمة واضحة للموقف الروسي . من المؤكد أن هذا قراراً قطعياً , سيما بعد ثبوت محاولات أستخدام الأزمة العراقية بإرباك الوضع الأمني من قبل ( المعارضة السورية ) والتي ضُيّق عليها الخناق فتوجهت إلى الاراضي العراقية .
خلط الأوراق !!
يبدو أن هذه المعطيات ولّدت شعور لدى المسلحين بحسم المعركة لمصلحة النظام وثبات موازين القوى وعدم أمكانية تغيير الخارطة الجديدة , مما دفع الكثير من تلك المجاميع لدخول الأراضي العراقية عن طريق أمتداداتهم الموجودة في الداخل العراقي , بدورها خلايا الإرهاب النائمة في العراق أو تلك التي تقاتل إلى جنب المعارضة في سوريا , دفعت بأتجاه تأزيم الوضع العراقي أمنياً , من خلال القيام بعمليات إرهابية ذات صبغة أنتقامية , وفي محاولة لإشعال فتيل الصراع الطائفي في البلد لعله ينفخ ما خمد من النار السورية وأعادت لظاها السابق , الأمر الذي يبقي سوريا ضمن حسابات الدول الممولة للإرهاب كهدف يجعلها ضعيفة ويترك محور المقاومة منهمك بصراع جانبي يشغله عن جبهة العدو الصهيوني .
المسؤولية التي يتحملها العراق كبيرة جداً, لذا وجب على الكتل والمكونات الرئيسية , سيما القوى السياسية التي بُنيت عليها العملية السياسية , الإصرار على تدارك الوضع وأبعاد شبح الحرب الاهلية عبر خطوات عملية , ولعل الفرصة مواتية جدا من خلال المؤتمر الرمزي بشرط التأسيس لطاولة الحوار وجدية أنهاء جميع الأزمات بأسرع وقت فالفرصة تمر ولا يستثمرها إلا ذو حظٍ عظيم .