22 ديسمبر، 2024 4:01 ص
عبد الله شاب وسيم وهو إبن صديقي المقرب نجم. شاءت الأقدار في العراق أن يكنى من إسمه نجم بأبي عبد الله ويكنى عبد الله بأبي نجم. كما هو الحال مع إسم محمد الذي يطلق عليه أبا أحمد وأحمد هو أبو شهاب وعباس هو أبو خضير والعكس صحيح.

بحسب هذه القاعدة أطلق صديقي نجم تسمية عبد الله على ولده البكر.

عبد الله له طموح في الحياة كما هو لكل شاب. طموحه غريبة وقد احتار به والده نجم وهو يحاول إقناعه للعدول عن هدفه هذا. عبد الله يحلم أن يكون عاملاً في مطعم. الأمر غير معتاد إلاّ أن الفكرة تعشعش في مخيلة عبد الله وكل محاولات والده بائت بالفشل.

ذات يوم وأنا في زيارة إلى بيتهم، طلبت من عبد الله الجلوس معي لأساله عن سبب شغفه للعمل في المطاعم. أجاب وهو منشرح الأسارير بأن المطاعم مكان تتوفر فيه الأطعمة والعمل في المطعم يجعل كل شيء في متناول يديه. عبد الله يقول بأن العامل في المطعم يأكل ما يشاء وكيفما يشاء ومتى ما يشاء دون أن يدفع درهماً واحداً.

حاولت جاهداً أن أفهم عبد الله أن العمل في المطعم مجهد ويكون لساعات طويلة ويجب ترضية الضيوف جميعاً والسير بحسب مزاجهم ومن جهة أخرى تقبل الأوامر من صاحب المطعم. لكن يبدو أن رائحة الأطعمة الشهية قد نالت من عبد الله وجعلته أسير اللذات المتعددة فهو لا يقتنع باي شيءٍ من الذي أقوله أو قاله ابيه من قبلي.

لم يستطع عبد الله تحمل المزيد أمام رغبته، حتى ترك الدراسة والتحق للعمل في مطعم أحد أصدقاء والده. ذهبنا إليه أنا وأبيه لنشاهده في يومه الأول لعمله كعامل مطعم. كان يتنقل بين الموائد يخدم هنا وهناك والإبتسامة لا تفارق وجنتيه. كيف لا وقد تحققت حلمه في أن يكون عامل مطعم وبين الأطعمة الشهية والروائح الزكية المنبعثة من القدور وقد ضحى من أجل ذلك بدراسته ومستقبله العلمي والأطعمة الأن في متناول يده. استمر عبد الله في العمل وقد ذهبنا إليه في الأسبوع الثاني من عمله. لم يكن منبسطاً كما كان في أيامه الأولى وبدت عليه شيئاً من التعب. أجده بائساً لا يعمل بالطاقة الإيجابية التي كان عليها في البدء. على الأغلب إنه غير متعود على التعب ومن شأن أن يعتاد ذلك بعد حين.

أمرُ عبد الله شغل بالي كثيراً ولم يكن لي أن أتحدث إليه وهو في العمل، حتى قصدته في البيت. سألته:

–        ما بك يا عبد الله؟

بعد دقائق سكوت والحيرة واضحة في مقلتيه قال:

–        لم يكن الأمر كما تصورت. ولم يكن العمل في المطعم يستحق أن أضحي بدراستي من أجله.

جواب يحرق القلب. فما الذي جعل عبد الله أن يكون يائساً كل هذا؟ سألته:

–        ألم تكن هذه رغبتك منذ نعومة أظافرك؟ ألم يقل لك والدك بأن ساعات العمل ستكون طويلة ولن تتحملها؟

قال بصوت باهت:

–        لم تكن الأطعمة متاحة لي ولم يكن لي حق تناول أي شيء متى وأين وكيفما شئت كما كنت أتصور. كل شيء مرتبط برضى صاحب المطعم وليس لي حق تناول إلاّ وجبةً واحدة مع لتر واحدٍ من الماء طوال ساعات عملي. الأمر صعب جداً أن أقدم للزبائن ما لذ وطاب من الأطعمة الشهية وليس لي حتى تذوقها.  

عبدالله هذا كان نادماً بعد أن اهتزت أركانه وقد هدر سني حياته في تحقيق أمنية لم تكن واقعية.

الحقيقة مثال عبد الله هذا ليس محصوراً في عبد الله فقط، بل من الممكن أن نقيس عليه حلمنا كأمة. حيث كنا نحلم بالتحرر من الحكم الإستبدادي الظالم وكنا على أمل أن تشرق الشمس ونتمتع تحتها جميعاً. نأكل ما نريد ونشتري ما نريد ونركب السيارات الفارهة كما نريد. إلاّ أن الواقع كان غير ذلك تماماً. حيث أصبحنا نلهث خلف لقمة العيش والشباب يبحثون عن عمل يؤمن لهم قوتهم ومستقبلهم. بقينا نتطلع إلى المرفهين المستفيدين من العهد الجديد الذين يستحوذون على المال ومصادر الطاقة كما كنا بالسابق تماماً. صعقنا بأن أغلبهم ممن كانوا متربعين على عرش الإمتيازات ومن المقربين والموالين للسلطان في الأمس ودفة الأمور بيدهم اليوم. الأحلام التي خذلت عبدالله هي نفسها التي خذلتنا وخذلت أمة برمتها.