منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن، كلما ينشأ حدث ما بين الكويت والعراق يتضمّن فيما يتضمّن تنازلاً عن السيادة العراقية من قبل النظام الذي فرضه المحتل الأمريكي على العراق، يخرج علينا البعض بسرديات مختلفة، لكنها جميعًا لا تستند إلى البُعد الأكاديمي التوثيقي، مبرّرين هذا التنازل بتعليقه على شماعة “خيمة سفوان”، وأن هذا التنازل كان النظام السابق قد وقّع عليه في خيمة سفوان. حتى بات هذا التبرير، الذي يرد على ألسنة الساسة بمختلف مسمّياتهم، هو السمة الغالبة التي يجتمع عليها جميع من جاء مع المحتل على ظهر دبابة، أو من حصل على تزكية من المحتل ليتقلد هذا المنصب أو ذاك.
وبات واضحًا أن هذه الاستراتيجية، التي سأُطلق عليها “استراتيجية خيمة سفوان”، قد أصبحت الصيغة العامة لتسويق تنازل العراق عن مناطق سيادية، وكان آخرها ما شاهدناه في تنازل العراق عن خور عبد الله إلى الجانب الكويتي، أو ما يسوقه البعض تجميلًا باسم “اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية بين العراق والكويت في خور عبد الله”. وهي اتفاقية مذلة، عُقدت بواسطة رشاوى دُفعت لمسؤولين عراقيين في مناصب سيادية في الدولة العراقية.
لكننا لن نسهب هنا في الحديث عن خور عبد الله، إذ خُصص له سلسلة مقالات لا تزال تُنشر تباعًا في صحف ومراكز دراسات مختلفة. ما يهمنا في هذا المقام هو: ما الذي حدث فعليًا في خيمة سفوان؟ وهل العراق وقّع في هذه الخيمة على تنازلات مؤلمة لصالح الجانب الكويتي؟ أم أن كل ما يُردّد عن تنازل العراق عن السيادة أو الأراضي لا يعدو كونه كلامًا بلا قيمة توثيقية، وتبريرًا واهنًا لحالة من الرضوخ والخنوع واستلام الرشاوى، مستغلين جهل الشارع العراقي بما جرى فعلًا في خيمة سفوان؟
ولأننا أكاديميون، فإننا نستخلص الحقائق من وثائق معتمدة أو مصادر أخرى موثوقة. وهنا، سنعتمد في تحليلنا على ثلاثة كتب صادرة تتضمن شرحًا مفصلًا لما دار في خيمة سفوان، كتبها أشخاص كانوا المحور الرئيس في الاجتماع ويمثلون الأطراف المجتمعة في خيمة سفوان، وهي:
كتاب “الأمر لا يحتاج إلى بطل”، صدر عام 1992، من تأليف الجنرال نورمان شوارزكوف، قائد قوات التحالف في حرب الخليج.
كتاب “مقاتل من الصحراء”، صدر عام 1995، من تأليف الأمير الفريق خالد بن سلطان بن عبد العزيز، قائد القوات العربية المشتركة.
كتاب “أم المعارك… الحقيقة على الأرض”، صدر عام 2016، من تأليف الفريق الركن صلاح عبود، قائد الفيلق الثالث وقتها.
ما يميز هذه الكتب أن مؤلفيها الثلاثة كانوا متواجدين في خيمة سفوان وشاركوا فعليًا في الاجتماع الذي عُقد هناك. لذا، فإن ما ورد فيها يتمتع بدرجة عالية من المصداقية والدقة التوثيقية، خصوصًا وأن سردياتهم متوافقة تمامًا حول ما جرى، مما يمنحها قيمة توثيقية كبيرة، ويجعلها مصادر أكاديمية معتمدة في هذه الجزئية.
وبناءً على هذه الكتب الثلاثة، يمكننا أن نطرح السؤال بدقة: ماذا جرى في خيمة سفوان؟
نعلم أن قرار وقف إطلاق النار من الجانب الأمريكي صدر ليلة الجمعة 28 شباط 1991، ليبدأ سريانه اعتبارًا من الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة 1/3/1991 بتوقيت بغداد. وقد وافق الجانب العراقي على القرار الصادر من الجانب الأمريكي، بوساطة روسية. وكان العراق آنذاك في أمسّ الحاجة لوقف إطلاق النار، بعد الخسائر الجسيمة التي تكبّدها نتيجة التفوق الجوي الأمريكي. وهذه حقائق لا يمكن إنكارها أو تزييفها.
وقد تطلب الأمر عقد اجتماع على مستوى القيادات العسكرية للتوافق على ترتيبات وقف إطلاق النار وفصل القوات، وكان ذلك بناءً على اقتراح الوسيط الروسي، أن يُعقد الاجتماع في نقطة حدودية عراقية في مدرج طائرات جبل سنام في ناحية سفوان التابعة لقضاء الزبير. وتم تحديد موعد الاجتماع في الساعة 11:30 من صباح يوم الأحد الموافق 3/3/1991 .
الوفد العراقي تكوّن من:
الفريق الركن سلطان هاشم، معاون رئيس الأركان للعمليات.
اللواء الركن صلاح عبود، قائد الفيلق الثالث.
العميد البحري نوفل عبد الحافظ، كمترجم.
أما الوفد الآخر فتكوّن من:
الجنرال الأمريكي نورمان شوارزكوف، قائد قوات التحالف.
الأمير الفريق خالد بن سلطان بن عبد العزيز، قائد القوات العربية المشتركة.
مترجم ومجموعة من المرافقين.
بدأ الحديث الجنرال شوارزكوف باستعراض النقاط التي سيجري بحثها، والمكلّف بها من قبل حكومته. ورد عليه الفريق سلطان هاشم بالتأكيد على أنه مفوّض من القيادة العراقية لمناقشة كل النقاط المتفق عليها، والتي أُرسلت عن طريق سفير الاتحاد السوفيتي في بغداد، بالإضافة إلى أي أمور أخرى قد تستجد.
كان الاجتماع عسكريًا بامتياز، تم فيه ترتيب الأوضاع لما بعد وقف إطلاق النار، وتم الاتفاق على ما يلي:
إطلاق سراح الأسرى من كلا الطرفين.
تبادل الجثامين.
تسليم العراق خرائط حقول الألغام البرية والبحرية.
تعيين مواقع الأسلحة الكيميائية داخل الأراضي الكويتية (وقد نفى العراق وجودها أصلًا).
انسحاب كلا الطرفين داخل حدودهما مسافة كيلومتر واحد لفصل القوات.
نقاط لوجستية أخرى لتسهيل حركة القطعات العسكرية أثناء الانسحاب.
السماح باستخدام العراق للطائرات المروحية (السمتية) لأغراض نقل الجرحى والمسؤولين.
الاجتماع كان سريعًا نسبيًا، واستغرق حوالي ساعة واحدة فقط. وقد تم تسجيله صوتيًا، وتسلم كل من الوفدين العراقي والأمريكي نسخة من التسجيل. ولم يتضمّن الاجتماع كتابة محضر أو توقيع العراق على أية وثيقة تخص مسألة الحدود أو السيادة. وقد نشرت الحكومة الكويتية بعد ذلك التسجيل.
وعند نهاية الاجتماع، تبادل رئيسا الوفدين التحية العسكرية وتصافحا بحرارة، وصافح شوارزكوف الفريق صلاح قائلًا له:
“أهنئك… قدت معارك ناجحة، لكن سوء الحظ لم يوفر لك الإمكانيات لتربحها.”
هذا بالضبط ما دار في خيمة سفوان، بالاستناد إلى الكتب الثلاثة المذكورة أعلاه. ولا يزال بعض من حضروا ذلك الاجتماع على قيد الحياة حتى اليوم.
لقد غابت الحقيقة عن معظم أبناء الشعب العراقي بشأن ما حصل فعلًا في خيمة سفوان، مما أتاح للبعض فرصة لاختلاق قصص وسرديات ملفقة عن تنازلات لم تحدث، مستغلين جهل الكثيرين بالوقائع. والأغرب أن هذه السرديات تُكرّر على ألسنة بعض النواب دون التأكد من صحتها، رغم أن بمقدورهم مراجعة وزارتي الخارجية أو الدفاع للحصول على أي وثيقة رسمية تثبت هذه الادعاءات، إن وُجدت.
هذه هي القصة الكاملة لما جرى في خيمة سفوان.
كانت محادثات شفوية لترتيب فصل القوات، دون محضر مكتوب أو توقيع على أية تنازلات.
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نردد قول الشاعر:
“إذا قالت حذامِ فصدقوها… فإن القول ما قالت حذامِ.”
إن محاولات التوظيف السياسي لما جرى في خيمة سفوان، لم تكن يومًا وليدة حرص على توثيق الحقيقة، بل جاءت – ولا تزال – كأداة لتبرير مسارٍ طويل من التنازلات، يُخفي خلفه واقعًا مريرًا من الارتهان السياسي والتبعية التامة لإرادة المحتل الأمريكي. لقد جُرِّدت الدولة من قرارها السيادي، وتحولت مؤسساتها إلى هياكل تُدار عن بُعد، لا تملك من أمرها إلا ما يُسمح لها به، تتحرك ضمن حدود مرسومة لا تتجاوزها، كقطعٍ صامتة على رقعة شطرنج رسمها الغريب، وأدارها لمصالحه.
ولم يقف هذا الارتهان عند حدود القرار السياسي، بل تجاوزه إلى توظيف إعلامي رث، عبر قنوات خاوية من المشروع والرؤية، مهمّتها الوحيدة تلميع وجوه سياسية فقدت مشروعيتها، وارتبط اسمها في الوعي الشعبي بمراحل الهوان والتراجع. إنها محاولة يائسة لإعادة تشكيل صورة ساسةٍ علِق بهم غبار التبعية، وقد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا واجهات بلا إرادة، بينما القرار الحقيقي يصدر من داخل مجمّع محصّن يُسمّيه البعض سفارة، ويسمّيه الشعب بما هو أدق: مركز السيطرة والتحكّم الأمريكي في قلب بغداد، منذ أن دُفع الوطن إلى أتون الاحتلال وحتى يومنا هذا.